تختلف الشعوب عقليا ونفسيا اختلافا كبيرا ، وذلك تبعا لاختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية ، والظروف التى تحيط بالأمة من كل جانب ، واختلاف الموروثات والمؤثرات الخارجية ، وأفراد الأمة الواحدة وإن اختلفوا فى المدارك والتعليم وغير ذلك ، إلا أننا نرى فيهم جميعا وحدة مشتركة ، وهذه الوحدة تظهر فى الملامح الجسدية والعقلية والفكرية .
ولنا أن نتساءل : ما الذى كان يميز أمة العرب عن غيرها بصفة عامة قبل دخولهم الإسلام ؟ وما هى أهـــــــم الصفات التى تميزت بها الشخصية العربية عن غيرها بصفة خاصة ؟ وذلك لنعلم مدى التغييرات الجذرية التى أحدثها الإسلام فى هذه الشخصية الإنسانية .
يقول البعض أن كل الأمم فى شتى بقاع الأرض ، كان لها ملوك تحميها ، ومدائن تضمها ، وأحكام تدين بهــــا ، وصناعات تتقنها ، إلا العرب ؛ فلم يكن لهم ملك يحميهم ويلم شملهم ، ويقمع ظالمهم وينهى سفيههم ، وما كان لهم قــط نتيجة فى صناعة ، ولا أثر فى فلسفة إلا ماكان من الشعر ، وقد شاركهم فيه العجم ، لأن الروم كانت لهم أشعــــــار قديمة تقوم على الأوزان والعروض .
ويصور ابن خلدون حالة العرب الاجتماعية والعقلية والنفسية ، بأسلوب يبين مدى ما وصلوا إليه قبل البعثــــــــة المحمدية ، من إنهيار فى الشخصية ، فيرى أن فيهم طبيعة التوحش ، لأنهم أهل انتهاب وعبث ، ينتهبون ما قــــدروا عليه من غير مغالبة أو ركوب خطر ، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر ، وإن تغلبوا على بلاد أسرع إليها الخـــــــــراب فينقلون الحجر من المبانى ، ويأخذون من السقف ليعمروا به خيامهم ، ويتخذون منه أوتادا ، وليست لهم عنايـــــــــة بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ، وهم متنافسون فى الرياسة ، ومن النادر أن يترك أحد منهم الأمر لغيره ، ولـــو كان أباه أو أخاه ، أو كبير عشيرته ، إلا فى الأقل ، فيتعدد الحكام فيهم والأمراء ، وتختلف الأيدى على الرعية فـــى الجباية والأحكام .
وهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة فى الرياسة ، فقلما تجتمــــــــــع أهواؤهم ، من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، وهم أبعد الناس عن الصنائع ، لأنهم أعرق فى البدو ، وأبعد عن العمران الحضرى ، وما يدعو إليه من الصنائــــــع وغيرها ، ولهذا كانوا دائما ما يجلبون الصناع من بلاد أخرى ، وهم كذلك أبعد الناس عن العلوم ، لأن العلـــــوم ذات ملكات محتاجة إلى التعليم ، فاندرجت فى جملة الصنائع التى هم بعيدون عنها .
ويرى ابن خلدون أنهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى ، لسلامة طباعهم من عوج الملكات ، وبراءتها من ذميم الأخلاق ، إلا ما كان من خلق التوحش القريب من المعاناة ، المتهىء لقبول الخير ، وهم أقرب الناس إلـى الشجاعة لأنهم قائمون بالمدافعة عن أنفسهم ، لا يكلونها إلى سواهم ، ولا يثقون فيها بغيرهم ، وهم لايزالــــــــــــون موسومون بين الأمم بالبيان فى الكلام ، والفصاحة فى النطق ، معروفون بذلك منذ كانوا .
ويؤكد " أوليرى " أن العربى مادى ضيق الخيال ، جامد العواطف شديد الشعور بكرامته وحريته ، ثائر على كل سلطة ، مخلص لتقاليد قبيلته ، في حين يرى " لامانس " أن العربى من ناحية أخرى : مخلص مطيع لتقاليد القبيـــلة التى ينتمى إليها ، كريم يؤدى واجبات الضياقة ، مخلصا فى أدائها حسب ما رسمه العرف .
ولعل من الحكمة فى اختيار العرب ـ وهم على هذه الحالة من الصفات المتباينةـ أن يكون من بينهم الرســـــول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنهم أقل الأمم فى هذا الوقت حضارة ، وأبعدهم عن المدنية ، ولو كانوا متحضرين كأهل المدنيــات المجاورة مثل الفرس والروم واليونان ، لقيل أنه انتقال حضارى ، وارتقاء مدنى ، بل شاء الله أن يكون ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو فى هذه البيئة المظلمة ، يشع منه نور يغير معالم الحضارة ، ويقيم صرح الحياة فى العالم أجمع ، لتكـون المعجزة أظهر ، والمنزلة أكبر ، فأشرقت شمس الحياة الإيمانية ، والصورة المثالية للإنسان الأكمل ، متمثلة فــــــى شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شمس الحق المشرقة بنور هداه ، لتضىء معالم الكون كله .