إن الإمام كان ينظر إلى الخلافة الإسلامية بصفة عامة كرمز دينى له قداسته، وهو أمر لا غنى عنه، إذ المفروض في الخلافة الإسلامية أنها مسألة دينية نصت عليها الشريعة المحمدية، وقد عاش المسلمون على مر القرون منذ كانت الخلافة – يدينون لها بالولاء والطاعة، وكان الملوك الأقوياء في مصر أو غيرها يرون أنه لابد من قيام نظام الخلافة بجانبهم ليستدموا منه قوة النفوذ على الشعب المسلم، فسعوا بقوتهم ونفوذهم إلى أن يأخذوا موافقة الخليفة ضعيف السلطة على تنصيبهم ملوكاَ حتى تكون لهم الصبغة الشرعية فى حكم المسلمين، على أن هؤلاء لم تكن لهم أية سلطة زمنية وكانوا يعيشون فى حماية هؤلاء الملوك الأقوياء، ولا شك فى أن سعى هؤلاء الملوك الأقوياء إلى استرضاء الخلفاء وإعلان حكمهم للشعب باسم الخليفة كان راجعاَ لما لهؤلاء الخلفاء – على ضعفهم – من سلطة روحية على المسلمين، وكانت السلطة الروحية لهؤلاء الخلفاء تميد إلى قلب كل مسلم فى أى جهة كانت، ولهذا كان للخلافة العثمانية نفوذ روحي على المسلمين سواء كانوا يعشون فى ظل دولة الخلافة أخرى، ولعل أبرز مثل لهذا في عصرنا الحديث ما رأيناه من تعلق المسلمين في مصر والهند وغيرها من البلدان الإسلامية بالخليفة العثماني ودفاعهم عن هذه الخلافة بكل ما في وسعهم.
ومن هنا كان الإمام ينظر ومن هنا كان الإمام ينظر إلى الخلافة العثمانية على أنها مركز أنها مركز لتجميع المسلمين، وأنها في ذلك الحين هي التي يمكنها صد التيار الغربي الزاحف عليهم وإنقاذ مجد الإسلام وتراثه من عبث الغرب به، هذا إلى أن المسلمين كانوا يتطلعوان إلية كحامية بعد أن فقدوا ملكهم في أوطانهم، وإلى أنهم كانوا يعتبرون تألب الغرب على الأتراك حركة صليبية حديثة، ومن أجل ذلك رأينا المسلمين في كل قطر يهبون لمساعدتها في حربها مع الدول البلقانية، وفى حربها مع روسيا، وفى حربها مع إيطاليا فى طرابلس، ويبعثون إليها بالمساعدات تلو المساعدات، وكان للإمام رضى الله عنه أياد كبيرة فى تنظيم هذه المعونات وجمعها وتجميع المتطوعين لقتال أعداء الخلافة مما يذكر له بالفخار والشرف.
ولقد فزع الإمام فزعاَ عظيماَ لدخول إنجلترا الحرب ضد تركيا، فأعلن أنه يقف في صف الأتراك، وقد انتشرت هذه الدعوة انتشرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي مما جعل الإنجليز يصانعون المسلمين ويلتمسون لأنفسهم المعاذير في دخولهم الحرب ضد دولة الخلافة، ووعدهم أنه سوف لا تمس دولة الخلافة بسوء.
وعندما هزمت تركيا وبدأت إنجلترا تنكث عهودها ثار الإمام، وثار لثورته مسلمو الهند وغيرها من البلاد الإسلامية خصوصاَ العراق والشام والمغرب وجاوه، وعمت هذه البلاد ثورات جارفة سقط فيها بالهند خاصة مئات الضحايا.
لقد أضعف التعصب عاطفة العرب نحو تركيا حتى جعلهم أحياناَ يسعون للتخلص منها، عكس مصر خاصة، والهند التى لم يمسها هذا الظلم بل مسها ظلم الاستعمار الإنجليزي وطغيانه وعدوانه الآثم الشنيع، ولو أن المسلمين العرب نسوا أو تناسوا مؤقتاَ ما كان لدولة الخلافة من مظالم ووقفوا بجانبها ضد الغرب لأمكنهم الاحتفاظ بوحدتهم الإسلامية الجامعة، ولما استطاع المستعمر أن يثبت قدمه فى بلادهم، ولا أمكن لليهود انتزاع فلسطين من أهلها وطردهم منها، ولكان من الممكن للمسلمين بعد ذلك أن يصفوا حسابهم مع دولة الخلافة ويأخذوا حقوقهم منها، كان ذلك هو رأى الإمام، ومع هذا فقد كان رضى الله عنه شديد الأسف مع كثير من المرارة لما أصاب المسلمين بسبب تفككهم وتخليهم عن دولة الخلافة.
واستمر الحال على ذلك حتى دهم المسلمين أمر الخلافة، فقد كان لإلغائها فى 2 مارس 1924 م – وعلى غرة – دوى شديد فى مصر والعالم الإسلامى، وخصوصاَ وأن المسلمين لم يعرفوا السبب الذى دعى إليه ولا الموجب له، وقد كانت الخلافة وإن كانت فى آخر أمرها مظهراَ من مظاهر التقليد، إلا أن عقلاء الأمة كانوا يحسبونها رمزاَ يجمع حواليه شتات هذا الجسد الإسلامى بعد أن قطع الاستعمار أوصاله وسلب منه أكبر مزية: الاتحاد والرابطة بالخلافة العظمى والإفاقة الكبرى.
ولم يغمض للإمام جفن طوال الأيام الأولى من تلك الفتنة العمياء: خليفة المسلمين [1] يطرد من بلاد إسلامية وعلى يد فئة مسلمة، والناس مختلفون فى تكفير هؤلاء أو نسبتهم إلى الإلحاد والزندقة، وقد ألهمه سبحانه وتعالى فى هذا الموقف أن أبصر بها الداعى إلى هذا الأمر، والواجب على المسلمين تجاه هذا الخطر، فقام أول الأمر محذراَ المسلمين عن الخوض فى تكفير إخوانهم من بنى عثمان، ثم استعلم مستفسراَ.
الاتصالات التمهيدية:
لقد كان رد الفعل للسماع عن إلغاء منصب خليفة المسلمين بتركيا سريعاَ جداَ على الإمام.. بل وفورياَ. وقد شهدت الساعات الأولى إنجازين على درجة كبيرة من الأهمية:
(1)تكوين جمعية ( إحياء الأخلاق المحمدية ) ومقرها المركز الرئيسى قصر الحنفى ( سكن الإمام ) وفروعها فى بلاد مصر، وإعلام الجميع عن استنكارها لقرار الإلغاء على المستوى الشعبى.
(2) القيام باتصالات هاتفية وكتابة خطابات شخصية وإرسال برقيات لجميع رؤساء بلدان العالم الإسلامى لتكوين جماعات عمل لمؤتمر الخلافة الإسلامى وإخطار المقر الرئيسى بالقاهرة بذلك، وكان أول المستجيبين فى ذلك إخوة الهند وعلى رأسهم الأميران شوكت على ومحمد على، والدكتور أجمل خان والدكتور محمد إقبال والشيخ كفاية الله وغيرهم وإعلانهم الفورى عن تأسيس جماعة
( الخلافة الإسلامية ) بالهند مع إعلان اتحادها قلباَ وقالباَ مع الإمام، وكذلك بعض الزعماء الإسلاميين الآخرين.
وقد اتفق مع جماعة الهند منذ الساعات الأولى لسماع نبأ الإلغاء على إعلان الرأى التالى:
لقد أتفق الرأى على إبقاء الخلافة الإسلامية فى تركيا وتقويتها، وإن لم يمكن الإبقاء على أسرة آل عثمان فإنه يمكن انتخاب خليفة يقيم فى إحدى الدول الإسلامية التى لا تخضع للاحتلال أو النفوذ الأجنبى، مع إبعاد التفكير فى تنصيب فؤاد الأول [2] ملك مصر خليفة على المسلمين، وإنه إلى أن يتم انتخاب خلفية للمسلمين، فإن خلافة عبد المجيد خان تظل قائمة لأن بيعته لازالت ملزمة للمسلمين.
وهذا الرأى هو ما أرسل به الإمام إلى سائر الجماعات فى البلاد الإسلامية، وقد وردت إليه الردود التى لا يتسع المقام هنا لذكرها منها:
رسالة من الأمير فيصل بن عبد العزيز بمكة، ورسالة من مشايخ إمارة الخليج العربى وهم: محمد بن عبد اللطيف، وسليمان سهمان، وعبد الله بن سالم، ورسالة من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، ومن جمعية الشبان الفلسطينيين بحيفا، ومن جزيرة سنغافورة من السيد محمد عقيل بن يحيى، ومن ديوان المحكمة الشرعية بولاية البوسنة بيوغوسلافيا موقع عليه من كل من محمد موباغنيك، ومحمد جمال الدين ومحمد القاضى، وكتاب من الشيخ حافظ وهبه وزير المملكة السعودية، وكتاب من السيد أحمد الشريف السنوسى المقيم بالأستانة، ورسالة مطولة من الأمير شكيب أرسلان تتضمن رأيه فى انتخاب الخليفة والقطر الذى يقيم فيه واستبعاد أتاتورك، ورسالة من السيد محمد البطاح قاضى عدن، وكتاب من لجنة العمل على إحياء الخلافة بمدينة الكاب بجنوب أفريقيا، ورسالة من رئيس جمعية حزب المرشدين الدينيين فى سومطرة، وكتاب من بولونيا من رئيس الجمعية الإسلامية، ورسالة من الاتحاد الصينى للجمعيات الإسلامية بشنغهاى، ورسائل عديدة من الشيخ كفاية الله والدكتور محمد إقبال ومحمد على جناح وشكت على وأجمل خان والشيخ قرشى بالهند، وكتاب من أندونيسيا بتوقيع سوكارنو وآخرين، وكتاب من حميد الدين إمام اليمن... إلخ.
وما أن انتهى الإمام من اتصالاته إلا وظهر أول رد فعل تنفيذى بعد أسبوعين من نبأ الإعلان، وبالتحديد يوم 15 مارس 1924 م.. وهو خطاب موجه من الإمام إلى مصطفى كمال أتاتورك هذا جزء منه:
<<..... فإذا كان الخليفة هو رأس الجمهورية، سار على مقتضى قوانينها وزاد عليه مجلساَ محلياَ للخلافة بجانب المجلس الوطنى الكبير منتخباَ من جميع الأمم الإسلامية يقوم بالأعمال الدينية والاجتماعية الخاصة بالأمم من تعيين القضاة وأئمة المساجد وعمارة معاهد العلوم الدينية وبعث الوعاظ والمرشدين لبث الدعوة الإسلامية، وتكون إدارة الأمم الإسلامية المستقلة بأمر الخليفة فى شئونها الدينية والاجتماعية بقدر ما تسع الشريعة، ويكون المجلس الوطنى الكبير عاملاَ للجمهورية التركية، وقد يأتى الوقت الذى تكون فيه الجمهورية التركية جمهورية إسلامية كما كان عهد الخلفاء الراشدين، فإن الخليفة فى عهد السلف كان رئيساَ الجمهورية الإسلامية بمعناها الحقيقى.
وإنى بصفتى عاملاَ على تشكيل المؤتمر الإسلامى ببلد حر مستقل كنت أحب أن يكون المؤتمر فى بلد من بلادكم لولا ما أشرتم إليه من الظروف [3] التى انتهجها طمع المستعمر الأروبى، والإسلام وسع لنا فى رعاية واجب الوقت، وقد استحسنت ما استحسن رجال جماعة الخلافة بالهند من اجتماع المؤتمر الإسلامى الكبير فى مكة المكرمة بعد قهر حسين بن على منعاَ للفتن الأروبية التى أشرتم إليها إذا عقد بالبلاد التركية.... >>
15 مارس 1924 م
محمد ماضى أبو العزائم
الاجتماع الأول بمنزل الإمام:
وقد تم أول اجتماع لجمعية ( إحياء الأخلاق المحمدية ) بمنزله رضى الله عنه فى 23 مارس 1924 م، وكان قد دعا رجال الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية لحضور هذا الاجتماع، وتم فيه جمع الأمة المصرية فى صعيد واحد فى يوم واحد بدعوة إلى عظمائها ونوابها وأهل الرأى فيها ليستشيرهم فى هذا الأمر، وقد كانت همة الجالس على العرش[4] متحفزة إلى بلوغ هذا القصد والبلاد ما زالت فى ذلك الوقت مستعمرة أنجليزية لا أقل ولا أكثر لم تنعم بالاستقلال وإن كانت تداوم من أجله الجهاد والقتال، فرغب عن حضور هذا الاجتماع أهل النفوذ خيفة غضب الملك، وجاءه أهل الإخلاص الذين باعوا أنفسهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى فشاورهم فى الأمر جميعاَ، وخرج من هذا الاجتماع بفائدة هى تكوين قيادة لهذه الهيئة أسماها ( اللجنة التنفيذية لجماعة الخلافة الإسلامية بوادى النيل ) كان أحد أقطابها المرحوم على بك فهمى كامل شقيق فقيد مصر العظيم وزعيمها الفتى الكريم المرحوم مصطفى باشا كامل، فأصدرت فى ذلك عدة قرارات حكيمة كان أكثرها من بنات أفكار الإمام النيرة السليمة، وفيه قرر الأعضاء العمل على الدعوة لإقامة مؤتمر إسلامى عالمى يشارك فيه جميع زعماء وملوك الهيئات والدول الإسلامية.
بدأ هذا الاجتماع بكلمة ألقاها الإمام قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداَ نستزيد به عناية الله بنا، حتى نعيد مجد سلفنا ونبقيه لأبنائنا ولأبنائهم، قال سبحانه وتعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [5]، والصلاة والسلام على من قام يدعو إلى الحق منفرداَ فى ظلمات الجهالة فأيده الله بنصره، وكذلك كل داع إلى الحق ينصره الله، أما بعد:
فيا أيها الشبان الناهضون المتفوقون على الشيوخ في اقتحام العظائم: أخصكم بالذكر لأنكم الأيدي العاملة فى وقت الشدائد، أخصكم بالذكر لأننا جماعة الشيوخ مللنا الدهر وملنا، ولأننا نعمل لكم لا لنا، إن كان لنا الآن فالمستقبل لكم، وأى عاقل يرضى أن يهمل أمراَ يصبح الأخ بإهماله حرباَ على أخيه ؟.
أيها الشباب العامل: كنت كسلاناَ فنشطني الله بكم، حباناَ فشجعني الله بإقدامكم، كنت أخاف أن أقول كلمة فأطلق سبحانه لساني بقوة إيمانكم، ذكرتموني عهد سلفنا الصالح حين كان المسلم لا يرى فوقه إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه، وى !! كأنى أعدت إلى أيام مجدنا حيث الحياة فى ظلال الحرية، فأشكر الله على ما تفضل به علينا من غيرة لوطننا تغير كل شئ أتت عليه، وحمية لديننا تمحو البدع المضلة والأهواء المذلة.
أنتم أيها النشء أقمتم الحجة بما قمتم به للأمة على أنكم شيوخ فى شبابكم، وأنكم ستجددون ما كان لسلفكم، فأديموا هذا الجهاد حتى نبلغ المراد.. أدام الله لنا عنايته.
أيها الشيوخ الذين أكسبتهم التجارب عقولاَ تدرك غيب الحوادث وتكشف الستار عن أسباب الفتن، أنتم الأنجم المضيئة للعمال، والأئمة عند السعى لنيل الآمال، قد آن لنا أن نتدارك الأمر فى أوله، فقد كفانا ما توالى علينا من البلايا التى مكنت للأعداء فينا وجعلتنا مستعبدين لهم.
أيها السادة: الوقت يوجب علينا النظر فى أحداثه بعين البصيرة و المسارعة إلى معالجة المرضى منا بالحكمة لنكون جسداَ واحداَ قوياَ ندفع بقوة الاتحاد شراَ أوجدته التفرقة و سوء ظن بعضنا ببعض، قال صلى الله عليه و سلم << مثل المؤمنين فى تراحمهم و توادهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى >>[6]، وفى رواية: << المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله و إذا اشتكى رأسه اشتكى كله >> [7].
لابد لكل عامل غرض يدعو اليه وباعث يدفعه للعمل، و بقدر المقصد يكون بذل الجهد، والغرض من اجتماعنا هذا هو:
( أولآ ): إقامة الأمة المصرية الحجة على أنها تعنى بالأحداث التى تدعو إليها مقتضيات الوقت.
(ثانياَ ): النظر فى حادث الخلافة الإسلامية الذى أقام العالم وأقعده.
( ثالثاَ ): أن تؤلف لجنة تحضرية يوكل إليها العمل للدعوة إلى مؤتمر إسلامي عام يبحث هذا الموضوع بحثاَ دينياَ اجتماعياَ ويصدر فيه القرارات المطابقة لروح الشرع والمطمئنة للعالم الإسلامي بأسره.
وبعد أن شرح فضيلته الحكم الشرعي والحكم الوجودي والخلافة والإمامة ووافق الجميع على كلماته القيمة بالارتياح والاستحسان، ألقى الكثيرون من العلماء خطباَ تناسب المقام إلى فجر اليوم التالى، ثم اختتم الاجتماع كما بدأ بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم.
انتخاب اللجنة التحضرية للمؤتمر:
وبعد الانتهاء من تلاوة آيات الذكر الحكيم، انتخب هذا الجمع لجنة تحضرية برئاسة حضرة صاحب الفضيلة الإمام السيد محمد ماضي أبى العزائم، فاجتمعت فى الحال فى هيئة جلسة وقررت قراراَ هذا نصه:
قرار اللجنة التحضرية
أولاَ: السعى فى تكوين مؤتمر إسلامى عام تمثل فيه الشعوب الإسلامية كافة، يعقد فى المكان والزمان اللذان يقرران بعد.
ثانيا: السعى فى تشكيل لجان فرعية فى البلاد المصرية على أن يؤلف من مندوبى هذه اللجان جمعية عامة رئيسية تنظر فى جمع المؤتمر وإجراء كل ما يلزم لانعقاده.
ثالثاَ: ترشح اللجنة مع الثقة العظمى (( حضرة صاحب السمو الأمير الجليل )) عمر باشا طوسون لرياسة اللجنة العامة.
رابعاَ: انتخبت اللجنة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد ماضى أبا العزائم رئيساَ، وحضرة صاحب السعادة على بك فهمى كامل نائب رئيس، وحضرة الشيخ مفتاح زيدان سكرتيراَ، أما الأعضاء الذين انتخبوا فهم حضرات الآتية أسماؤهم بعد: ( يرجع لقرار اللجنة التحضرية ) [8].
خامساَ: تبليغ قرارات اللجنة إلى حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، وإلى الصحف.
*ومنذ الساعات الأولى من تكوين هذه اللجنة التحضرية، قام الأعضاء بإخطار الهيئات الرسمية فى البلاد الإسلامية بتكوين [ جماعة الخلافة الإسلامية ] لتعمل على عودة الخلافة الإسلامية، وقد خاطب الإمام القادة والزعماء ومن بينهم زعماء الهند محمد على جناح، وأبو المكارم آزاد، والأخوان الأميران شوكت على ومحمد على، كما اتصل بالشاعر محمد إقبال، وتوثقت بينه وبينهم روابط الخدمة لإعلاء كلمة الدين وتوحيد صفوف المسلمين، كما اتصل رضى الله عنه بكمال أتاتورك نفسه، وأرسل الإمام نداء إلى العالم الإسلامى ممثلاَ فى دوله يبين فيه مقاصد المستعمرين فى الخلافة الإسلامية بالنسبة للإسلام والمسلمين، ودعا إلى عقد المؤتمر الإسلامى العالمى لمناقشة هذا الغرض، وظل التجهيز لانعقاده حتى تم ذلك فى مكة المكرمة بتاريخ 9 يونيو 1926 م برئاسة عبد العزيز آل سعود عاهل الحجاز.
*وكان الخلاف الذى قام عام 1924 م فى المؤتمرين: مؤتمر الخلافة لجماعة الأزهر، التى تكونت بأمر من الملك فؤاد بعد فترة صمت طويلة دامت ستة أشهر، ومؤتمر جماعة الخلافة بوادى النيل رئاسة السيد أبى العزائم، يحوم فقط حول إيجاد بلد مستقل لا سيطرة لأجنبى عليه ليكون مركزاَ للخلافة ومقراَ للخليفة محفوظاَ من الأهواء السياسية ومن سيطرة الأجنبى وعدوانه، حتى تنفذ الأوامر الدينية والزمانية بغير تدخل الدولة المحتلة، وقد كان لجماعة الأزهر فكرة مخصوصة فى الخلافة والخليفة، ولم تترك للعالم الإسلامى اختيار من يختاره والبلد الصالحة لمقر الخلافة، باعتبار أن لكل مسلم بيعة فى عنقه يجب أن يؤديها حسب اختياره، وقد أقنعت جماعة الخلافة الإسلامية بوادى النيل الرأى العام الإسلامى بأن مصر وقتها لم تكن صالحة أن تكون مقراَ للخلافة، وحبذ هذا الرأى سمو الأمير عمر باشا طوسون.
الملك فؤاد والخلافة الإسلامية:
فوجئت الحكومة بما نشرته الصحف فى اليوم التالى عن الاجتماع الذى تم فى دار الإمام، وعما تمخض عنه من لجان تحضرية وتنفيذية، وسرعة تكوين لجان فرعية بالأقاليم بين عشية وضحاها، فبدأت تولى الموضوع عناية خاصة، وشرعت بعد ستة أشهر من تكوين جماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل، في تكوين مؤتمر من علماء الأزهر برئاسة الشيخ الأحمدي الظواهري [9] شيخ الجامع الأزهر، ولم ينعقد هذا المؤتمر بادئ ذي بدء لأنه كان يعمل على تزكية الملك فؤاد خليفة على المسلمين، وكان يعتقد أن الأمر لا يستلزم عقد مؤتمرات أو ما يماثلها وأن تنصيب فؤاد خليفة لن يجد أدنى صعوبة، وما دامت إنجلترا راغبة فى ذلك فإنها ستحمل غيرها من الدول على الاعتراف بالأمر الواقع، ولذا فإن أول اجتماع عقد للتشاور في هذا الموضوع عام 1342 هـ وعلى مائدة الإفطار !!. وقد أملى الإمم قصيدة بهذه المناسبة جاء فيها:
أظلم الكون بالضلال أحفظني
أفسد الطامعون كل مكان
زار أهل الضلال من لم يزاروا
عظموا الكفر في ليالي القران
أيقظ المسلمين من نومة الجهل
اجمعنهم بالنور والتبيـان
وانصر السنة العليـة وارفع
دينك الحق بانمحا الطغيان
قد أضل الإفرنج قومـاَ لئاماَ
فاستطابوا الضلال من شيطان
صار النضال قوياَ بين الملك فؤاد والإمام رضى الله عنه، فالملك كان يطمع أن يكون خليفة للمسلمين، وجند جنوده لتحقيق هذه هيئتان للخلافة الإسلامية إحداهما رسمية يرعاها الملك فؤاد والأخرى شعبية برئاسة الإمام أبى العزائم، عندئذ جاهر الإمام بأن مصر دولة محتلة وحكامها قد تربوا في أحضان الأجانب ودانوا بفكرهم فهم على آثارهم يهرعون وفى مرضاتهم يتنافسون، وكان طبيعياَ أن لا يكون لهذا البلد فى ظل الاستعمار وفى ظل هذه الشرذمة من احكام أية قيمة وأي وجود.
وحاول الملك فؤاد استمالة الإمام فأرسل إليه رئيس الديوان الملكي ((حسن باشا نشأت)) ليقول له: إن الملك فؤاد يحب أن يراك، ولو حضرت إليه سيعطيك أكبر وظيفة دينية في الدولة وأموالاَ طائلة، فربت الإمام بيده على وجه حسن باشا نشأت لما بينهما من مودة وقال له: (( أنت ياحسن تريد أن تغرر اباك الشيخ بالدنيا، وهل ملك مصر يتمنى أن يرانى ؟ )) قال حسن باشا: نعم. فقال الإمام: (( يا حسن.. قل لفؤاد: إن أبا العزائم لا يحب أن يراك، ولو أحببت أن يأتي فؤاد إلى هنا لجاءني حبواَ، إذا وقف رجل على باب السلطان حرم عطاء الحنان، ورجل الحق تخضع له التيجان، وخادم الحق له الخلق خدم أينما كان، والخير الإلهى لمن صدق وثبت، ثم قال له الإمام كلمته الخالدة عن فؤاد وأمثاله من أمراء السوء: إن قوماَ فقدوا الإسلام في أنفسهم وبيوتهم وشئونهم الخاصة والعامة لأعجز أن يفيضوه على غيرهم ودعوة سواهم إليه، وفاقد الشيء لا يعطيه )).
*وأبلغه سعد زغلول يوما أن الملك فؤاد يتهدد الإمام ويتوعده إن لم يساير الملك في سياسته، فأمسك الإمام بأذن سعد زغلول قائلا له: ((قل له: أبو العزائم يقول لك: دولة تدول وملك يزول، وجانب الله يبقى ولا يزول ))
*وعندئذ بدأت الحكومة والسراي في محاربة الإمام بشتى الطرق العلنية والسرية، فقبض على أعضاء اللجان الفرعية في الأقاليم، وصودرت محاضر الجلسات، وأعدمت أعداد من مجلة (المدينة المنورة) وفتشت سراي آل العزائم مراراَ وتكراراَ، واتخذت العداوة بين الملك والإمام مظهرا علنيا، ومنع الإمام من السفر لتأدية الحج في ذات العام، وقدمه لمحكمة الجنايات بسبب كتاب للإمام بتهمة سب الذات الملكية ولكن برأته المحكمة، وقدمه للمحاكمة متهما إياه بالكفر زورا وافتراء وبرأته المحكمة أيضا.
* ولما مات ملك إنجلترا قال الإمام أبو العزائم على املأ: ملك أخذ عز قومه وولى، ولما مات الملك فؤاد قال الإمام: ملك أخذ ذل قومه وولى.
الدرع الواقي بين جماعة الخلافة الإسلامية وبين الملك فؤاد والاستعمار:
كان الملك فؤاد لا يستطيع أن يقف فى وجه الأمير عمر طوسون [10]، فقد كان يعمل له ألف حساب، كما كانت إنجليزا نفسها تتحاشى الاصطدام به، فسخرة الله للإمام أبى العزائم ليكون درعا واقيا لجماعة الخلافة من بطش هاتين القوتين.
وقد أثارت الصحف ضجة مفتعلة ضد جماعة الخلافة التي يرأسها الإمام، وهاجمه بعض الكتاب، ولفتوا نظر الحكومة إلى أن موضوع الخلافة يعتبر من النظام العام للدولة فلا يجوز أن يتولى الاتصال فيه والعمل له شخص معين أو جماعة بعينها، وحرضوا السلطات على الوقوف ضد جماعة الخلافة.
وقد نشرت جمعية (( تضامن العلماء بمصر )) مقالاَ بجريدة الأهرام [11] بعددها الصادر في 16 أبريل سنة 1924 م يتضمن هذا المعنى الذى أشار إليه أحد كبار الكتاب من قبل تحت عنوان: ((الدين والخلافة والسياسة )) فما كان من الأمير عمر طوسون إلا أن بارد بالرد على مقال الجمعية وذلك بجريدة الأهرام ليوم 21 أبريل سنة 1924 م وجاء فيه:
((إن مسألة الخلافة لا تخص بلدا إسلاميا دون بلد آخر، ولا هيئة رسمية أو غير رسمية، وخصوصا وأن جماعة الخلافة بوادى النيل أهابت منذ نشأتها بالحكومة أن تتولى هذا الموضوع الخطير على الصعيد الرسمي، ولكنها تقاعست لحاجة فى نفسها لتعمل لها بطرق أخرى، ولم تولى الموضوع أى اهتمام إلا عندما وجدت أن الدعوة على الصعيد الأهلى ستؤثر فى اتجاهاتها الخاصة، ومن ثم فإن كل مسلم يعتبر وافقا على ثغر من ثغور الإسلام ومسؤل عنه )).
وإزاء هذا الحرج الذى وضع الأمير فيه جميع الهيئات الرسمية المسؤلة، بعثت جمعية تضامن العلماء مندوبها إلى الأمير للاعتذار.
وقد أرسلت هذه الجمعية هذا الرد الغامض إلى جريدة النظام بعددها رقم 1325 الصادر بتاريخ 22 أبريل 1924 م تحت عنوان: مسألة الخلافة ورأى سمو الأمير طوسون:
<< قرأت بأهرام يوم اثنين 21 أبريل سنة 1924 م خطاب موجها إلى جمعية تضامن العلماء على لسان صاحب السموم الأمير الجليل عمر طوسون متضمنا رأى سموه حول مقالنا الذى نشرناه بأهرام الأربعاء 16 أبريل 1924 م بعنوان: ( الدين والسياسة والخلافة ). وإذا كان سموه يرى أن الخلافة كما قال لا تخص بلدا إسلاميا دون بلد، ولا هيئة رسمية أو غير رسمية، فإنى مع سموه أرى هذا الرأى، وهو لا يتنافى مع العرف والمألوف من أن الرسميات فى الأمم والحكومات قد أعتبرها من النظام العام حواجز وفوارق بين الفوضى وحرمة القانون لهذه الحرمة وذلك النظام، ولو تريث سموه ووقف مستطلعاَ رأى الحكومة فى عقد الخلافة. أما مشيخة الأزهر أصدرت قرارها فى شأن الخلافة منفردة عن العالم الإسلامى فلها فى ذلك شفيع من أنواع ثلاث:
أولا: ما وجهه الناس على سكوتها من العتب والنقد.
ثانياَ: ما ورد على المشيخة من العالم الإسلامي طلباَ للاستفتاء.
ثالثاَ: ما جرت عليه السنة فى جميع المناسبات >>.
وفى حوار صحفي أجراه محرر جريدة الوطنية مع الإمام السيد محمد ماضي أبى العزائم رئيس لجنة المركزية الكبرى في مصر، وذلك بعددها رقم 246 الصادر في يوم الاثنين 10 جمادى الآخرة 1343 هـ الموافق 5 يناير 1925 م، كان الحوار الذى يخص موضوع الخلافة الإسلامية من هذه المقالة ما يلى.
سؤال: هل لمولاي الأستاذ غرض خاص فى عمله للخلافة ؟
جواب: لابد لكل عامل غرض يبعثه على العمل وإلا كان عابثاَ، والغرض من تلك النهضة يقظة المجتمع الإسلامي لتشكيل لجان تمهد السبيل لتكوين مؤتمر إسلامي عام يكون له الكلمة فى اختيار الخليفة والقيام بما يلزم الخلافة، لأن الخلافة منصب نبوي، لا دين ولا دنيا إلا به، وكل مسلم متعين عليه المسارعة إلى هذا العمل، وحضرتكم تعلمون أن الأمة تنال بالخليفة الممثل لمقام النبوة مجدها الذى كان لسلفنا الصالح من التمكن في الأرض بالحق، ومن نيل الحرية والاستقلال، والسلامة من التفرقة وإهراق الدم، ومن تسليط العدو علينا
سؤال: هل للأستاذ نظر خاص فى تعيين شخص معين ؟
جواب: إن العامل لله ولخير الأمة يجب أن تضمحل فى نظره أغراضه الشخصية، وأن تتضاءل أمامه العواطف مهما اقتضته الشئون، وينبغي أن يكون الحق أحب إليه من كل ما سواه، والحق الذى لا مراء فيه أن تكون الكلمة العليا للمجتمع الإسلامي الذى ينبغى أن يكون فرحه بالحق ورغبته فى الخير العام، على أنى لا أبرى نفسى من أن أتمنى أن يقيم الله للأمة خليفة مجملاَ بجمال النبوة علماَ وخلقاَ فى أمة حرة مستقلة ذات طول وحول يهابها الأعداء ويرجوها الأوداء.
سؤال: ما رأى الأستاذ فى نتيجة النهضة للخلافة ؟
جواب: ( هنا سكت حتى ظننت أنه لا يتكلم، ثم التفت إلى مبتسماَ وقال: ) المسلمون لا غنى لهم عن خليفة يلم شعثهم، ويقيم لهم حدود دينهم، وينفذ أحكام ربهم، ويدفع عنهم ظلم المستعمرين وسلطة المستعبدين، وإن ما ألم بالشرق وحل به أعراض مرض فقد الخليفة بمعناه، وإن ما أجده فى نفسى فى هذا الشأن يجده كل مسلم بل ويجده أهل الذمة فى الشرق، والذى أعتقده أن إلغاء دولة الترك الخلافة خير عظيم للمسلمين، فقد أيقظتهم تلك الحادثة خصوصاَ وقد اشتد ظلم المستعمرين، وقد أبى خيرة الصحابة أن يشتغلوا بتجهيز النبى صلى الله عليه وسلم حتى يعينوا الخليفة. ويظهر لى أن الله تعالى يريد أن يعيد للمسلمين مجدهم بالخلافة لأنه انتقم من حسين بن على [12] بدعواه الخلافة وليس أهلاَ لها، وأعان سبحانه الترك على إلغائها، وسيكون للخلافة شأن عظيم إن شاء الله تعالى.
سؤال: ما حكم المسلمين الذين يبايعون الخليفة على الطاعة ويعجزون – لسبب وجود بلادهم تحت حكم دولة أجنبية – عن طاعته والإذعان لأمره ونهيه، ويعجز هو عن إرغامهم على الطاعة أو على تحريرهم من السلطة الأجنبية المتغلبة عليهم ليكونوا تحت طاعته ؟ وما فائدة مبايعتهم له والحالة كما ترون حقيقتها ؟.
جواب: إن الله تعالى يقول: ( وما جعل عليكم فى الدين من حرج ) [13]، وقد تفضل سبحانه فجعل فى كل زمان رجالاَ يستنبطون الحكم من الشريعة على كل حدث لم يسبق له نظير فتقضى فيه أئمة السلف الصالح، قال تعالى: ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [14]، وأولى الأمر هم العلماء ورثة النبى صلى الله عليه وسلم، وقد وسع الله لنا عند الضرورة. وإنى قد بينت فى تقريرى الذى سيرفع للمؤتمر البيان الذى يلزم للأمم الإسلامية لمحتلة بالأجانب من جهة ما يتعلق بشؤنهم الدينية، وإنى على يقين أن الدول المتسلطة لا تقوى على رد الفعل إذا هى صادمتنا فى ديننا، وحرية الأديان مقدسة، فإقامة سعائر الدين وتولية الأئمة والقضاة الشرعيين والتعليم الدينى فى المعاهد منوط بالخليفة أين كان. وحضرتكم تعلمون أن دول أوربا لم تتدخل فى الشئون الدينية بصفة رسمية، وإن كنا لا نجهل تدخلها بانتشار البعثات الدينية فى الشرق تحت ستار حرية الأديان، والأمم المتسلط عليها الأجنبى لا تحتاج إلى قوة تقهرها على طاعة الخليفة لأن روح الدين والعقيدة يجعلان الأمة مطيعة للخليفة فيما ينفذه عليها من أحكام الدين بواسطة الأئمة والقضاة والعلماء، والخليفة إنما ينفذ أحكام الدين فقط، والأمم المتغلبة يسرها جداَ محو الفتن والهرج والمرج حتى تنال بغيتها من نشر تجاراتها وصناعاتها، وإذا كان الخليفة المنتخب يعجز الآن عن تحرير الأمم الإسلامية من سلطة الأجانب والإنسان دينى بالطبع، فقريباَ يصبح أهل أوروبا وأمريكا مسلمين لأن الإسلام دين العلم والعمل.
سؤال: إذا تعذر وجود الملك المسلم الذى يستطيع أن يبسط ظل سلطانه على كافة المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يبايعه المسلمون وتجب عليهم طاعته، ألا ترى أن يسعى مسلمو كل مملكة محكومة بدولة أجنبية للاستقلال بأوقافهم وقضائهم الشرعى ومساجدهم وكل أمورهم الدينية وأن يجعلوها تحت سلطة الخليفة الذى يتولى تنصيب القضاة الشرعيين والمفتين وأئمة المساجد ونظار الأوقاف وإدارة المعاهد الدينية الإسلامية، فيكون له على كافة المسلمين السلطة الروحية إذا تعذر عليه نيل السلطتين الدينية والدنيوية عليهم بسبب وجودهم تحت حكم دولة أجنبية ؟. جواب: الجواب على هذا السؤال يؤخذ ضمناَ من الإجابة السابقة، ولما كان المؤتمر هم رجال منتخبون من جميع الدول الإسلامية فسيكون بحثه فى جميع الشئون المتعلقة بالأمم الإسلامية من جهة الخلافة التى تمثل النبوة وبها قوام الدنيا والدين، وسيكون للحكم الوجودى قسط عظيم من قراراته. واعتقادى أن المجتمع الإسلامى يحترم وينفذ قرار المؤتمر بكل الوسائل المشروعة، وكل الدول المتغلبة على الدول الإسلامية تكره أن تقف أمام أربعمائة مليون مسلم [15] ومثلهم من الشرقيين يتحدون بإخوانهم المسلمين، لأن الإسلام أنزل غير المسلم من أهل الذمة منزلة المسلمين احتراماَ ومعاملة وحقوقاَ، فلا ترى شرقياَ فى أى أمة من الأمم الإسلامية إلا ويرى المسلم أخاه فى المعاملة والمساواة والحرية، ويرى الأجنبى عن الشرق يحتقر الشرق وأهله ويسلب منه مرافق الحياة. والشرق كله تجمعه قومية واحدة والإسلام يؤيد تلك الجامعة، ولولا ذلك لما وجد بين المسلمين أقلية من النصارى واليهود متمتعين بكل الحقوق: يقف اليهودى مع الخليفة الأعظم – سيدنا على بن أبى طالب – أمام القاضى، وقد وقف هارون الرشيد أمام القاضى أبى يوسف يخاصمه يهودى فحكم بالعدل، ووقف رجال من الأنصار يخاصمون يهودياَ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأ القرآن اليهودى وحكم على المسلم الأنصارى ومعه عصبة من الأنصار، وأمر أمير المؤمنين عمر رجلاَ قبطياَ فقيراَ أن يلطم ابن أمير مصر وفاتحها – عمرو بن العاص – على وجهه يوم الحج الأكبر، والحجة قائمة والحق أبلج والباطل لجلج. أما تعيين مكان المؤتمر فإنه سيكون بقرار من جميع اللجان التى شكلت فى مصر والهند ونجد وتونس وغيرها من البلدان الإسلامية، وهذا المكان الذى لم يعين بعد يجب أن يكون فى أرض حرة مستقلة تضمن حكومتها حفظ كرامة المؤتمر وإطلاق الحرية له فى تقرير ما لابد منه، ولابد أن يكون فى المؤتمر ممثلون لكل أمة من الأمم الإسلامية، لا فرق بين الأمم المستضعفة والمستقلة، وقد ورد إلينا من أكثر اللجان قرارات استحسان عقد المؤتمر فى مكة إجابة لدعوة عبد العزيز آل سعود سلطان نجد وملحقاتها، وكلفونى بأن أنوب عنهم فى عمل ما يلزم من إعداد الوفد الممثل لهم ووضع ما لابد من وضعه ليعرض على المؤتمر، فشكراَ لله على حسن ثقتهم بى، وسألت الله تعالى أن يعيننا جميعاَ بعنايته الصمدانية على العمل بمحاربة ومراضيه إنه مجيب الدعاء. وأجبرنى صديق لى من أمراء الأسرة المالكة المحبوبين لجلالة الملك المقربين منه أن جلالة ملك مصر لا يرغب فى الخلافة ولا يسعى لها، وعدم رغبة جلالته فى الخلافة فى نظرى كعدم رغبة دولة الغازى رئيس الجمهورية التركية، وامتناعهما عن قبول الخلافة لا يمنع المؤتمر أن ينتخب من يراه أولى بالخلافة وينفذ قراره بالوسائل المشروعة.
ونشرت للإمام جريدة الوطن فى عددها رقم 9055 والصادر بتاريخ 24 شعبان 1343 هـ الموافق 9 مارس 1925 م مقالة للإمام بعنوان:
الخلافة والحرمان الشريفان – ما يخص موضوع الخلافة ما يلى:
<< مضى على المسلمين زمن احتجبت فيه عنهم أنوار الخلافة العظمى حتى كانت لا تذكر إلا على المنابر يوم الجمعة فيسمعها المصلون سماع معتاد لا يحس بقوة تأثيرها، وبلغ التساهل بهذا المنصب النبوى أن صار الخليفة يسمى سلطان آل عثمان تهاوناَ بحقوقها وجهلاَ بتفسيرها، أنتج هذا التهاون ضعفاَ فى قوة الرابطة أدى إلى أن صار المسلمون يعينون الأجانب على الخليفة وأنصاره نسياناَ لحقوق هذا المقام النبوى أو تناسياَ، فلما أيد الله رجال الترك ونصرهم بنصره على أعدائهم، أدركوا أن هذا الاسم هو على غير مسمى ويتعين أن يعاد إلى ماكان عليه أو يلغى، وإعادته إلى ما كان عليه لا يكون بأمة واحدة بل بالمجتمع الإسلامى، فألغوا الخلافة حكماَ منهم على أنفسهم، وخلعوا الخليفة من بينهم، وكأنهم يقولون للمجتمع الإسلامى هذه بضاعتكم ردت إليكم فاعلموا إنا معكم عاملون. قدر سبحانه هذا الأمر ليظهر شأناَ من شئونه هو إعادة الخلافة إلى ما كانت عليه، دليل ذلك يقظة المسلمين فى جميع أقطار الأرض وقيام أهل التقوى والعقل منهم للعمل فى شأن الخلافة والحرمين الشريفين، أما الخلافة فإن المسلمين جميعاَ يرونها المثل الأعلى للنبوة وأنه لا دين ودنيا إلا خصوصاَ فى هذا العصر الذى تفرقت فيه الأمة ؟ أيدى سبأ بفتن أوروبا وتدخلها فى الشئون الدينية، عرقلة لمساعى العاملين للخلافة ومساعدة للمبشرين، وذلك مقرر لدينا جميعاَ، واعتقادنا أن ما نشره المقطم [16] عن منع الإنجليز مؤتمر الخلافة ببنغال وملبار عن مواصلة العمل من هذا القبيل، مع أن تعيين الخليفة بمعناه خير عام للشرق والغرب كما قررنا فى مقالاتنا السابقة، والمسلمون جميعاَ يرون أن تعيين الخليفة واجب دينى بالإجماع لإقامة الشعائر والحدود ودفع المتلصصة والمتغلبة والظلم عن الشرق بأجمعه >>. وكان الإمام قد أرسل خطاباَ إلى الملك عبد العزيز آل سعود (( 1925 م – 1343 هـ )) يشير إلى موضوع الخلافة الإسلامية وإلى أعمال الملك فؤاد لترشيح نفسه خليفة عن المسلمين وهذا جزء منه [17]:
<<.... ولولا وجود المنافقين بيننا لما أصبح فى الشرق مستعمر، هذا وإنى منذراَ ألغى الترك الخلافة وخلعوا الخليفة وأنا والحمد لله اعمل لتقوية روابط الإخاء بين الدول الإسلامية مع ما ألاقيه من حرب المنافقين، وكنت أحب أن يكون المؤتمر الإسلامى فى أنقرة، حتى أظهركم الله وأكرم بكم مكة وأعزها وطهرها من أهل الإلحاد والظلم فى الحرم.. ... وقد كان بعض العمال والموظفين فى مصر يعملون فى الخلافة لشخص معين حتى أفسدوا على الأمم عقائدها، فاتحدت بهم جمعية الخلافة فى الهند، فأسرعت وبينت لإخوانى فى الله: شوكت على والدكتور أجمل خان والأستاذ الأنصارى وكفاية الله وغيرهم حقيقة الأمر، فرفضوا اتحادهم بعلماء الأزهر الذين توجهوا إلى الحجاز، فكتبت لأخى الشيخ عبد الله بن سالم كبير علماء نجد، فشرح الله صدره وكتب لى بما طمأن قلبى، وإنى الآن مع أهل الإيمان والتقوى من المصريين والهنود وأنصار الحق بنجد وجاوا والبوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا وسومطرة وغيرهم، بل وجميع الأمم الإسلامية الذين حفظ الله قلوبهم من ظلمة البدع وحفظ أبدانهم من موالاة الأعداء، يرون العمل معنا ليكون المؤتمر الإسلامى العام بمكة المكرمة >>.
وقد تلقى الإمام الرد التالى من الملك عبد العزيز ((1925 م – 1343 هـ )) هذا نصه:
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى جناب الأجل المكرم فضيلة السيد محمد ماضى أبو العزائم سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله على الدوام..
ثم ورد إلينا كتابكم المؤرخ فى 15 يناير الماضى، وأسرتنا أخباركم، وما ذكرتم صار عندنا معلوماَ خصوصاَ ما ذكرتم من نصائحكم الثمنية الخالصة جعلناها على الخاطر كذلك دفاعاَ عن الحق وأهله، هذا أقل ما أمثال فضيلتكم لا زلتم موفقين لكل خير، وإنى أحفظ لكم هذا العمل الطيب مع الشكر الخالص، وستحفظ لكم عندنا أجمل ذكرى، وبحول الله إن الأمور ستكون وفق ما يرضاه كل مخلص لله ورسوله، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه وكتابه ويعلى كلمته ويجعلنا من أنصاره، والأمل ألا تنقطع عنا كتبكم المفيدة والحاوية لهذه المعانى الطيبة.. هذا ما لزم بيانه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته [18].
انعقاد المؤتمر العام بمكة المكرمة:
ومنذ الإعلان عن إلغاء الخلافة الإسلامية، وبعد ذلك بعامين من العمل المضنى، أعلن الإمام عن موعد انعقاد مؤتمر الخلافة الإسلامية بمكة المكرمة فى موسم حج عام 1344هـ وبالتحديد يوم 9 يونيو 1926 م بمكة المكرمة برئاسة الملك عبد العزيز آل سعود. وكانت جماعة الخلافة الإسلامية بوادى النيل قد أعلنت قبل السفر إلى مكة المكرمة – وكما ذكر ذلك مراراَ من قبل – عدم صلاحية مصر لانعقاد المؤتمر العام للخلافة بها للأسباب التى بينها سماحة السيد محمد ماضى أبو العزائم رئيس جماعة الخلافة الإسلامية بوادى النيل فى قرارات اللجنة التنفيذية ومقالاته المنشورة فى الصحف وأقره عليها العالم الإسلامى بأسره.
وكان عبد العزيز آل سعود ممن فكر أن يكون خليفة للمسلمين فهو ملك مكة والمدينة والحجاز فهو فى نظر نفسه أولى بها، ويؤيده فى ذلك بعض قادة العرب وكذلك بريطانيا، والملك فؤاد يريدها أيضاَ لنفسه فهو ملك أقوى دولة عربية إسلامية وفيها الأزهر الشريف وفيها العلماء وتؤيده فى ذلك بريطانيا أيضاَ، فهى تؤيد هذا وذاك كل على حدة، تريد من ذلك الوقيعة بين الدول الإسلامية، وكان هناك مرشحين من المغرب وسوريا والعراق وغيرهم كل منهم يريد أن يكون الخليفة.
وبمجرد صدور هذا الإعلان أعلن الملك فؤاد عن مقاطعته للمؤتمر منذ بدء انعقاده، ظناَ منه أن هذا يعرقل سيره ويعرضه للفشل، ولكن الصحافة المصرية بعثت بمندوبيها لحضور المؤتمر ، وخاصة جريدتى الأهرام والأخبار التى مثلها الأستاذ الكبير أمين الرافعى. حضر الإمام هذا المؤتمر بصفة رسمية، فد أقامه الإخوان فى البلاد وآلاف مؤلفة من الناس، وكان معه توقعات من العمد والمشايخ والأعيان والموظفين تفيد بتوكيل الإمام أبى العزائم أن يكون ممثلاَ للشعب المصرى فى مؤتمر الخلافة الإسلامية، وكانت هذه الخلافة مقامة فى مصر ولكن على المؤتمر العام وشعبية وليست رسمية.
خرج الإمام محرماَ بالحج من داره، ومن ورائه خمسمائة من خاصة أتباعه ومن يتقلدون مناصب عليا فى مؤتمر الخلافة، فقد كانت مهمة دينية وسياسية.
وفى يوم 5 يونيو 1926 م تم الاجتماع لأعضاء الوفود بمقر إقامة الإمام بمكة المكرمة للتعارف، وقد قام الإمام بذلك بنفسه، وفى يوم 6 يونيو كان الاجتماع أيضاَ بدار الإمام بعد صلاة العصر حيث افتتحت الجلسة بآيات من الذكر الحكيم. بعدها فسر الإمام للحاضرين ما قرأه القارئ، وكان المترجمون يترجمون إلى الإنجليزية هذا التفسير لعلماء الهند وجاوا، ونترك المجال لما ذكره محرر جريدة الأهرام[19].
ثم انتقل الشيخ إلى التكلم فى مسألة المؤتمر، وأدلى بآدابه الواجب اتباعها فى أداء هذه المهمة الإسلامية باتحاد وتضامن، وأثنى كثيراَ على ملك الحجاز، ثم تناقش الأعضاء اقتراحاته، وكان رد الشيخ بأنه يجب التكاتف لرفعة كلمة الإسلام والمسلمين وحفظ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغرض الأسمى. وفى يوم 9 يونيو وهو يوم افتتاح أولى جلسات المؤتمر، وبعد أن قرأ ملك الحجاز خطابه، قال محرر الأهرام فى مقالته: << وتم فى الحال انتخاب الرئيس ونائبين للرئيس، فأسفر ذلك عن انتخاب شريف باشا عدنان ونائبيه سليمان العدوى الهندى، وصفاء الدين أفندى من مسلمى روسيا، وقد قرأ الشيخ حافظ وهبة أهم الأعمال المعروضة وأخذ الرأى عليها باسم الملك عبد العزيز آل سعود وغايته
1-تعارف المسلمين بعضهم مع بعض وتوحيد كلمتهم تحقيقاَ لقوله تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة ) [20].
2-النظر والسعى فى ترقية شئون المسلمين اجتماعياَ وأدبياَ واقتصادياَ. 3- النظر والسعى فى توطيد الأمن فى الأراضى المقدسة والعمل على تعميم الوسائل الصحية وتسهيل المواصلات وتسهيل أمور الحج وإزالة كل عقبة فى سبيل أداء الفريضة وضمان سلامة الحجاز وحفظ حقوقه.
4- يكون انعقاد المؤتمر فى مكة كل عام فى موسم الحج، فإذا تعذر ذلك فيكون فى بلد مستقل، وإذا تعذر ذلك فيكون كما قال تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [21].
ولم يشر الملك عبد العزيز لا من قريب ولا من بعيد عن الهدف الذى انعقد من أجله هذا المؤتمر، كذلك الشيخ حافظ وهبة وزيره تلا النقاط الأربعة السابقة التي ليس فيها أي إشارة إلى موضوع البحث، ألا وهو إلغاء الخلافة الإسلامية وضرورة إعادتها !! وبعد الاستراحة أحيط المجلس علماَ بأن مصر ليست ممثلة تمثيلاَ رسمياَ، ولكن المؤتمر اعتبر الشيخ محمد ماضي أبو العزائم رئيس جماعة الخلافة بوادي النيل حاضراَ عنها. وقد قدم الإمام للمؤتمر أربعة عشر اقتراحاَ [22] لصالح الإسلام والمسلمين، وانتهت جلسات المؤتمر بالفشل رغم الجهود التي بذلها الإمام لإحياء الخلافة وإعادة منصبها، لأن السياسة الاستعمارية كانت من وراء القصد.
والملاحظ أن المؤتمر الذي ظل المسلمون يعملون له لمدة عامين بهمة ونشاط لا تعرفان الكلل
، ورغم ما تعرض له زعماؤهم وقادتهم من كيد المتجبرين وعسف المحتلين، والذى كان الغرض الأساسي من انعقاده النظر في موضوع الخلافة وتعيين الخليفة.. قد انصرف منذ اللحظة الأولى التي ألقى فيها الملك عبد العزيز خطابه عن الهدف الأسمى إلى مسائل فرعية بحتة تاركة مسألة الخلافة!! وقد بدأ الانقسام في صفوفه منذ الجلسة الأولى عندما تغيب رئيسه عن الحضور، ثم فترت جلساته شيئاَ فشيئاَ، وما هي إلا بفعل القوى المعادية لائتلاف الشعوب الإسلامية.
ولم يبت فى شأن الخلافة ومقرها ولا الخليفة والصفات الدينية والزمانية التى يجب أن تتوفر فيه، ولم يصدر أى قرار يتعلق بهذا الشأن حتى الآن.
وقد ذكر شهود العيان لهذا المؤتمر أنه قد قام كل كل إنسان يشيد بما يراه فى إمامه أو زعيمه الذى يرشحه لهذا المنصب، إلى أن جاء دور الإمام فقام رضى الله عنه ليشرح موقف الخلافة وصفات الخليفة وابتدأ خطبته بمقدمة، وكان رضى الله عنه إذا تكلم يجعل بين المقدمة والخطبة لحظة سكون اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان يجعل بين الآية والآية سكته، وفى هذه اللحظة قام السيد محمد رشيد رضا – صاحب تفسير المنار – وكان من المؤيدين للملك عبد العزيز وقال: بسم الله.. وتحدث عن الملك بدون أن يقدمه أحد، يقول الشيخ أحمد سعد العقاد وكان من الملازمين للإمام: ما رفعت صوتى قط فى حضرة إمامى ولكن هذه هى المرة الأولى التى رفعت فيها صوتى فى حضرته ولكن فى الله ورسوله فقلت: يا سيد محمد رشيد رضا: إن الإمام لم يكمل كلمته وأنت الآن عارضته وأظن أن أى إنسان له كلمته والرجل لم يقل إلا المقدمة وتعتبر هذه مغالطة، فأومأ الإمام للشيخ العقاد بالسكوت فأكمل السيد محمد رشيد رضا كلامه، ثم بعد ذلك قام الإمام، وبنظرته الثاقبة أكمل بكلمات معدودة فقال: (( لا أريد خليفة للمسلمين يضع الجندى البريطانى حذاءه فوق رقبته )) إشارة إلى أن أى بلد مستعمر أو يوالى المستعمرين لا يصح أن تكون الخلافة منها وفيها.
وجاء يوم عرفة واجتمعت الوفود فى مسجد نمرة واتفقوا على أن يلقى خطبة الجمعة الإمام أبو العزائم رضى الله عنه، والتمسوا ذلك من الملك عبد العزيز فأجاب ملتمسهم، فقال لهم الإمام: (( هذا مقام لا ينبغى إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لخليفته )) فارتفعت أصواتهم جميعاَ بقولهم: (( قد أقمناك ورضيناك خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )) فخطب الإمام خطبة تفوق وصف الواصف، وصلوا خلفه الظهر والعصر جمع تقديم كما هى السنة [23].
ولقد كانت هناك بعض المضايقات والاستفزازات من الملك عبد العزيز آل سعود بسبب أفكاره الوهابية، دعا الملك عبد العزيز الوفود والحاضرين إلى مأدبة الغذاء، وكان الطباخ قد وضع الأرز على هيئة قباب كبيرة، وكان الإمام يجلس قريباَ من الملك عبد العزيز ففهم هذه الإشارة، فأراد الإمام أن يلمح للملك، فضرب يده فى القبة وقال هذه القباب هى التى يجب أن تهدم وليست قباب سيدنا مالك والسيدة خديجة وأولاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب الملك عبد العزيز وقال: أعجب لكم أيها المصريون، تقدسون الطين وتكفرون برب العالمين، فكبر من مع الملك تكبيرة ظناَ بأن ملكهم قد انتصر بكلمته هذه، فقال الإمام الإمام فى هدوء: ألم تكن الصفا والمروة من شعائر الله وهى من الطين ؟ فألجم الرجل.
وحدث أن أرسل الملك عبد العزيز آل سعود إلى الإمام رضى الله عنه أحد كبار علمائه الموثوق بهم عنده – وكان اسمه مدثر – وقال له: اذهب إلى هذا الرجل وجدد له إيمانه لأنه صوفي، وكان الإمام رضى الله عنه مضجعاَ على أريكة فقرب الشيخ العقاد الشيخ مدثر من الإمام، فرحب به وطلب له كرسياَ وقال له: مرحباَ بكبير العلماء مرحباَ بمفتي البلاد مرحباَ بالشيخ مدثر، إني أشعر بألم في قلبي فأرجو أن تضع يدك على قلبي وتقول لا إله إلا الله، لعل الله يخفف ألمى، فجلس الرجل ووضع يده فوق قلب الإمام وأراد النطق بالشهادة فلم يقل إلا: لا لا لا لا لا.. والتجم لسانه ولم ينطق بالكلمة، ثم بكى وقال: سامحني أيها الشيخ، جئتك مغتراَ، وأرجو يا إمام أن تدعو الله لي أن يثبت إيماني وأن يثبتني على هذه الكلمة، فدعا له الإمام وجدد له إيمانه، وجرى ونسى حذاءه وصار يتخبط في مشيته وجعل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداَ رسول الله.
العمل على انعقاد مؤتمر آخر للخلافة الإسلامية بالقدس:
وبعد عودة الإمام من المؤتمر إلى مصر جدد الاتصال بزعماء وملوك البلاد الإسلامية وخصوصاَ رجال الهند، كما جدد الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامى آخر بمدينة القدس وحددوا لذلك يوم 31 ديسمبر 1931 م، وحاولت السلطات البريطانية إفساد هذا المؤتمر ومنعت الحكومة المصرية إعطاء تأشيرة خروج للإمام، كما رفضت سلطات الانتداب فى فلسطين السماح له بالخول، وأراد أن يحصل على ترخيص بمقابلة زعماء الهند فى ميناء السويس بسبب وجودهم على الباخرة المتجهة إلى لندن لحضورهم مؤتمراَ مع الحكومة البريطانية ثم توجههم بعد ذلك إلى حيفا، فمنعت الحكومة الباخرة من الوقوف فى ميناء بور توفيق وجعلت تموين الباخرة بالفحم من ميناء بورسعيد، وإزاء ذلك لجأ إلى حيلة نجح من خلالها فى مقابلة الوفود المشاركة وكان على رأسها أمين الحسينى مفتى فلسطين والأمير شوكت على، والأمير محمد على، والدكتور محمد إقبال، فقد أوفد ولده السيد محمد الحسن بسيارة الإمام الخاصة فى اتجاه السويس تضليلاَ للسلطات التى ظنت أن الإمام هو الذى بالسيارة، ثم استقل الإمام سيارة أجرة ذهبت به ليلاَ إلى بورسعيد حيث قضى الليل فى ضيافة نقيب الأشراف الشيخ محمد الصياد متعهد تموين السفينة بالفحومات الذى عمل له ترتيباَ خاصاَ تمكن الإمام به من دخول الميناء والصعود على السفينة والاجتماع بزعماء الهند والتشاور معهم فى شئون المسلمين وعقد مؤتمر القدس، ولم تعرف السلطات ذلك إلا بعد رجوع الإمام للقاهرة.
وانعقد المؤتمر الإسلامى بالقدس، ولم تمثل فيه كل الوفود التى سبق أن مثلت فى مؤتمر يونيو 1926 م، فكان على رأسه الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين والأميران شوكت على ومحمد على والدكتور محمد إقبال، وحددت أهدافه منذ اليوم الأول للانعقاد فكانت:
أولاَ: التعاون الإسلامى فى مختلف ميادين التعاون.
ثانياَ: نشر الثقافة الإسلامية لتنوير المسلمين بما يجب عليهم نحو الأخذ بالعلوم الحديثة والمحافظة على تراثهم.
ثالثاَ: الدفاع عن الأماكن المقدسة بما فيها القدس الشريف.
رابعاَ: إنشاء جامعة إسلامية فى القدس.
ولم يكن نصيب مؤتمر القدس فى ديسمبر 1931 م من النجاح أن الفشل بأقل من نصيب المؤتمر الإسلامى الأول بمكة المكرمة فى يونيو 1926 م، فكلا المؤتمرين أثرت فيه عوامل ذاتية نابعه من واقع العالم الإسلامى وحاضره من جهة، ومن ألاعيب وكيد الاستعمار والصهيونية العالمية من جهة أخرى، فأصبحا بذلك حدثين تاريخيين من حيث أنهما أول المؤتمرات الإسلامية فى العصر الحديث.
ولنا أن نبلور نتائج هذين المؤتمرين فيما يلى:
1-إن موضوع الخلافة كان من الأهمية بمكان، ويتضح من ذلك اهتمام الرأى العام الإسلامى به فترة تزيد على نصف القرن.
2- إن جهوداَ فردية من رجال مؤمنين بربهم مع قلة عددهم استطاعت أن توقف أطماع ملك مصر وأن تشل حركة المؤتمر المأجور ومن ورائه الاستعمار والحكومة، فلقد استطاع الإمام أن يكتل الزعماء المسلمين فى آسيا وأفريقيا ضد أطماع فؤاد، وأن يكشف حقيقة نواياه، وأن يشككهم فى مخططاته.
3- إن تفرق أمراء وقادة المسلمين كان السبب الأساسى فى تأثير المستعمرين عليهم وفى حملهم على عدم التعرض لمسألة الخلافة، لأنهم يرون فيها القوة المعنوية لاتحاد الأمم الإسلامية ضد مصالحهم التى تتلخص فى إبقاء الشعوب الإسلامية فى حالة جهل وتخلف لضمان تبعيتهم ولكونهم قوة بشرية واقتصادية هامة لهم.
4- إنه لو كتب لهذه المؤتمرات النجاح لتغير وجه التاريخ ولكان للمسلمين اليوم قوة وتأثير فى الموازين الدولية وهم ثلث سكان العالم حتى منتصف هذا القرن.
5- على أن هذين المؤتمرين كان لهما دوى هائل وأهمية تاريخية إذا قيسا بأحوال العالم الإسلامى فى الربع الأول من القرن العشرين حيث كانت البلاد الإسلامية جميعها تحت الاحتلال الأوروبى.
وسوف يذكر التاريخ للإمام المجدد السيد محمد ماضى أبى العزائم خطواته البناءة نحو جمع الأمة الإسلامية والعمل على اتحادها ووحدتها فى صعيد واحد.
[1]- السلطان عبد المجيد خان آخر خلفاء بنى عثمان، طرد من تركيا دولة الخلافة.
[2] - تولى فؤاد الأول مُلك مصر خلفا لفؤاء سلطان سنة 1922 – 1936 م.
[3] - كانت حجة مصطفى كمال أتاتورك – من يهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية ـ أن تركيا حديثة عهد.........................الرجعية – يعنى الإسلام – وأن وجودها فى قلب أوروبا يجعل من العسير تنفيذ ما أشار إليه الإمام.
[4] - الملك فؤاد.
[5] - سورة المائدة آية 2.
[6] - رواه البخاري ومسلم.
[7] - رواه مسلم.
[8] - صورة منشورة فى كتاب ( الإمام محمد ماضى أبو العزائم ) للأستاذ عبد المنعم شقرف.
[9] - ( 1878 – 1944 م ) وهو الذى اقترح انفضاض مؤتمر الخلافة الإسلامية على غير قرار لأن الشيخ الظواهرى كان يعمل على تزكية الملك فؤاد خليفة على المسلمين ، وقويت صلته بملك مصر فعينه شيخا للجامع الأزهر 1929 م واستقال 1935 م، حوّل الأزهر عن رسالته إلى جامعة على نظام حديث.
[10] - 1872 – 1944 م ( 1289- 1363 هـ ). آزار الحركة الوطنية المصرية بقلمه وماله، غير متقيد بتقاليد الأسرة، ساعد أهل طرابلس الغرب حين أغارت عليهم إيطاليا 1910 م.
[11] - أسسها سليم وبشارة تقلا بالأسكندرية ثم القاهرة سنة 1876 م.
[12] - والى الحجاز
[13] - سورة الحج آية 78 ز
[14] - سورة النساء آية 83.
[15] - عدد المسلمين وقتذاك.
[16] - جريدة المقطم أسسها يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس بالقاهرة سنة 1889.
[17] - جريدة العلم المصرى: العدد الصادر فى 9 فبراير 1925 م، وأيضا مجلة المدينة المنورة المجلد الخامس.
[18] - مجلة ( المدينة المنورة ) المجلد الخامس.
[19] - جريدة الأهرام العدد الصادر فى 6 / 6 / 1926 م.
[20] - سورة الحجرات آية 10.
[21] - سورة التغابن آية 64.
[22] - راجع قانون الخلافة الإسلامية بوادى النيل.
[23] - كتاب (هداية السالك لعلم المناسك ) للإمام أبو العزائم رضى الله عنه.