إن خطب الإمام لصلاة الجمعة كان يدونها الكتبة بقدر المستطاع أثناء إلقائها، وقد نشر بعضها بالمجلات الأسبوعية للإمام، ولا يزال الكثير منها بحوزة البعض، وكان الإمام لا يزيد فيها عن ربع الساعة، ونعرض للقارىء نموذجاً لما تيسر جمعه من خطبة جمعة :
الحمد لله الذى ظهر للأرواح بغيبه المصون فشوقها إلى لقاء حضرته، وظهر للعقول بآياته الجلية الظاهرة فى الكائنات فأسجدها لجلاله وعزته، وظهر للأشباح بآلائه الوافرة وأياديه المتوالية فألزمها الشكر والعبادة الخالصة لذاته، سبحانه.. حير العقول فيما أظهر من غرائب قدرته وعجائب حكمته، ترى كوناً منظوماً خلقه عناية للإنسان، فما من حقيقة فى الكون إلا وهى مخلوقة مسخرة لك أيها الإنسان، خلق الهواء والماء، خلق الأرض والسماء، والزرع والنبات، بل وخلق يوم القيامة، وما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، فاشكر ربك أيها الإنسان وسارع لنيل رضوانه الأكبر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى بقلب سليم.
الحمد لله الذى جعل باب التوبة مفتوحاً أبداً، وأحب التوابين ورغبهم فى التوبة علماً منه أن الإنسان محل السهو والجهل والنسيان، فنحن ننساه ليل نهار وهو ينادينا بلسان الرحمة: توبوا أقبلكم، وتوجهوا إلى أواجهكم بوجهى، وأقبلوا على أقبل عليكم بنعمتى وفضلى.
والصلاة والسلام على من صاغه من نور جماله وجعله رحمة لعباد، رحم عوالم عالين ليلة إسراه صلى الله عليه وسلم حيث أشهدهم فيه ما أشهد ملائكة السموات السبع فى آدم، فهو صلى الله عليه وسلم مظهر جمال الله وكماله الذى أنست به أرواح عالين وأعلى عليين ليلة إسرائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد سمعها من الصادق فقبلها وانعقد عليا، وأشهد أن سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم عبده حقاً وفرد ذاته صدقا المخلوق لذاته، المصطفى قبل وجود العالم، من واثق الله له الرسل الكرام بنص القرآن.
أما بعد.. فيا إخوانى: إن للأرواح مشاهد علية، وإن للقلوب مظاهر جلية، وإن للأشباح آلاء تواليها وفية، فإذا أسبغ الله علينا نعمة الأبدان وجب علينا السعى لأن نغذى أرواحنا وقلوبنا بنعمة العرفان، إخوانى: إنا إذا اشتغلنا بتلك الدار الدنيا بملاذها وحظوظها وأهوائها وانصرفنا عن الله تعالى فى طلب ما يقوم به أبداننا ويلذذها وتركنا الواجب علينا نحو ربنا نكون أقل من البهائم الراتعه، لأن البهائم لو علمت أن لها يوماً تقوم فيه بين يدى الله تحاسب على النقير والقطمير ما اكلنا منها لحماً سميناً.
إخوانى: إن الموت مجهول وقته خفى آنه، وإنا فى تلك الدار معرضون له فى كل نفس، فمن لم يتذكره ويلاحظه ويحاسب نفسه راح نادماً وأقبل على الله خائفاً، فطمئنوا قلوبكم باتباع حبيبه صلى الله عليه وسلم.
إخوانى: إن إبليس كان أعبد الخلق أجمعين، وكان أعلم الخلق أجمعين، مكث سبعين الف سنة يعبد الله وكل ذلك لم ينفعه بشىء، بل طرده الله من رحمته لأن الله يحب أخلاقه الجميلة، فمن صلى الفرض فقط كان من أهل عليين بل من أعلين، قال الله تعالى: (وأنتم الأعلون) [7]، إذا تقرر هذا فأخلاق إبليس لا تجهل واخلاق الله لا تنكر، وها هى أخلاق الله تمثلت فى أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا عزمت على عمل يكرهه ربك فتذكر إبليس وما جرى له وجاهد نفسك فى سبيله، وإذا عزمت على عمل يرضى ربك ومنعك مانع من لذة وشهوة فسارع إلى تنفيذه غير هياب ولا وجل، فإن الأخلاق الطاهرة الزكية تجذب العبد إلى الله جذبة عالية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعاً وتسعين خلقاً من تخلق بواحدة منها دخل الجنة؛ فقال ابو بكر: أفىّ واحدة منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: فيك كلها يا أبا بكر)[8].
إخوانى: ليس بعد الأخلاق إلا شهود رب العزة، من تخلق بأخلاق الله كاشفه الله بما لديه، إن العبادة ليست هى عبادة الأشباح إنما هى عبادة القلوب والأرواح، ذلك لأننا نتوضأ غافلين ونصلى ساهين ونصوم جاهلين لأن القلب لم يعمل، والله لا ينظر إلى الأشباح وإنما ينظر إلى القلوب والأرواح، فجملوا النوايا والمقاصد والاعتقاد ينفعكم الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) [9]
الخطبة الثانية:
الحمد لله القريب من كل عبد قربه واجتباه، والملبى لكل من دعاه، المجيب لمن ناداه، خصوصاً من ناداه تائباً مقبلاً عليه مجيباً، هو القريب فلا يبعد، والظاهر فلا يحجب، وإنما المحجوب نحن لأن قلبوبنا شغلت عن الله فلم تشهد براهينة وآياته الظاهرة فى الكائنات.
والصلاة والسلام على طب القلوب وشفاء النفوس والسر السارى فى الآيات ورحمة الله العظمى لأهل الأرض والسموات، ورضوان الله عمن أخبرنا أنه رضى الله عنهم وخصوصاً العشرة الكرام الذين بذلوا أنفسهم وأوطانهم وأولادهم فى سبيل نصرة الله وإحياء سنة رسول الله، ورضى الله تبارك وتعالى على القائمين بإحياء السنة المجاهدين فى سبيل كشف الغمة.
اللهم إنك جعلت النيل بركة لمصر فبارك لنا فى النيل واحفظه من الذين يقسمونه بيننا ويتحكمون فينا، اللهم انفع زرعنا وضرعنا ووسع رزقنا، اللهم إن القلوب اختلفت بينها، والألسنة انحرفت فأصلحها، اللهم أظهر أفراداً من أحبابك ولهم أمورنا واجمع بهم كلمتنا وجدد بهم ما اندرس من معالم الدين، اللهم إننا فقراء فأغننا، جهلاء فعلمنا، مرضى فاشفنا، أذلاء فأعزنا، وأغننا بك عن شرار خلقك، اللهن غير ما بأنفسنا حتى تصلحنا، اللهم اصلح الراعى والرعية واحمعنا جامعة إسلامية، اللهم أهلك الكافرين بالكافرين وشتت جموعهم ومزق شملهم وأعدهم عبيدا يباعون فى أسواقنا إنك مجيب الدعاء.