دوره فى ثورة 1919 :
كان الإمام يلتقى بالمفكرين والأدباء والزعماء السياسيين ومن بينهم سعد زغلول ، وكان الرجال يجتمعون مع الإمام بعيدا عن الأضواء ثم نقلوا اجتماعاتهم فى النادى الذى عُرف فيما بعد باسم ( النادى السعدى )، كان من بينهم محمد محمود باشا، وعبد العزيز باشا فهمى، وإسماعيل باشا صدقى، وعلى باشا ماهر، ومحمود فهمى النقراشى باشا، والغرابلى باشا وغيرهم من رجالات 1919 .
ولما ذهب سعد زغلول وصحبه إلى دار الحماية عقب مؤتمر الصلح فى باريس عام 1918 ليطالبوا بحقوق شعب مصر فى الحرية والاستقلال وطالبهم المندوب السامى بإبراز ما يثبت توكيلهم عن الأمة، عاد على باشا شعراوى وحمد باشا الباسل إلى مصر وطلبوا من الإمام أن يجمع لهم توقيعات أحبابه ومريديه، فاستمهلهم أسبوعًا ليكون عندهم عشرات الألوف من العرائض الموقع عليها من المواطنين بعناوينهم ، وقد برزت مقالاته التى التى نشرت فى جريدة الأخبار ومجلة السعادة الأبدية أنذاك والتى كانت تندد بالإنجليز فى ذلك الوقت لها أعظم الأثر فى بث الروح الوطنية والحث على مواجهة المستعمر ، كما وضع الإمام مطبعته التى كانت تسمى المدينة المنورة تحت تصرف سعد زغلول ورفاقه وتطبع لهم المنشورات السرية وهى ما أسماها الثوار بمطابع "اليد السوداء" التى كان يتعقبها الإنجليز فى كل مكان ، ولما قامت ثورة 1919 م كان الإمام المجدد من أوائل الذين قبضت عليهم السلطات البريطانية وأودع السجن فى محاولة منها لوأد هذه الثورة فى مهدها، وكان معه ولده الأكبر السيد أحمد محمد ماضى أبو العزائم الذى كان ملازمًا لوالده ملازمة كاملة يشاركه نضاله ويشد أزره وينظم له برامج تنقلاته ويرعى شئونه الشخصية وينشر دعوته ويردد عنه أفكاره ومبادئه .
وقد كان الإمام فى السجن كما كان خارجه ، فلم يلبث إلا أن صار مجتمع السجن كله- مساجين وحراسًا وضباطًا- من أتباعه والمتحمسين لدعوته ومبادئه. وانتقلت أنباء النشاط العزمى إلى مسامع طغاة الإحتلال البريطانى، فذهب أحد طواغيتهم ليتحقق من واقع الأمور بنفسه، وكان هذا الطاغوت هو رسل باشا الذى يشغل حكمدار القاهرة ، فرأى أن جميع المسجونين ومعهم جميع جنود الحراسة بالسجن ومن بينهم ضباطهم قد اكتظ بهم الفناء الأكبر للسجن صفوفًا يؤدون الصلاة خلف الإمام المجدد الذى ختم الصلاة وانبرى إلى المأمومين يدعو بأن يخلص الله الوطن من الاستعمار اللعين وأعوانه، والمصلون من خلفه يُؤَمِّنون ، مما جعل رسل باشا يرتعب مما أدى به أن يكتشف أن هذا الإمام فى سجنه يشكل خطورة أكبر من خطورته خارجه، فأمر بالإفراج عنه مع ابنه فورًا.
فخرج يستأنف سعيه ونشاطه حتى انتهت ثورة 1919، ثم اتسع أمامه مجال الدعوة إلى الله تعالى فأسس مجلة ( المدينة المنورة) – التى بدأ صدورها عام 1920م واستمرت لسنوات طوال بعد انتقاله إلى جوار ربه- حاملة لواء العلم الصحيح، ينشر بها الدين وتعاليمه وأخبار الصحابة فى هذا العصر المظلم .
موقف الإمام من إلغاء الخلافة الإسلامية :
بعد أن قررت الجمعية الوطنية بأنقرة فى يوم الأحد 26 رجب 1342هـ الموافق 2/3/1924م إلغاء الخلافة الإسلامية كان رد الفعل سريعًا جدًّا على الإمام .. بل وفوريًّا . وقد شهدت الساعات الأولى إنجازين على درجة كبيرة من الأهمية :
(1)تكوين جمعية ( إحياء الأخلاق المحمدية ) ومقرها المركز الرئيسى قصر الحنفى ( سكن الإمام ) وفروعها فى بلاد مصر، وإعلام الجميع عن استنكارها لقرار الإلغاء على المستوى الشعبى . وقد تم أول اجتماع لجمعية ( إحياء الأخلاق المحمدية ) بمنزله u فى 23 مارس 1924 م، وكان قد دعا رجال الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية لحضور هذا الاجتماع، وتم فيه جمع الأمة المصرية فى صعيد واحد ، وخرج من هذا الاجتماع بفائدة هى تكوين قيادة لهذه الهيئة أسماها ( اللجنة التنفيذية لجماعة الخلافة الإسلامية بوادى النيل ) ، وكان أحد أقطابها المرحوم على بك فهمى كامل شقيق فقيد مصر العظيم وزعيمها الفتى الكريم المرحوم مصطفى باشا كامل، فأصدرت فى ذلك عدة قرارات حكيمة كان أكثرها من أفكار الإمام النيرة السليمة، وفيه قرر الأعضاء العمل على الدعوة لإقامة مؤتمر إسلامى عالمى يشارك فيه جميع زعماء وملوك الهيئات والدول الإسلامية ، وانتخب رئيسا لجمعية الخلافة الإسلامية بمصر فى يوم الخميس 13 شعبان 1342هـ الموافق 20/3/1924م
(2) القيام باتصالات هاتفية وكتابة خطابات شخصية وإرسال برقيات لجميع رؤساء بلدان العالم الإسلامى لتكوين جماعات عمل لمؤتمر الخلافة الإسلامى وإخطار المقر الرئيسى بالقاهرة بذلك، وكان أول المستجيبين فى ذلك إخوة الهند وعلى رأسهم الأميران شوكت على ومحمد على، والدكتور أجمل خان والدكتور محمد إقبال والشيخ كفاية الله وغيرهم وإعلانهم الفورى عن تأسيس جماعة ( الخلافة الإسلامية ) بالهند مع إعلان اتحادها قلبًا وقالبًا مع الإمام، وكذلك بعض الزعماء الإسلاميين الآخرين .
فى الوقت الذى كان الملك فؤاد يطمع أن يكون هو الخليفة ولكن حال الإمام بينه وبين ذلك وعندئذ بدأت الحكومة والسراى فى محاربة الإمام بشتى الطرق العلنية والسرية، فقبض على أعضاء اللجان الفرعية فى الأقاليم، وصودرت محاضر الجلسات، وأعدمت أعداد من مجلة ( المدينة المنورة ) وفتشت سراى آل الغزائم مرارًا وتكرارًا، واتخذت العداوة بين الملك والإمام مظهرا علنيا، ومنع الإمام من السفر لتأدية الحج فى ذات العام، وقدمه لمحكمة الجنايات بسبب كتاب للإمام بتهمة سب الذات الملكية ولكن برأته المحكمة، وقدمه للمحاكمة متهما إياه بالكفر زورا وافتراء وبرأته المحكمة أيضا .
(3) كما دعا إلى عقد المؤتمر الإسلامى العالمى لمناقشة هذا الغرض، وظل التجهيز لانعقاده حتى تم ذلك فى مكة المكرمة بتاريخ 9 يونيو 1926 م فى أشهر الحج برئاسة عبد العزيز آل سعود عاهل الحجاز ، وناب عن شعب مصر فى حضور هذا المؤتمر ، وقد قدم الإمام للمؤتمر أربعة عشر اقتراحًا ([1]) لصالح الإسلام والمسلمين، وانتهت جلسات المؤتمر بالفشل رغم الجهود التى بذلها الإمام لإحياء الخلافة وإعادة منصبها، لأن السياسة الاستعمارية كانت من وراء القصد.
وجاء يوم عرفة واجتمعت الوفود فى مسجد نمرة واتفقوا على أن يلقى خطبة الجمعة الإمام أبو العزائم ، والتمسوا ذلك من الملك عبد العزيز فأجاب ملتمسهم، فقال لهم الإمام : (( هذا مقام لا ينبغى إلا لرسول الله ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم﴾ أو لخليفته )) فارتفعت أصواتهم جميعًا بقولهم : (( قد أقمناك ورضيناك خليفة عن رسول الله ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم ﴾ )) فخطب الإمام خطبة تفوق وصف الواصف، وصلوا خلفه الظهر والعصر جمع تقديم كما هى السنة ([2]) .
وبعد عودة الإمام من المؤتمر إلى مصر جدد الاتصال بزعماء وملوك البلاد الإسلامية وخصوصًا رجال الهند، كما جدد الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامى آخر بمدينة القدس وحددوا لذلك يوم 31 ديسمبر 1931 م، وحاولت السلطات البريطانية إفساد هذا المؤتمر ومنعت الحكومة المصرية إعطاء تأشيرة خروج للإمام، كما رفضت سلطات الانتداب فى فلسطين السماح له بالدخول، وأراد أن يحصل على ترخيص بمقابلة زعماء الهند فى ميناء السويس بسبب وجودهم على الباخرة المتجهة إلى لندن لحضورهم مؤتمرًا مع الحكومة البريطانية ثم توجههم بعد ذلك إلى حيفا، فمنعت الحكومة الباخرة من الوقوف فى ميناء بور توفيق ، وإزاء ذلك لجأ إلى حيلة نجح من خلالها فى مقابلة الوفود المشاركة وكان على رأسها أمين الحسينى مفتى فلسطين والأمير شوكت على، والأمير محمد على، والدكتور محمد إقبال، وتشاور معهم فى شئون المسلمين وعقد مؤتمر القدس، ولم تعرف السلطات ذلك إلا بعد رجوع الإمام للقاهرة .
وانعقد المؤتمر الإسلامى بالقدس، ولم تمثل فيه كل الوفود التى سبق أن مثلت فى مؤتمر يونيو 1926 م، فكان على رأسه الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين والأميران شوكت على ومحمد على والدكتور محمد إقبال .
ولم يكن نصيب مؤتمر القدس فى ديسمبر 1931 م من النجاح أو الفشل بأقل من نصيب المؤتمر الإسلامى الأول بمكة المكرمة فى يونيو 1926 م، فكلا المؤتمرين أثرت فيه عوامل ذاتية نابعة من واقع العالم الإسلامى وحاضره من جهة، ومن ألاعيب وكيد الاستعمار والصهيونية العالمية من جهة أخرى، فأصبحا بذلك حدثين تاريخيين من حيث أنهما أول المؤتمرات الإسلامية فى العصر الحديث .
تأسيس الطريقة العزمية 1933 – 1351 ه
بعد فترة حفلت فيها حياة الإمام أبو العزائم من جهاد بالمال والقال والحال تحولت حلقات العلم وندوات الثقافة والفكر التى تأسست على نشاطه إلى مجامع تسودها التقوى والتقرب إلى الله بدوام ذكره والإمعان فى طاعته . وتحولت جماعة آل العزائم التى أسسها الإمام عام 1311 – 1893م إلى الطريقة العزمية ، فعندما وجد الإمام أن الوقت قد حان لإعلان طريقته العزمية وكان ذلك عام 1933 – 1351 ه أرسل إلى السيد عبد الحميد البكرى شيخ مشايخ الطرق الصوفية فى ذلك الوقت خطابًا يطلعه فيه على استكماله لشروط شيخ الطريقة واستكمال الشروط الأخرى التى تتيح له إنشاء طريقة صوفية جديدة .
ومن حينها بدأت الطريقة العزمية نشاطها وما زالت حتى اليوم تغذى العقل بعلوم الشريعة الحقة ، وتزكى النفس بإيصالها- بطريق مأمون- إلى تذوق الحقيقة التى يهبها الله لمن يقمعون الغرائز ويزهدون فى بهرج الحياة ويجتهدون فى طاعته وتقواه. وبذلك كانت الطريقة العزمية النموذج الأمثل للتصوف الطاهر الزاهد الواعى الخالى من كل شوائب الرياء والارتزاق والبدع وابتزاز المريدين والأتباع. فهى طريق إلى الله ليس لها من هدف سوى الاستغراق فى مرضاة الله وطاعته وتقواه ([3]) .