بتلك المقدمات والضوابط يكون المريد مؤهلا للسلوك فى طريق الله تعالى ، وقبل البدأ فى دستور الطريقة العزمية نلقى الضوء أولا على بعض المصطلحات التى سوف تكون فى معرض حديثنا ليحفظ الله قلوب السالكين من الوقوع فى الضلال والخزى :
الطريقة : الطريقة هى السبيل إلى الله التي تفيض على السالك النور ، وتضفى عليه الإحساس العميق بالربانية السارية في هيكله ، حتى تحفه الرحمات والبركات ، ومأخذه عند الرجال من قوله تعالى: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الأحقاف: ٣٠ وقوله : ( وألو استقاموا على الطريقة لأسقيماهم ماء غدقا ) وهو فى اصطلاح أهل السلوك إلى ملك الملوك : محو ما بينك وبين الوصول إلى مقصودك.
والطريق والصراط والمنهج ألفاظ مترادفة يراد بها ما يسهل به الوصول إلى المقصد ، آمنا سالكه على نفسه وماله من وعثاء السفر أو سوء المنقلب .
فالسالك إلى نيل قصده يترك وراءه آثارا كثيرة، حتى يمحو كل بين يحجبه عن مقصده، ولذلك فالسالك فى طريق الله تعالى ينسلخ من كل ما يحجبه عن الحق جل جلاله، حتى ينمحى البين من البين، وتقع العين على العين ,إما مراقبة، أو رعاية، أو شهودا، أو طمأنينة قلب فى مقام اليقين الحق، بعد مراتب اليقين علما وعينا.
والطريقة هي السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى مع قطع المنازل والترقى في المقامات .
الشريعة : الشريعة هي الإئتمار بالتزام العبودية ، والشرع في اللغة عبارة عن البيان والإظهار، يقال : شرع الله كذا ، أى: جعله طريقا ومذهبا . ومنه المشرعة ، والشريعة، والشرع ، والدين ، والملة ، والناموس ، كلها بمعنى واحد . قال تعالى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... الآية ) .
الحقيقة : الحقيقة والحق هو الثابت الذى لا يسوغ إنكاره ، وفى اصطلاح أهل المعانى: هو الحكم المطابق للواقع . ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، ويقابله الباطل فمعنى حقيقة الشىء : مطابقة الواقع إياه . قال [صلى الله عليه وآله وسلم] : «عِلْمُ اٌلْبَاطنِ ِسِر منْ أَسْرَارِ اُللهِ تعالى وَحِكْمَهُ مِنْ حِكمِ اٌللهِ يقْذِفُهُ في قُلوبِ مَن يَشاءُ مِن عِبَادِه» ([1]) وقال [صلى الله عليه وآله وسلم] : « اٌلْعلْمُ عِلْمَاِن عِلُم في اٌلْقَلْبِ فذٰلكَ العلمُ النَّافعُ ، وَعلْمٌ على اللسانِ ِفَذَٰلكَ حُجَّةُ اٌللهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ » ([2]) .
فالشريعة أمر بالتزام للعبودية دائما ، والحقيقة مشاهدة الربوية . فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير مقبولة أيضا.
والشريعة أن تعبد الله ، والحقيقة أن تشهده حقيقة ، فالشريعة قيام بما أمر ، والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر .
الشريعة والحقيقة :
لقد جمع الله تعالى بين الشريعة والحقيقة في آيات كثيرة . فمنها قوله تعالى : (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) التكوير: ٢٨. فهذه شريعة ، وقال تعالى (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ) الإنسان: ٣٠ فهذه حقيقة. ومنها قوله تعالى : (فَمَن شَاء ذَكَرَهُ) المدثر: ٥٥ فهذه شريعة ، (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ) المدثر: ٥٦ فهذه حقيقة . ومنها قوله تعالى تعليما لنا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الفاتحة: ٥ حفظا للشريعة ، وقوله تعالى : (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة: ٥ إقرارا بالحقيقة . فإياك نعبد فيه إثبات الكسب للعبد وإضافة العبادة إليه ، وإياك نستعين فيه رد الأمر إلى الله ، وأن العبادة بعونه وتيسيره . وفى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الفاتحة: ٥ أى لا نعبد إلا إياك ، ولا نشرك في عبادتك غيرك ، فهذا مقام الشريعة ، وقوله تعالى : (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة: ٥ أى لا نستعين إلا بك لا بأنفسنا وحولنا ، وهذا مقام الحقيقة ، فإياك نعبد مقام الأبرار ، وإياك نستعين مقام المقربين.
فالأبرار قائمون لله ، والعمل الأول هو العمل لله ، والعمل الثانى هو العمل بالله . فالعمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القربة . والعمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل لله القيام بالأحكام الظاهرة . والعمل بالله القيام بالضمائر .
فمن زعم أن التمسك بالحقيقة يغنى عن إتباع الشريعة فهو ضال مضل .
الإمام المجدد : هو الإمام الممنوح المجتهد الملهم فقه الكتاب والسنة في كل زمان بحسبه ، وهو المرشد الذى يقيمه الله تعالى في كل زمان احتاج المسلمون فيه إلى البيان ، وهو الذى لا تخلو الأرض منه ليقوم لله بالحجة كما قال الإمام على بن أبى طالب عليه السلام : ( اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجة إما ظاهرا مشهورا وإما باطنا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبنياته " ، ويسمى عند آل العزائم الإمام المُجَدَّد كما قال [صلى الله عليه وآله وسلم] : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) ، وهو العالم العابد ، وهو مستنبط الطريق وصاحبه ، وله السمع والطاعة من مريديه مادام عاملا بالكتاب والسنة ، سالكا على مناهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وإليه في حياته ترجع أمور الدين ، وبه في حياته يكون الإقتداء والتقليد ، مالم يخالف في قول أو عمل أو حال صريح السنة .
شيخ الطريق : هو الذى يقوم مقام الإمام بعد وفاته، ناشرا علومه ، سائرا على منهاجه فى تنوير العقول والقلوب بنور علام الغيوب .
نائب الطريق : وهو الذى أقامه الشيخ مقامه في غيبته ، أو أقامه في حضوره في عمل خاص ، وهو أشبه بالشيخ في جميع صفاته.
المريد : هو من صح له الابتداء ، وهو المجتهد المسارع إلى الإنتظام فى سلك الطريق والباحث عن الرفيق ، وهو من حصل فى جملة المنقطعين إلى الله .
السالك : هو الذى يسافر فى طريق الله تعالى مهاجر من حسه ونفسه وهواه ، مسارعة إلى نيل رضا مولاه ، وهو المفارق لجميع ما يلائم النفس الحيوانية والنفس الإبليسية ، والمسارع إلى التحلى بالصفات الملكوتية .
الإخوان : يقول الإمام أبو العزائم : أريد بالإخوان : كل الناطقين معى بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، المتفقين معى على التصديق بما أنزل الله على سيدنا ومولانا محمد [صلى الله عليه وآله وسلم]، المؤمنين باليوم الآخر ، وإن تفاوتت مراتبهم من حيث فهم آيات الله ، وذوق معانيها ، وانبلاج أنوارها ، ووضوح الحجج والدلائل بحسب المواهب التي يمن الله بها على كل أخ مؤمن ، من الفطنة والذكاء، والنور والفقه ، والمعرفة والعناية ، والتوفيق لعمل تزكية النفوس والقربات ، ومكارم الأخلاق ، وحسن المعاملات، وعلوم اليقين . قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) .
البيعة والعهد : وهو الميثاق الذى يأخذه طرف على آخر ، أخذه الله تعالى على رسله الكرام بأن يكونوا أمة لحبيبه ومصطفاه إن أدرك زمانه أحدهم قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... الآية ) . وأخذه الله على عباده قال تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) . وأخذت الرسل العهد لله على أممهم على الطاعة والانقياد للشرع الشريف كما قال تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) حتى جاء النبى الخاتم [صلى الله عليه وآله وسلم] فأخذه على أمته قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) وعبر عنها بالبيعة فى قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح: ١٨ وقال تعالى : (إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) الفتح: ١٠ وحكمة الله تعالى تقتضى أن تظل تلك البيعة سارية ليوم القيامة ؛ يأخذها الإئمة المجددون العلماء الربانيون على أهل عصرهم فى كل زمان بالنيابة عن رسول الله ، إذ أنهم ورثته كما قال [صلى الله عليه وآله وسلم] : (العلماء ورثة الأنبياء ) فكل مسلم له بيعة وعهد ، وهو مطالب بالوفاء بهذا العهد كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون: ٨ وقال تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ) البقرة: ١٧٧ . وقال تعالى : (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) الإسراء: ٣٤. وهذا العهد يأخذه الإمام المجدد أو شيخ الطريق على المريد السالك فى طريقه على كتاب الله وسنة رسوله وأن يحق الحق ويبطل الباطل ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
(1) رواه الديلمى في مسند الفردوس . الفتح الكبير للسيوطى ج 2 ص 227 .
(2) رواه أبو شيبة في مسنده ، والخطيب البغدادى في التاريخ . الفتح الكبير ج 2 ص 261 .