لم يقف دور الإمام أبى العزائم العزائم ضد الاستعمار عند وطنه ومسقط رأسه ، بل إنه قد حول إيمانه ورسوخ عقيدته فى أن الإسلام نسب يوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الإسلام وطن والمسلمون جميعاَ أهله ، وأن الإسلام دين الله وفطرته التى فطر الناس عليها ، إلى عمل حقيقى أثر فى إثراء العزيمة والتيار الجارف فى مناهضة قوى الاستعمار عند شعوب وزعماء الدول الإسلامية ، ونستعرض هنا تلك الثورات التى أثر فيها رأى الإمام المجدد وما استطاع أن يقدمه من فكر وعمل [1] :
ثورة الهند :
فى عام 1908 م قامت ثورة عارمة فى الهند واتحدت نحو هدف واحد هو التخلص من سيطرة بريطانيا وحكم الهند نفسه بنفسه ، وكان حزب المؤتمر الذى تأسس عام 1887 م والذى ضم عناصر المثقفين والقادة السياسيين يضم كثيراَ من رجالات الإسلام الهنود أمثال محمد على جناح [2] ومحمد إقبال [3] وشوكت على والشيخ قرشى وغيرهم ، ولما كان المسلمون أقلية بالنسبة للملايين من الهندوسيين ، فقد رؤى تكوين حزب لهم فكان (( حزب الرابطة الإسلامية )) عام 1906 م والذى يعتبر مولد الباكستان التى قامت باسم تسعين مليوناَ من المسلمين على أساس العقيدة والحضارة الإسلامية والمثل الأخلاقية العليا ولم تقم على أساس من العنصر ، وقد نص دستور الباكستان على أنها جمهورية إسلامية تعيش بحسب تعاليم الدين الإسلامى وعلى هديه ، وتعمل فى الميدان الخارجى على ضوء صلتها بالدول الإسلامية ، ولقد كان دور الإمام أبى العزائم فى إنشاء دولة الباكستان من أوضح الأدوار فيها ، فقد شهدت داره منذ بداية الحرب العالمية الأولى اجتماع زعماء الحركة الباكستانية إلى آخر أيام حياته ، وكان من بينهم من تولى الحكم بعد الاستقلال فى الهند عام 1366 هـ (( 1947 م )) وعلى رأسهم ظفر الله خان وزير خارجية باكستان ، وعبد الستار سيت سفير باكستان فى مصر ، وقد ظلا على وفائهما بعد وفاته كما كانا له حال حياته ، يزورون ضريحه ويجتمعون بأبنائه ويتدارسون تراثه .
الثورة التركية :
فى عام 1908 م حدثت هوجة الاتحاديين فى تركيا وتكونت (( جمعية الاتحاد والترقى )) إلى جانب (( جمعية تركيا الفتاة )) ووحدتا جهودهما ضد السلطان عبد الحميد [4] ، فأعاد الدستور بعد أن ظل معطلاَ ربع قرن ، ولكنه كحركة مضادة كون جمعية باسم (( الجمعية المحمدية )) وأجبر علماء الدين فى مختلف الولايات على عضويتها وتزعم الجمعية الشيخ أبو الهدى الصيادى [5] داهية السلطنة .
وظن أبو الهدى أنه يستطيع أن يضم إليه الإمام أبا العزائم فأرسل إليه أحد أتباعه متخفياَ فى زى الدراويش ، ولما اطمأن بخلوته بالإمام سلمه رسالة أبى الهدى طالباَ منه الرد كتابة ، ولكن الإمام استطاع أن يرده بكلمات شفوية لأنه لم يكن يرتاح لسياسة أبى الهدى القائمة على التفرقة وإثارة العناصر والتجسس ، وكلها أمور على نقيض سياسة الإمام أبى العزائم التى تقوم أساساَ على قول الحق تبارك وتعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاَ ولا تفرقوا .. ) [6] .وقد قام الإمام بإرسال الرسالة تلو لأخرى إلى كل من زعماء الاتحاديين وزعماء حزب تركيا الفتاة وإلى السلطان ورجال الحاشية بالأستانة محذراَ من التفرقة ومن تشتت الكلمة فى الوقت الذى تتربص فيه أوربا بدولة الخلافة وبالعالم الإسلامى والعربى وتنتظر الساعة التى تنقض فيها على الشرق انقضاض الوحوش ، ويستثير حماسة السلطان عبد الحميد مذكراَ إياه بموقفه الصلب فى وجه الصهيونية العالمية ممثلة فى زعيمها هرتزل [7] عندما أراد أن ينتزع من السلطان أمراَ بإيجاد وطن قومى قومى لليهود فى فلسطين ، وينبهه فى الوقت نفسه إلى أن الصهيونية لن تسكت على هذه الإهانة وأنها لابد مدبرة أمراَ والله عز وجل يقول : (خذوا حذركم ) [8]، غير أن السلطان عبد الحميد لم يلبث إلا قليلاَ حتى أقصى عن الخلافة عام 1909 م وكانت تلك بداية لنهاية الخلافة الإسلامية وما أعقبها من أحداث .
الثورة التونسية :
وفى عام 1908 م ثار الزعيم التونسى على باش حمية وزميله عبد العزيز الثعالبى [9] ، وكانوا ممن حضروا على الشيخ محمد عبده فى مصر مجاورين بالأزهر مع الإمام أبى العزائم ، وكانت ثورتهم تتلخص فى تكوين حزب لتنوير الشعب وتعريفه بحقوقه وواجباته ، فتألف حزب تونس الفتاة ، وكان لهذا الحزب دوره مع الإمام حيث توحدت جهوده فى تكوين جماعة الخلافة الإسلامية فى تونس عام 1924 م ، وكان الثعالبى يؤمن باتجاهات الإمام أبى العزائم ، تلك الاتجاهات التى تعارض الاحتلال الأوربى وترى فيه عدواناَ صليبياَ ومظهراَ من مظاهر الاضطهادات الدينية التى شهدتها أوروبا فى القرون الوسطى ، وقد أزعجت حركة الحزب المستعمرين الفرنسيين وسببت لهم الكثير من الخسائر والمتاعب ، فلجأت إلى حل الحزب قبيل الحرب العالمية الأولى وشتتت شمل القائمين عليه بن معتقل ومنفى فلجأوا إلى مصر ، واستضاف الإمام أبو العزائم الثعالبى وباش حمية إلى أن حله الفرنسيون عام 1933 م.
الثورة المغربية :
وفى مراكش حاولت فرنسا إخماد ثورة محمد بن الريسون [10] ضد السلطان عبد العزيز بن
مولاى الحسن [11] عام 1908 م ، فثار الشعب ، وتولى مكانه مولاى عبد الحفيظ [12] ففقد ولاية شعبه . وهاجم الثوار العاصمة فاس فى مارس 1911 م فاستنجد بالفرنسيين الذين احتلوا فاس بينما احتلت أسبانيا العرائس ، وقبل السلطان الحماية فى 30 مارس 1912 ، وقامت الثورة فأجبرت فرنسا السلطان على التنازل عن عرشه لابنه يوسف الذى استسلم للفرنسين ، وفى نفس العام فى 27 نوفمبر 1912 اتفقت فرنسا وأسبانيا على تقسيم إلى مناطق ثلاث :
1-منطقة النفوذ الفرنسى وعاصمتها الرباط .
2- منطقة النفوذ الأسبانى (( الريف )) وعاصمتها تطوان .
3- منطقة طنجا وتبقى دولية .
ولم يستسلم الشعب رغم الكوارث التى حلت به ، وكان الإمام يوالى ثورة عبد الكريم الخطابى [13] ويوليها كل اهتمامه لمعرفته بما عليه قلب ذلك الزعيم الإسلامى من إخلاص وصدق وشجاعة وفضائل إسلامية قل أن توجد فى عصره ، وقد جعل الإمام من بيته مثابة للاجئين من الريف ، كما جعل من مجلاته والصحافة الموالية له ميداناَ ينشر فيه انتصارات الثورة ويدعو لتأييدها وتشجيعها ، وقد لاقت دعوته رواجاَ وتأييداَ منقطعى النظير فسارت الثورة من نصر إلى نصر ، انتصر عبد الكريم فى الريف عام 1920 م ((1339هـ)) انتصاراَ أذهل العالم كله ، وألف حكومة إسلامية وطنية ، وعاودت أسبانيا مهاجمته عام 1923م ((1341هـ)) فكانت هزيمتها حديث العالم كله إلى أن تدخلت فرنسا إلى جوارها فصمد الأمير حتى عام 1926 م ، وتولى القيادة بعده أخوه الأمير محمد فقاتل قتال الأبطال ولفت إليه أنظار العالم بما أبداه من شجاعة وحسن بلاء ودماثة خلق تجلى فى معاملته للأسرى من الأعداء ، ثم اضطر بفعل الخيانة إلى الاستسلام ، ونفته فرنسا إلى جزيرة (( رى يونيون )) مع أسرته .
وأثناء الحرب الفرنسية الأسبانية المغربية ، أرسل الإمام عشرين احتجاجاَ إلى كبريات الدول تنافح فيها عن المجاهد الكبير عبد الكريم ، هذا لإنجلترا لفرنسا ، وذاك لألمانيا وإيطاليا ، يحذرهم سوء المغبة وينذرهم عاقبة هذه الغضبة ، وما كان ينام فى تلك الأيام إلا كنائم على خرط القتاد [14] يناجى ربه ويسأل لأوليائه النصرة على أعدائه .. ولله فى ذلك شئون .
الثورة الليبية :
وفى عام 1911 م كانت الثورة ف طرابلس تقض مضاجع العالم الغربى ، فقد أمكن لمائة وخمسين من جنود طرابلس بقيادة الشريف السنوسى [15] من إبادة ثلاثة آلاف جندى إيطالى قبل أن تحدهم مدافع الإيطاليين ، وانهال التأييد بالمال والسلاح والمتطوعين على ليبيا ، وأكدت صحافة الإمام الناشئة أن دور المسلم مهما تضاءل فهو مؤيد بالحق ، وتوالت الهزائم على إيطاليا والكوارث على الثوار ، وبرزت حركة شعوبية بمصر مؤداها أن مصر للمصريين وأنه لا داعى لإسال الأموال والأنفس إلى ليبيا لأن تركيا تخلت عنها وإيطاليا تؤازرها الدول الأوربية القوية ، ومن ثم فلابد لإيطاليا من احتلال ليبيا ومن واجب العرب والمسلمين أن يوفروا أموالهم وأرواحهم ، وكان يتزعم هذه الحركة ((.....)) وحزب أبناء الأسر فى مصر وبعض المثقفين ، وقد تصدى لهم الإمام بمقالات كثيرة واستمرت حملته إلى ما بعد الحرب حيث استؤنف القتال بين الثوار وإيطاليا ، ولجأ السيد أحمد الشريف السنوسى إلى تركيا ثم إلى مصر وكان ملازماَ ومن معه من الثوار لدار الإمام ، حيث كانت تنشر مجلاته أبناء الثورة وترد على مزاعم المستعمرين وترسل الاحتجاجات إلى ملك إيطاليا والبابا وكبار الساسة الأجانب وقناصل الدول [16] .
يقظة شباب أندونيسيا :
وفى عام 1911 م تنبه الشباب الوطنى فى أندونيسيا إلى حقوقه ورغب فى رفع مستوى الشعب ثقافياَ واجتماعياَ ودينياَ ، فتأسست جمعية (( نودى أوتومو)) أى النزعة إلى الفضيلة ، ثم خطوا خطوة اقتصادية هامة فى محاربة المستعمر فتأسست شركة (( دامانج إسلام )) أى الشركة التجارية الإسلامية التى تحولت فيها بعد إلى حزب إسلامى يستهدف غايات إسلامية فى إطار تعاليم الإسلام ، وفى عام 1912 تأسست الجمعية المحمدية بمدينة (( جوجاكرتا)) واتصل الزعماء وعلى رأسهم محمد حتى وشهرير عام 1912 م فى موسم الحج بالإمام ، وكان لهذا اللقاء أثره ، فما كادوا يعودون إلى بلادهم حتى كونوا جمعية دينية إسلامية باسم ((جمعية نهضة العلماء )) وقد قامت هذه الجمعية على الأسس التى وضعها الإمام أبو العزائم ليقظة الشعوب الإسلامية ووسائل استعادة مجدها [17] ، ورأت الجمعية أن توسع نشاطها فأنشأت فروعاَ فى جميع أنحاء البلاد وكادت تنجح فى أعقاب الحرب العالمية الأولى فى القيام بحركة للاستقلال ، غير أن الدول الاستعمارية هبت لنجدة هولندا ، وقد وقد اشتركت الجمعية وزعماؤها مع الإمام أبى العزائم فى العمل على إحياء الخلافة الإسلامية، وكان لوفودها فى المؤتمر الإسلامى بمكة شأن عظيم معه ، كما زعماء أندونيسيا .. أحمد سوكارنو [18] وزملاؤه من أعضاء الحزب الوطنى على صلة شخصية دائمة معه .
الجزائر :
سافر الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائرى إلى مؤتمر الصلح بباريس عام 1918 م ليعلن وجوب الإصلاح فى الجزائر والمساواة بالفرنسيين وإلغاء القوانين الاستثنائية ، فنفته الحكومة الفرنسية ، وفى باريس كون (( مصالح الحاج )) جمعية (( نجم شمال أفريقيا )) عام 1924 م ، وتكونت فى الجزائر جمعية باسم (( نادى الترقى )) ، وكان السيد أحمد توفيق المدنى زميل الإمام أبى العزائم فى الأزهر الشريف ، من أبرز العلماء فيها وعلى اتصال وثيق به فى مصر ، فتكونت جمعية المسلمين الجزائريين التى قاومت البدع والضلالات وألاعيب المبشرين والمستعمرين ، وعملت على إحياء الثقافة الدينية الصحيحة ، وكان أثر هذه القوة الدينية واضحاَ فى الأراضى الجزائرية ، ثم تقدمت الجمعية ببرنامج حافل مؤاده أن الجزائر بلادنا والعربية لغتنا والإسلام ديننا ، وطالبت بإعادة الأراضى المغتصبة وبانسحاب الجيوش المحتلة ، ولم تخمد هذه الصيحة حتى انتقال الإمام أبى العزائم عام 1937 م ، وكان يغذيها دائماَ بعلومه ومؤلفاته ، واتحدت (( جماعة الخلافة الإسلامية )) بمصر بجمعية ((علماء الجزائر )) فتوحدت جهودهما كهيئة واحدة حال انعقاد المؤتمر الإسلامى للخلافة فى يونيو 1926 بمكة المكرمة .
الثورة السورية :
ولم يكن الشام ليسكت على الاحتلال ، فمنذ عام 1918 م وبعد انضمام العرب إلى الإنجليز بقيادة الشريف حسين الذى دخل القدس بجيشه المهلهل فى ذيول خيل الجنرال اللنبى قائد جيوش الحلفاء ، ثار الشعب فى الشام ، فرفض (( يوسف العظمة )) الإنذا الذى وجهه إليه الجنرال الفرنسى غوردوا عام 1920 م ، وقاد يوسف العظمة وزير الحربية المعركة فاستشهد ، وانتهت المعركة بتثبيت أقدام الاحتلال وتمزيق سوريا إلى أقاليم ، وكانت بعض ثورات تنبعث لتنتهى ، إلى أن كانت ثورة 1925 م بقيادة سلطان باشا الأطرش ، فدوخ فيها جيوش فرنسا ونالت دمشق فيها تخريباَ لا مثيل له هز دويه العالم الإسلامى كله ، وخمدت الثورة إلى أن اندلعت من جديد عندما أعلن ثوار فلسطين ثورتهم الكبرى على الصهيونية عام 1936 م ، وكان الإمام أبو العزائم يبعث لثوار الشام ويقابلهم فى داره وفى مواسم الحج ، وينبههم إلى مواطن الضعف بينهم ، وإلى الشام ويقابلهم فى داره وفى مواسم الحج ، وينبههم إلى مواطن الضعف بينهم ، وإلى من يتجسسون عليهم ويتظاهرون بتأييدهم ، فكان كأنما هو معهم فى أرض المعركة .
نص خطاب احتجاج أرسله الإمام لمسيو بريان [19] فى 31 مايو 1925 م وإلى سفارات
الغرب عامة [20] حول نفى سمو الأمير محمد بن عبد الكريم .
الشرق حى ينتهز – يا غرب أقصر
<< حكمت أوربا على دولها بالانحطاط عن أدنى مراتب الإنسانية ، وإن كان من يجهل الحقيقة الإنسانية وما ترقى إليه من الكمالات يتغنى ببراعتهم فى اختراع آلات الإبادة وأدوات التدمير، وأن أمثال هؤلاء لا نقيم لهم وزناَ ، حكم الغربيون على أنفسهم بأنهم شر على الإنسان من الوحوش الكاسرة بألف دليل ودليل ، لأنهم فى القرون الوسطى كانوا يعبدون أشياء مخلوقة ، فلما انتشر نور العلم على أوروبا بالإسلام من الأندلس خصوصاَ على فرنسا بواسطة الإمام ابن رشد الحفيد ، أبت نفوسهم أن تقبل الحق وعقولهم أن تتضح لها الحجة ، فتركوا دينهم لبيان ابن رشد وحرموا القابل فجحدوا وألحدوا وقابلوا نعمة الله كفراَ ، فنشروا الإلحاد فى الشرق على ألسنة من علموهم من الشرقيين فى مدارس أوروبا ، وكل من قبل منهم هذا الإلحاد حكم على نفسه بالانحطاط ، وتلك حجة على أن نفوسهم وعقولهم غير قابلة للحق ، سلبت الرحمة من قلوبهم ، فهم أضر على بنى الإنسان من السيل الجارف بل ومن النار المسعرة فى يوم الزوابع ، حصلوا الصناعات فاخترعوا ما يفسد الأخلاق ويهتك الأعراض من مسكرات ومخدرات ومن مجهزات البنج القاتلة ، وأزياء تجعل الإنسان كالنمر جميل الملبس قبيح الخلق والعمل ، ثم اخترعوا من الحديد والنار ما أبادوا به المجتمعات ودمروا به المدن العامرة ، انتشروا فى الشرق لتفرقة أهله وخروج بعضهم على بعض ، فهم شر من يأجوج ومأجوج ، وكأن قناة السويس هى سد يأجوج ومأجوج خرقها المصريون بكيد فرنسا ، فكانت خرقاَ فى الشرق فتح على أهله باب الاستعباد والاستبداد وتمكن القوم من الشرق كما يتمكن الوحش الكاسر من غنم راع نام عنها ، قال العربى :
ومن رعى غنماَ فى أرض مأسدة ونام عنها .. تولى رعيها الأسد
أيقظ الغرب رحمة المسلمين فشكر للمسلمين صنيعهم كما شكر الذئب لمن رباه ، عدو دول الاستعباد رجال الشرق الناهضون بالأمم ، ولكن جهلت أوروبا أن الشرق كله رجال .. وإنما تعز الأمم بأعمالها متحدة وتذل بتفرقتها .
نفت فرنسا الأمير عبد القادر الجزائرى بعد أن قتلت عشرات الألوف من قادة القوم ، ولكن أمة الجزائر لم تطفأ نار حميتها وإن توارت عن أعين المغرورين ، ثم أعادت صفحة من تاريخها الأسود فى الحروب الصليبية فاتحدت مع أسبانيا لتطفئ نور الغيرة ونور الفضياة فنفت خير رجل فى هذا العصر لا صبر لكل مسلم على تحمل نفيه إلى جنوب أفريفيا ، وهنا نتنبأ بما يأتى :
ستندم فرنسا على نفى هذا الأمير المحبوب أكثر من ندم الإنجليز على نفى زعيم الأمة المصرية فى سيشل ، فإن أعمال زعيم الريف التى هزم بها دولتى فرنسا وأسبانيا وأعز بها قومه نقشت على القلوب كالنقش فى الحجر ، وإن سمو الأمير المحبوب محمد بن عبد الكريم أبقى وراءه فى الريف نظراء ، وفى المجتمع الشرقى ألسنة وقلوباَ وأقلاماَ ، وأبقى له صحيفة بيضاء ناصعة يحفظها له التاريخ ، كما أبقى لفرنسا وأسبانيا صفحة سوداء تنفر العالم الشرقى منهما وإن ذلك لقريب .
تنفى فرنسا زعيم الريف وتقف صفاَ واحداَ مع أسبانيا أمام فئة قليلة فترمى القوم بالنار من فوق رؤوسهم ومن كل جهة ، ولكن الحق وعد بنصر المظلومين وإن قلوا ، ثم تقوم فرنسا فتبيد رجالاَ أبوا الضيم ، وتدمر مدناَ حفظ لها التاريخ شرفاَ ومجداَ فى سوريا وتدعى أنها أم الرحمة !!.
يا أمم الشرق : متى رضيتم بالحياة فى هذا الذل ؟ أنتم فى زمن رعمسيس الذى كان أول جيشه فى مصر وآخره فى وسط أوروبا ، أم فى زمن كسرى ؟ وقد أذل الروم وطهر الشرق منهم ، أم فى زمن عصر الإسلام أيام أمير المؤمنين عمر ومن بعده من الخلفاء ؟ أم فى زمان الترك أيام الفاتح والقانونى ؟ أم فى عصرنا هذا حيث مصطفى باشا كمال [21] والأمير محمد بن عبد الكريم وسلطان الأطرش ؟.
كفى يا شرق !! فإن القوم تمكنوا من الشرق لا بحديدهم ونارهم وإنما تمكنوا من الشرق بتفرقة الشرقيين وبخروج بعضهم على بعض ، وقد آن أن نعيد لنا مجد سلفنا ، وإنما نسعد يا قوم بما سعد به سلفنا الصالح بالرجوع إلى أصول ديننا والعمل بفروعه ، والله ولى المؤمنين>>.
ولما انحرفت تركيا عن جادة الصواب ومالت إلى تقليد أوروبا فى مباذلها وهجرت الدين وعادت التقاليد الإسلامية واللغة العربية ، كتب رضى الله عنه هذا النداء ونشرته مجلاته والصحف المصرية .
الدين النصيحة
إلى الأمة التركية الكريمة { قد تبين الرشد من الغى } [22]
إن المجتمع الشرقى عامة والمسلمين خاصة يعتقدون أنكم البقية الباقية للشرق ، يقتدون بأعمالكم وينتظرون الوقت الذى يعيد الله فيه المجد لهم على أيديكم ويجدد بكم ما كان للشرق من مجد وقوة فى الدين .
وقد جمع الله لنا فى ديننا ما به نيل الخيرين والفوز بالحسنيين ، قامت على ذلك الحجة ووضحت المحجة ، وليس الأمر بمجهول على من نظر نظرة فى التاريخ فعلم ما كانت عليه أوروبا قبل الإسلام ، وما آلت إليه فى عصور رفعة الإسلام وعزته ، وما بلغته من الرقى بسب الأخذ بمبادئ الإسلام الاجتماعية التى من أهمها إعداد العدة ونشر الصناعات والفنون وتعميم التعليم وتقدم الزراعة والتجارة والتحفظ من الأعداء باليقظة .
أخذت أوروبا هذا القسط من الدين الإسلامى ، وأهملنا نحن ما أوجبه علينا ربنا من تلك الفضائل ، فكانت هم الدولة علينا ، ولكنهم تركوا العقيدة الحقة التى تجعل المسلم ليس فوقه إلا الله تعالى ، تركوا العبادات التى تزكو بها النفوس فكون نفوساَ فاضلة مجملة بالرحمة والفضيلة والعدالة وحب الخير لكل ذى كبد رطبة .
يا رجال الترك : الحلال بين والحرام بين ، فنحن إذا أيقظنا ظلم أوربا وطغيانها فتسلطت علينا بما أخذته من ديننا من إعداد العدة ودوام الجهاد وقمنا لرد الظلم عن أنفسنا ، فإننا نجدد بعملنا هذا ما أمرنا به ديننا ، ولكن الواجب علينا أن لا نتخذ أوربا قدوة لنا فنحبذ عاداتها من الرذائل التى يحرمها الدين ةتستقبحها العقول الكاملة .
نعم : يجب علينا أن ننهض بالأمة بما لابد لها منه من إعداد العدة وانتشار الصناعات التى بها لا نمكن العدو منا ، والمنافسة فى التجارات وتعميم التعليم مما هو فضيلة ومكرمة ، ونترك المفاسد والرذائل محافظة على أعراضنا وحرصاَ على أموالنا وأنفاسنا الغالية ووقاية للأمة المستقبلة .
يا رجال الترك : كيف ترضى تلك النفوس العالية والرؤوس الكبيرة والقلوب القوية والعقول السليمة أن تلقى بالشبيبة فى هاوية الخزى بإباحة ما يحرمه الدين وينكره العقل والذوق السليم ؟ إن الرقص فى المجتمعات عادة همجية جاهلية اعتادها زنوج أواسط أفريقيا وسكان الغابات فى الحبشة ، وقد أخذها عنهم الإفرنج ، وهؤلاء قوم أسفل من الديكة وأدنى من الحمام ، لأن الديك يغار على الدجاج من الديكة الأخرى ، وإن الذكر من الحمام ليقتل الآخر إذا وجده قريباَ من أنثاه ، بل وإن كل أنواع الحيوانات تبلغ بها الغيرة إلى التقاتل ، فكيف تفتح بيوت العهارة فى عاصمة الأمة التى هى كعبة المسلمين الآن وينشر عنها أنها مكتب لتعليم الرقص ويؤيدها مدير البوليس ؟ لم يحرم الإسلام على المرأة أن تزاول ما لابد لها منه عند الضرورة من تضميد جروح المجاهدين وعمل اللازم لهم ، وفى مساعدة الزوج فى السفر والحضر ، ومشاركته فى أعماله ، ومن مشاورة الرجل لزوجته فى كل مهامه ، ومن قيام المرأة وصية على أولادها وغيرهم ، ولكنه يحرم على المرأة أن تغشى أماكن اللهو والخلاعة ، أو تجلس فى مجتمعات يمثل فيها ما لا يليق بالشرف وصون العرض ، والأولى بالمرأة أن تلازم عقر دارها عند الاستغناء عنها لتزاول ما به نيل الخير لها وللأمة من تربية الأبناء وتعليمهم وعمل ما لابد منه للحياة الأسرية والمنزلية .
يا رجال الترك : أنا لا أنكر أننا فى حاجة شديدة إلى تقليد أوروبا لاستعادة ما فقدناه وما سلبوه منا من علوم وصناعات وفنون ، ولكنا فى غنى عما هم فيه من الإباحة التى تجعلهم أحط من البهائم السائمة .
والإسلام وسع لنا فى أن نقوم بواجب الوقت عند المقتضى ، لأن العقيدة الإسلامية والعبادة والأخلاق بها نيل السعادة والسيادة فى الدنيا وبها الفوز بخيرات الحياة الباقية فى الآخرة ، وما عدا ذلك مما لا يغير عقيدة ولا عبادة ولا أخلاقاَ فأمر مباح .
يا رجال الترك : إن أخبار الإباحة عندكم يجعلها الأعداء سلماَ لنيل مطامعهم من الشرق وأهله ، ولا يرضيكم أن تمكنوا الأعداء من إخوانكم المسلمين ، والله جل جلاله غيور لدينه وعباده ، فتداركوا الأمر بالضرب على أيدى الإباحيين فإنهم قليل ، وأعمالهم وصمة عار عامة عليكم وعلى إخوانكم المسلمين .
والله أسأل أن يجمع لكم الكلمة ، ويؤيدكم ويعيد بكم مجد سلفنا الصالح إنه مجيب الدعاء >> .
[1] - كتاب ( الإمام محمد ماضى أبو العزائم ) الأستاذ عبد المنعم شقرف ( بتصرف )
[2] - 1293 – 1367 هـ ( 1876 – 1948 م ) سياسى وأديب باكستانى ومؤسس دولة باكستان وأول رئيس لباكستان 1366 هـ - 1947 م ) ورئيس الحلف الإسلامى 1324 هـ - 1906 م) .
[3] - 1293 – 1357 هـ ( 1876 – 1938 م ) أشهر الشعراء والفلاسفة بالهند ، دعا إلى إنشاء باكستان والاستقلال عن الهند .
[4] - 1842 – 1918 سلطان عثمانى عزل 1909 م ( 1327 هـ ) .
[5] - 1859 – 1909 اشهر علماء الدين الإسلامى فى عصره ، قربه السلطان عبد الحميد .
[6] - سورة آل عمران آية 103 .
[7] - 1860 – 1904 مجرى يهودى أسس الصهيونية .
[8] - النساء : 103 .
[9] - 1291 – 1363 هـ ( 1874 – 1944 م ) رئيس الحزب الدستورى ( 1338 هـ - 1920 م ) حله الفرنسيون ( 1352 هـ - 1933 م اعتقل عدة مرات ، غادر تونس إلى البلاد العربية 1923 م وعاد سنة 1937 ثم اعتزل السياسة .
[10] - 1854 – 1925 م ( 1270 ـ 1343 هـ ) انتصر على الأسبان بقرب تطوان وعقد مؤتمر الصلح فى 1915 م ( 1333 هـ ) ، أسره عبد الكريم الخطابى لما امتنع عن مناصرته ووالى الأسبان ، مات فى تماسنت – الأعلام 1 / 250 .
[11] - 1881 – 1944 م سلطان المغرب خلفا لأبيه 1894 م ، قوى فى عهده النفوذ الفرنسى ، خلع 1908 م توفى فى طنجة .
[12]- 1863 -1937 م ، سلطان المغرب 1908 م ، اعتزل 1912 م .
[13] - 1882 – 1963 م ( 1299 -1382 هـ )زعيم قبائل الرينة بالمغرب ، ثار على الأسبان وهزمهم قرب مليلة 1921 م استسل للفرنسيين 1926 م ، توفى بالقاهرة – الأعلام 6 / 216 .
[14] - شجر له شوك .
[15] - 1867 - 1933 ( 1284 – 1352 هـ ) قاتل الإطاليين .
[16] - مجلات السعادة الأبدية والمدينة المنورة منذ عام 1922 م .
[17] - كتاب ( الإسلام نسب ) للإمام أبو العزائم طبعة عام 1914 .
[18] - 1901 – 1970 .. سياسى أندونيسى أعلن استقلال بلاده عن هولندا 1945 , وكان رئيس الجمهورية عن الفترة ( 1945 – 1967 )
[19] - بريان أ ريستد ( 1862 – 1932 ) سياسى فرنسى وخطيب مشهور ، تولى رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية عدة مرات ، ودعا إلى سياسة التقارب مع ألمانيا ، وحصل على جائزة نوبل للسلام 1926 .
[20] - مجلة المدينة المنورة السنة 19 العدد 48 ( 22 شعبان 1366 الموافق 11 /7 /1947 ) .
[21] - مصطفى كمال أتاتورك الذى ألغى الخلافة الإسلامية .
[22] - سورة البقرة آية 256 .