كان الإمام على يقين بما يحاك للعالم الإسلامى من مؤامرات وسوء نية لا تلبث أن تظهر فى أى وقت من الأوقات، وكان يعلم أن أعداء الإسلام والمسلمين لن ينسوا حروبهم مع المسلمين والدرس الشديد الذى تحملوه من جراء ذلك.
وإضافة إلى ذلك فإن الإمام كان يرى أن الصليبيين إذا كانوا قد أخفقوا منذ العصور الأولى للإسلام فى الاستيلاء على فلسطين محتجين ببيت المقدس كعلة، إلا أنهم قد أفادوا من الدروس ما يجعلهم يتفادون الهزيمة. إن واقع العالم الإسلامى عامة والعربى خاصة، وتحالف الصهيونية العالمية بأموالها الوفيرة إلى جانب القوى الصهيونية الحديثة، تهيئ لها الفوز والنجاح فى إخماد ما بقى من أنفاس المسلمين.
ولذلك فقد وجه الإمام كل ما أوتى من قوة فى الدعوة إلى الاتحاد فى مواجهة الفرقة والعزلة التى تردت فيها الأمة الإسلامية، وقد نبه الإمام منذ أواخر القرن الماضى وحتى انتقاله إلى جوار ربه، إلى أن خطر الاستعمار يكمن فى تحالفه مع الصهيونية العالمية، ولكن لم تكن هناك وحدة عربية وإسلامية تقف فى وجه هذا التحالف.
ومنذ فجر هذا القرن، وقبل أن تأخذ مشكلة فلسطين الشكل الذى اتخذته بعد وعد بلفور، بل قبل ذلك بكثير ومنذ بدايات استعمار الشعوب الإسلامية فى أواخر القرن التاسع عشر والإمام رضى الله عنه يحذر من هذه المشكلة.
يقول مستغيثاَ برسول الله صلى الله عليه وسلم:
يـا رسـول الله ودا
عممن كل الوجـود
جاس أهل الكفر دارا
بل طغى أهل الجحود
أنت يا مولاي أولى
بالجميع مـن الجدود
قد طغى الكفار حتى
عززوا كـل اليهـود
أدرك الأمة أسرع
حققـن كـل الوعود
ولا شك أن الإمام كان يعلم بما يجرى فى أرض فلسطين، وإلا لما أشار إلى أن موسى شاريت اليهود، يعمل ضابطاَ بالجيش العثمانى فى فلسطين ليمهد لدخول الجيوش الإنجليزية ومعها الكثير من مهاجرى اليهود، كما يشير إلى فيلق البغالة بحملة الجنرال اللنبى فى فلسطين وإلى أن قائده هو دافيد بن جوريون الصهيونى الخطير، وهذان إنما كان يعملان على إثارة الفتن والقلاقل وتدبير المؤامرات حتى يسهل دخول الجيوش منتصرة انتصاراَ رخيصاَ.
وكان رضى الله عنه يبعث بالبرقيات والرسائل إلى كبير روما قناصل الدول وإلى الصحافة المصرية، ويبعث برسائل إلى الملوك والرؤساء العرب والمسلمين يحثهم فيها على الجهاد ويذكرهم بأعمال الاستعمار الاستيطانى فى أمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا، ويكشف لهم عن نوايا الصهيونية فى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين من الفرات إلى النيل، وكان يقول لهم: إن ما تتعرض له فلسطين اليوم ما هو إلا بداية لما يتعرض له الوطن الإسلامى والعربى كله.
ويقول:
فى فلسطين فتنة من رأها
قال صغرى لكنها نار واصب
ويقول:
وي فلسطين هي البركان
بل فتنة عميا تدك الأخضران
ولما قامت ثورتان فى فلسطين عامى 1920، 1921 م، خاطب الإمام زعماء العرب وزعماء الدول الإسلامية أن يقفوا بجوار الشعب الفلسطينى ويساندوا قادته.
وعندما أعلن وعد بلفور عام 1917 م واستولى الإنجليز على فلسطين ليعطوها لليهود لقمة سائغة، يقول الإمام موجهاَ الخطاب إلى الشريف حسين بن على:
<< لعل الشريف حسين بن على لم يمع بوعد بلفور بعد، ولعل له العذر، فقد لا يكون قد علم به !! لأن وزير خارجية بريطانيا صرح به على بعد آلاف الأميال !! ولكن ألم يسمع الشريف بأذنيه [1] ما قاله اللنبى عام 1918 م مخاطباَ صلاح الدين ؟ لا أظن ذلك، فقد كان يقف بجانبه إن لم يكن خلفه، أفبعد هذا ما زلت يا حسين تثق بوعود وعهود هؤلاء ؟ وهل وفوا بعهودهم ووعودهم لأمثالهم من أمم وشعوب ودول أوربا المسيحية التى تدين بدينهم وتتشاكل معهم فى اللغة والآداب ؟ ( فبأى حديث بعده يؤمنون ) [2] ؟!!>>.
وفى أعقاب عام 1918 م نشرت الحركة الصهيونية صوراَ لمشروع هيكل جديد يقام مقام الصخرة المباركة ومطالبين بشراء المنطقة المحيطة بحائط المبكى، وعندئذ بادر المسلمون بإنشاء جمعية (( حراس المسجد الأقصى )).
ولم تهدأ ثورة الإمام، فرغم الحصار الذى ضرب عليه فى القاهرة إلا أنه ألهب الشعوب العربية والإسلامية، فكان يبعث بالرسائل إلى الملوك والرؤساء العرب والمسلمين يحثم فيها على الجهاد ومنع اليهود من تنفيذ مخططهم لأنه سيكون بداية لسلسلة من المخططات الأخرى.
وعندما علم أن بعض أبناء الشعب الفلسطينى، أغرتهم الأسعار الخالية التى يقدمها اليهود ثمناَ للأراضى الفلسطينية، أصدر فتواه الشهيرة ونشرها على صفحات الجرائد القومية والوطنية بالإضافة إلى مجلاته التى كان يصدرها، كما بعث بها إلى قادة الفكر والزعماء السياسيين، ومؤداها:
إن من باع شبراَ يملكه من أرض فلسطين فقد خرج بذلك عن دين الإسلام ودخل فى دين الكفار، مع ما يترتب على ذلك من آثار أسرية واجتماعية وقانونية.
وكان لهذه الفتوى دوى شديد فى الأوساط الشعبية والرسمية.
وقد نشرت جريدة الوطنية بعددها رقم 261 الصادر فى يوم الاثنين 2 ذى القعدة 1343هـ الموافق 25 مايو 1925 م مقالاَ تحت عنوان:
فتوى شرعية بتكفير بائع الأرض والمتوسط ببيعها لليهود
على إثر زيادة وزير المستعمرات البريطانية لفلسطين بعد زيارة لورد بلفور، رأينا الصحف التى تصدر فى فلسطين مجمعة على وصف هول الخطر الذى يتهدد الفلسطينيين، من بيع أرضهم لليهود، وحملت ولا تزال تحمل على البائعين والوسطاء حملات شديدة، وإن لم تذكر الأسماء لسوء الحظ حتى أن جريدة مرآة الشرق دعت فى عددها الأخير إلى مقاطعة التجارة اليهودية والتجار فى فلسطين.
وبما أن كتابات الصحف والكتاب وقصائد الشعراء وخطب الخطباء وأقوال الجمعيات والأحزاب والزعماء يعتقدها الجمهور بأنها سياسية وهى تتسلح بسلاح الوطنية، وبما أن الوطنية والسياسية حديثتا عهد فى الشرق لهما ما للدين من الحرمة والتأثير على القلوب والنفوس، رأينا الاستعانة بسيف الدين الحنيف فخابرنا بعض أحبار المسلمين فى فلسطين كما خابرنا بعضهم فى مصر وسألناهم إذا كان الدين الإسلامى يحكم بكفر المسلمين البائعين لأرضهم أو المتوسطين فى بيع أرض غيرهم لليهود ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فليتفضلوا بلإصدار فتوى شرعية فى هذا الموضوع.
والحق يقال إننا لم نجد بين العلماء الذين سألناهم الفتوى من يملك الجرأة والغيرة على الإسلام والمسلمين غير إمام المسلمين وحجته فى هذا الزمان الحبر الفهامة والبحر العلامة مولانا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد ماضى أبو العزائم من كبار علماء الإسلام، ورئيس مؤتمر الخلافة الإسلامية الكبرى العامة فى مصر، الذى يخضع لسلطانه الروحى سبعون مليوناَ من المسلمين فى سائر بقاع الأرض على اختلاف اللغات والأجناس والبلاد، والذى وهب ماله ونفسه وأولاده فى سبيل الله وسبيل الإسلام والمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها شمالها وجنوبها، وجاهد ولا يزال يجاهد فى هذا السبيل القويم، ومقالاته فى أمهات صحف مصر والبلاد الإسلامية خير دليل على صدق ما نقوله عن إفناء ذاته الشريفة فى مصلحة الإسلام والمسلمين.
ولذلك لما قدمنا له الاستفتاء تفضل بوضع الفتوى الشرعية، فجئنا بها إلى القراء الكرام وسنطبعها على وحدة ونوزعها على من يطلبها مجاناَ من مسلمى الأرض قاطبة، وإلى القراء نص الاستفتاء والفتوى:
الاستفتاء الشرعى
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمد ماضى أبو العزائم.. نفع الله الإسلام والمسلمين بعلمه وفضله: ما حكم الله ورسوله فى اليهود الصهيونيين الذين احتلوا أرض فلسطين بالقوة القاهرة وخدعوا أهلها فابتاعوا عقارهم منهم ليجلوهم عنها ويجعلوها وظناَ قومياَ لهم ؟ وما حكم من والاهم ووادهم ببيع عقاره لهم ؟ وحكم من أعانهم على شراء هذا العقار بواسطة أو ترغيب أو ترهيب ؟ وحكم من يتودد إليهم بمعاملة أو مجالسة أو مؤانسة ؟ وما الواجب على أهل فلسطين حيال هذا ؟ أفيدونا الجواب ولكم من الله الأجر والثواب.
الفتوى الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى لم يفرط فى الكتاب من شئ سبحانه وتعالى أكمل لنا ديننا الذى ارتضاه لنا، والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى بشيراَ ونذيراَ وداعياَ إلى الله بإذنه وسراجاَ منيراَ.. وآله وورثته وبعد.
فهذا جواب سؤالك أيها الأخ الغيور لدينه وإخوانه، أيدنى الله وإياك بروح منه، والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق.. أسأله أن يلهمنا الصواب فى القول والعمل وأن يهدينا الصراط المستقيم:
إن حكم الله ورسوله على اليهود الذين وفدوا ويفدون على فلسطين لأجل إنشاء وطن قومى يهودى فيها، هو ما بينه العلماء من الحكم على قوم احتلوا محلة قوم مسلمين عنوة، والمتعين على المسلمين وأهل ذمتهم من نصارى العرب أن يعاملوهم معاملة المغتصبين، وقد بين العلماء تلك المعاملة بالتفصيل، وفلسطين وطن لنصارى العرب قبل الفتح الإسلامى، وكانت محتلة بالروم، فأجلاهم المسلمون عنها، وعاهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نصارى فلسطين عهداَ يحتم على النصارى أن لا يسكن معهم يهودى، وهذا نص العهد.
روى الإمام ابن جرير الطبرى بسنده فقال: حاصر أبو عبيدة بيت المقدس، فطلب من أهله أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولى للعهد عمر بن الخطاب، فكتب إليه بذلك فقدم، وهذا ما عاهدهم عليه بنصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله: << عمر >> أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناَ لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من غيرها ولا من صليبهم ولا من شئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل الذى على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع مع أهله فإنهم لا يؤخذ منهم شئ حتى يحصد حصادهم.. وعلى ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذى عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان وكتب وحضر سنة خمسة عشر.
وبصريح هذا العهد يكون كل نصرانى من عرب فلسطين بتودده لليهود أو موالاته لهم أو بيعه أرضاَ لهم خائناَ للعهد خارجاَ للعهد خارجاَ عن الذمة يجب على المسلمين عند التمكين أن يجلوه عن فلسطين لخيانته، ويكون كل مسلم وإلى الصهيونيين أو تودد إليهم مرتداَ عن الإسلام ؛ وبذلك تحرم عليه زوجته لكفره ووجب علينا أن لا ندفنه فى قبور المسلمين ولا نصلى عليه، وكل من يتوسط فى بيع العقار من المسلمين أو نصارى العرب لليهود يكون حكمه كحكم البائع.
الأدلة من القرآن
قال الله تعالى: ( ألم تر إلى الذين تولوا قوماَ غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعد الله لهم عذاباَ شديداَ إنهم ساء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين * لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاَ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [3]. بين الله لنا فى هذه الآية الكريمة الحكم على المسلمين الذين تولوا اليهود وناصحوهم فى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا مسلمين ظاهراَ فأخرجهم الله من الإسلام بقوله: ( ما هم منكم ) وبين لنا سبحانه وتعالى أنهم ليسوا من جنس اليهود بقوله: ( ولا منهم ) فلم يشدد القرآن الكريم على قوم كما شدد على من يوالى اليهود فى كل أرض.
فكيف يكون التشديد على من يواليهم ويبيع لهم عقاره فى أرض بيت المقدس حيث قبلة الإسلام الأولى التى حرم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه على النصارى أن يسكن معهم فيها يهودى بنص العهد المتقدم، فبائع العقار لهم أو المتوسط فى بيعه أو الذى يجد فى قلبه ميلاَ إلى رجل أو امرأة منهم بعد أن احتلوا فلسطين عنوة رضى بما يغضب الله تعالى، وخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية، خصوصاَ بعد علمه حكم الله فى هذا الحادث.
ومن حكم عليه طمعه أو شهوته فأباح لنفسه ما حرمه الله عليه باء بما تعهد الله به الموالين لمن حاد الله ورسوله.
ومسلم يزوج ابنته للموالى من المسلمين لمن حاد الله ورسوله وهم اليهود بنص الآية الشريفة أو يصلى عليه إذا مات أو يدفنه فى مقابر المسلمين فهو مفارق لما عليه الإجماع، قال تعالى: ( أعد الله لهم عذاباَ شديداَ إنهم ساء ما كانوا يعملون ) إلى قوله سبحانه: ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ووجب علينا أن نعامله بما قررنا، والأمر دقيق جداَ بدليل قوله تعالى: ( ويحذركم الله نفسه ) [4] وقوله سبحانه: ( لا تجد قوماَ يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) [5] الآية، فنفى الله الإيمان عن كل متودد لمن حاد الله ورسوله مطلقاَ وخصوصاَ اليهود، فإن الآية الشريفة نزلت فيهم.
الأدلة من الفقه
معلوم أن العدو المناوئ للمسلمين المعلن الحرب عليهم إذا قارب الدروب وجب أن تطلب غرته، فكيف بمن احتل محلتهم طامعاَ فى أموالهم ؟ فإذا لم يقدروا فالواجب مقاطعة العدو، فإن الموالى له والمتودد إليه بنوع من أنواع البيع له أو الشراء منه أو مساعدته يبوء بما أوعده الله به من الخلود فى النار الذى لا يكون إلا لمن مات كافراَ أو من قتل مؤمناَ متعمداَ.
وفى الأثر عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( لقتاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودى خلفى تعال فاقتله ) أخرجه الشيخان والترمذى.
فحكم الله فيمن أتوا قوماَ وسعوا فى إجلائهم من أرضهم ولا قوة لهم على دفعهم أن يحفظوا أنفسهم من الفتن التى تسلب الإيمان بموالاتهم أو التودد إليهم، فقد ورد فى حديث الفتنة أن الرجل يصبح مؤمناَ ويمسى كافراَ، ولا فتنة أعظم من تلك الفتنة، وقد بين العلماء أحكام من احتل العدو بلدهم بالتفصيل، وهذا مأخوذ مما بينه إمام الأئمة مالك بن أنس فى مدونته الكبرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد ماضى أبو العزائم
صدى الفتويين [6] الشرعيتين فى فلسطين [7]
[ تلقينا من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله أفندى القلقيلى من كبار علماء المسلمين فى فلسطين وصاحب جريدة << الصراط المستقيم >> كتاباَ كريماَ ضمنه شكر فضيلته وإخوانه العلماء الأجلاء والزعماء وأهل فلسطين قاطبة لحضرة مولانا صاحب الفضيلة العلامة الجليل السيد محمد ماضى أبى العزائم لتفضله بالخدمة الدينية والوطنية التى أسداها للإسلام والعرب فى فلسطين بفتواه التى نشرناها، فجئنا بنص الكتاب حرفياَ، قال فضيلة الأستاذ القلقيلى:
إلى صاحب الفضيلة أبى العزائم..
<< لقد كان السلف الصالح من العلماء يصدعون بالحق ويبينون للناس شرع الله لا يخشون فى الله لومة لائم، فإذا سألهم سائل عن علم أجابوه، وإذا استهداهم مستهد هدوه، أولئك نجوم الأنام ومصابيح الظلام وحاملوا لواء العلم والقائمون بالحق، أولئك هم عماد الإسلام والعروة الوثقى التى ليس لها انفصام.
ثم خلف من بعدهم خلف وهنوا واستكانوا وجبنوا وهانوا اغتراراَ بالدنيا واستماته فى سبيلها وانقياداَ لشهواتها، فلم يستطيعوا أن يوضحوا للناس حكم الله فى النوازل ووجه الصواب فى المشاكل، فاختل نظام الدين واضطرب حبل اليقين، وغدت العامة كالمواشى السائمة هملاَ بلا راع وضلالاَ بغير داع.
لولا أن الله تكفل بألا يخلى الأرض من قائم بحجته ومبين لشريعته وهاد لخليقته ومقيم لدينه وموضح لسنته، فمن عليهم فى كل أمة وكل زمن وكل شعب برجل أو رجلين يكونان مناراَ كمنار الطريق، وأن من هؤلاء الأفذاذ الشيخ العالم الورع أو العزائم، استفتاه صاحب الوطنية فيمن يبيعون أرضهم من أهل فلسطين من اليهود أو يكونون وسطاء فى ذلك، فبادر الشيخ إلى إفتائه وبيان الحكم الشرعى فى ذلك مفضلاَ مبيناَ، مدعوماَ بالحجة والبرهان من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية والآثار التاريخية بفصاحة وبيان وجرأة، حتى ظهر الحق وتبين الحكم جلياَ لا مرية فيه، فجزاه الله عن أهل فلسطين وعن المسلمين والإسلام بأفضل ما جازى عالماَ جليلاَ يصدع بالحق لا يخاف فيه لومة لائم ولا عتو ظالم.
وإنى لأرفع إليه شكرى وشكر إخوانى العلماء خاصة وأهل فلسطين عامة، وأسأل الله ألا يحرم الإسلام من أمثاله، وألا يخلى الأرض من القائمين بحجة >>.
عبد الله القلقيلى
ويسرنا أن نقول أن صحف فلسطين وسوريا والعراق نقلت الفتويين فى أوجه مكان من صفحاتها، كما أن أئمة المساجد والخطباء والعلماء والمدرسين تكفلوا بتعميمهما، فإن الأولين كانوا يخطبون المصلين بعد أداء فريضة الجمعة بهما شارحين معانيهما، والآخرين ضمنوهما دروسهم الدينية التى يلقونها على الجماهير فى المساجد كما جعلوهما محوراَ لأحاديثهم فى الأندية العامرة الخاصة والبيوت يحرضون العامة والخاصة على اتباعهما ويحذرونهم من مخالفتهما، والأحزاب السياسية والجمعيات على اختلاف أغراضها وأديانها ومذاهبها عملت ولا تزال تعمل على ترسيخهما فى الأذهان وتعميمهما فى كل مكان.
وقد تعلق الجميع بحب السيد محمد ماضى أبى العزائم صاحب الفتوى الأولى الكبرى وتمنوا ولا يزالون يرجون أن يشرفهم عن شكرهم العميق، وحبهم لمولانا صاحب السماحة الحسيب النسيب بحر الشريعة الفياض السيد الشريف الحاج محمد سعيد أفندى الحسينى مفتى لواء غزة وصاحب الفتوى الثانية وقد عظم مكبرين شجاعته وإقدامه وتضحيته لما يعرفونه عن حرج موقف علمائهم ولا سيما الموظفين منهم أمام حكومة اليهود بفلسطين إذا ساروا فى هذا السبيل.
ومع أن الكتب التى وردتنا لغاية هذه الساعة التى نكتب فيها هذه السطور كلها طافحة شكراَ للإمامين الجليلين الذين أفتيا، فإنها تصف كذلك عمق تأثير الفتويين فى النفوس، حتى أن الذين فى قلوبهم مرض عاهدوا الله على كتابه وأقسموا أيمان الطلاق بخشوع أن لا يبيعوا أرضهم ولا يتوسطوا فى بيع أرض غيرهم لليهود، ناهيك بالمرددين، فكيف بمن كانوا قبل الفتويين محجمين عن البيع والسمسرة لليهود.
وقد شرحنا هذا غلأى مولانا السيد محمد ماضى أبى العزائم عند تشرفنا بزيارته مع حضرة العالم الفاضل الشيخ عبد الله أفندى القلقيلى فتأثر فرجاَ وخر ساجداَ لله، فسجد معه جميع الذين كانوا حاضرين مجلسه الوقور، وارتفعت الدعوات بكل ورع من قلوب الأتقياء الصالحين إلى الله القدير أن ينفع المسلمين بالفتويين وأن يديم مولانا السيد محمد ماضى أبا العزائم إماماَ هادياَ وقمراَ مضيئاَ وداعياَ إلى الله بإذنه وسراجاَ وهاجاَ منيراَ، وننتهز هذه الفرصة لنقول: إن مولانا السيد محمد ماضى أبا العزائم أقام مأدبة كبرى لفضيلة الشيخ عبد الله أفندى القلقيلى تكريماَ لشخصه الكريم ولقومه الكرام ]..
وكان الإمام على اتصال مستمر بزعماء وقادة الشعب الفلسطينى، فقد بارك المجاهد الوطنى الكبير (( عز الدين القسام )) الذى قاد أعظم ثورة فى تاريخ فلسطين والتى دوخت بريطانيا، فحشدت لها ثمانين ألف جندى بالإضافة إلى جيش الصهاينة وجيش عرب شرق الأردن بقيادة لورانس، ومع ذلك استطاعت هذه الثورة أن تصمد وأن تنتصر، وظلت 173 يوماَ تحاصر القدس، وينادى الإمام الزعماء والملوك والرؤساء العرب الذين كانوا يثقون فى وعود الحليفة بريطانيا وأنها سائرة فى حل القضية بالعدل – مبيناَ لهم وجهة نظره:
(( إن مصلحة بريطانيا تقتضيها أت يكون لها جسم غريب فى الوطن الإسلامى، ومصلحة اليهود أن يكون لهم وطن قومى فى فلسطين.. فالتقت المصلحتان، فلا يجوز منكم أبداَ أن تحاولوا إخماد الثورة بما توجهوه لأبنائكم من نصائح هى ليست بنصائح وإنما هى إضرار بهم وإضرار بمصلحة المسلمين جميعاَ، والأولى أن تمدوهم بالمال والسلاح والرجال حتى يخلصوا هذا الوطن ويطهروا بيت المقدس ن أرجاس الاستعمار والصهيونية على السواء)).
ويا ليتهم سمعوا النداء أو أخذوا بالنصيحة، فإن النتائج – مهما عظمن فيها الخسائر – ستكون أشرف وأحق مما حدث مؤخراَ فى اتفاقية غزة – أريحا.. وما حدث بعد ذلك مما يراه المسلمون رأى العين.
[1] - بعد ان قام جيش الحسين بن على العربى المسلم بقتل جنود الحامية التركية وسحل قوادهم فى ذيول الخيول وتسليم القائد البريطانى اللنبى مفاتيح بيت المقدس ، وقف اللنبى متكبرا متجبرا أمام قبر صلاح الدين - وخلفه صغيرا ذليلا الحسين بن على ويسمع بأذنيه اللنبى - يقول لصلاح الدين: اليوم واليوم فقط ياصلاح الدين انتهت الحروب الصليبية ، ولم يفهم الخائن المعنى لأنه كان فرحا مسرورا وفكره مشغولا بالهدية التى فى انتظاره من اللنبى جزاء فعلته، ولكنهم غدروا به ونفوه فى جزيرة قبرص حيث مات هناك.
[2] -سورة الأعراف آية 185.
[3] - سورة المجادلة آية 14 – 17.
[4] - سورة آل عمران آية 28.
[5] - سورة المجادلة آية 22.
[6] - الفتوى الاولى كانت للإمام ابو العزائم رضى الله عنه ، والثانية كانت للسيد محمد سعيد أفندى الحسينى مفتى لواء غزة.
[7] - جريدة الوطنية، العدد 263، ج 3.