اختلف العلماء فى ليلة القدر هل هى ليلة واحدة فى الدهر كله أم هى متكررة فى كل سنة، والحق أنها ليلة مخصوصة شرفها الله بنزول القرآن فيها كما شرف بعض الأمكنة وبعض الليالى ، كبيت الله الحرام وبيت المقدس وليلة الجمعة وشهر رمضان ، ولا يقال : لماذا خص بعض المكان والزمان بالتشريف ؛ فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كما أنه فضَّل بعض الأناسى على غيرهم و، ذلك لغير علة بل بمحض المنة والفضل .
وجعلها متكررة رحمة بالأمة المحمدية، وذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتذاكرون فى أخبار الغابرين من الأمم، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلا من بنى إسرائيل حمل السلاح على عاتقه فى سبيل الله ألف شهر فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمته. وقال: (يا رب جعلت أمتى أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا) ، وحزن الصحابة لذلك لما رأوا أن الرجل يعيش منهم خمسين أو ستين سنة يضيع أكثر من ثلاثة أرباعها، فإنهم يصرفون من اليوم ثمان ساعات نوما وساعتين بين أكل وشرب وقضاء الحاجة وسبع ساعات على الأقل فى الاشتغال بالدنيا، وساعتين بين لهو ولعب، فلم يبق إلا أوقات الصلاة وليتها تخلص لهم فإن الشيطان لا تحلو له الوسوسة فى وقت ما كما تحلو فى الصلاة، فيشتغل قلب المصلى بالدنيا والخوف من الناس وحب الشهوات والملذات من النساء، حتى إذا قال : الله أكبر ؛ قالت الملائكة : كذبت فإن النقود فى قلبك أكبر من الله أو النساء أو الأملاك أو الجنة أو مقعد الصدق - إذا كان مشتغلا بها أو بغيرها - ، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذهب الله حزنه لأنه هو الذى كرمه الله بقوله تعالى : (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ، فنزل جبريل وقال له : (إن الله يبشرك بليلة هى خير من ألف شهر، صرفها صاحبها فى جهاد فى سبيله، ليس فيها ليلة القدر).
فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ هى خصوصية للأمة المحمدية
فصار الرجل إذا تساهل فى السنة كلها، ثم جاء رمضان فصام وقام ليلة القدر بصلاة العشاء فى جماعة، والفجر فى جماعة، كتب له فى هذه الليلة ثواب ألف شهر من الأمم الماضية، صرفت فى الطاعات، فإذا عاش خمسين سنة فكأنما عبد الله أكثر من أربعة آلاف سنة.
وورد فى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليخبر الناس بليلة القدر، فتلاحى رجلان، فرفعت. وأمرهم بالتماسها فى العشر الأواخر من رمضان فإنها أخفيت فيها، ليقوم الناس العشر ليالى ليعظم أجرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وعسى أن يكون خيرا لكم) ومن ذلك الدعاء فيها مستجاب وتعيينها مضرة، فقد يدعو الرجل على عدوه فيها فيستجاب له، وكم تفضل الله بنعمه على عباد خفيت عليهم فى الدنيا فينالون أجرهم يوم القيامة، كما ستر أكثر الخيرات ليلة القدر لأنه جعل فيها من الأسرار مالا يكاشف به إلا عباده الذين زكى نفوسهم وجملها حتى صارت بيتا للرب عز وجل واصطفاهم، وإن كان كاشف الناس ببعض أسرارها كنزول الملائكة والروح وكونها أمن وسلام.
وأخفى أسرار ا كثيرة أودعها قلوب أخصائه من طريق الإلهام ، فيتجلى فيها عليهم ويرفع الحجب والأستار ، ويشهدهم أنواره ووجهه الجميل، مما لا تحوم حول حماه العقول ولا الأوهام، وترتد بالحيرة على سور أنواره البصائر والأبصار. وإن فى إخفاء تلك الأسرار من الحكم ما لا يحصى له مقدار ، وكم وهب الله هبة حجبها عن أناس ، حتى إذا كشف الحجاب يوم القيامة لشهدوا عظم رحمة الله بهم ونعمائه من حيث لا يشعرون.
===================
من كتاب " صيام أهل المدينة المنورة "
للإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم