قصة سيدنا عيسى عليه السلام (الحلقة الثانية)

26/08/2021
شارك المقالة:

ميلاده عليه السلام

فلما أثقلت السيدة مريم ودنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن بيت المقدس بيت من بيوت الله الذى طهر ورفع ليذكر فيه اسمه فابرزى إلي موضع تأوين فيه ، فتحولت مريم إلي بيت خالتها أخت أمها أم يحيي ، فلما دخلت عليها قامت أم يحيي واستقبلتها فالتزمتها ، فقالت امرأة زكريا يامريم أشعرت أنى حبلي ، قالت مريم : وأنت أيضا شعرت أنى حبلى ؟ قالت امرأة زكريا فإنى أجد ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك. فلما وافت بيت خالتها أوحى الله إليها أنك إن ولدت بين أظهر قومك عيروك وقذفوك وقتلوك وولدك ، فاظعنى من عندهم أى فاخرجى . قوله تعالى (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) . أى بعيدا عن قومها . فلما اشتد بها المخاض التجأت الي النخلة وكانت النخلة يابسة ليس لها سعف ولا كرانيف ولا عروق ، فاحتوشتها الملائكة وكانوا صفوفا محدقين بها أى محيطين بها ، وكانت تلك النخلة فى موضع يقال له بيت لحم، فقالت حين اشتد بها الأمر ( يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) فنوديت . قيل من قبل المولود ( أن لا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)

فلما ولدت سيدنا عيسى عليه السلام أجرى الله لها نهرا من ماء عذب بارد إذا شربت منه ، وفاترا إذا استعملته ، فذلك قوله تعالى ( قد جعل ربك تحتك سريا ) وهو النهر الصغير.

وهنا احتمل يوسف النجار السيدة مريم وسيدنا عيسى إلي غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ، ثم جاء بها فأتت مريم تحمل وليدها بعد اربعين يوما فكلمها سيدنا عيسى فى الطريق فقال : يا أماه أبشري فإنى عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت علي أهلها ومعها الصبى بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين، ولم يبق فى القرية رجل ولا امرأة إلا خرج ، ليسهم بنصيبه فى توبيخها وإحراجها ، وهنا جاءت الإشارة منها إلي ابنها بدون أن تنطق بكلمة، وكأنها بهذه الإشارة تقول لهم : سلوه من هو ، وما حاله، ومن أين أتى ، فازدادوا تماديا فى السخرية والإستهزاء ، وقالوا عجبا لك ! لم لاتتكلمين ؟ أتريدين أن نكلم صبيا فى المهد ؟ قال تعالى (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا ) والمقصود بأخت هارون أى أخت هارون بن عمران أخى موسى عليه السلام فى العبادة لشهرتها فى العبادة .

فأتاها سيدنا زكريا عليه السلام عند مناظرتها اليهود الذين جاءوا ليشنعوا عليها ويتهموها بالزنى ، وقال لسيدنا عيسى وهو طفل بن أربعين يوما : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك سيدنا عيسى عليه السلام (إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) .

وبعد أن تكلم الصبي بهذا الكلام الفصيح ، فمن القوم من عرف الحق وأدرك حقيقة المعجزة وآمن بالذي خلق فسوى ، واعتذر للسيدة مريم وتاب ، ومن القوم من ظل علي عناده وشكه ( منهم من قال أنه الله ، وآخر قال أنه بن الله) أما المؤمنون قالوا هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته التى ألقاها إلي مريم .

روى عن الإمام محمد بن علي الباقر رضى الله عنه أنه قال: لما ولد عيسي كان ابن يوم كأنه ابن شهر ، فلما كان ابن تسعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلي الكتاب وأقعدته بين يدى المؤدب، فقال له المؤدب : قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقالها عيسى ، فقال المؤدب: قل " أبجد " فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال له : هل تدرى ما أبجد ، فعلاه بالقضيب ليضربه ،  فقال : يا مؤدب لا تضربنى إن كنت تدرى وإلا فاسألنى حتى أفسر لك ، فقال له المؤدب : فسره لى؟ فقال عيسى : الألف لا إله إلا الله – والباء بهجة الله – والجيم جلال الله – والدال دين الله .

"هوز" : الهاء هى جهنم وهى الهاوية – والواو وبال لأهل النار- والزاى زفير أهل جهنم.

 "حطى" حطت الخطايا عن المستغفرين.

" كلمن " كلام الله غير مخلوق ولا مبدل لكلماته .

" سعفص " صاع بصاع والجزاء بالجزاء.

"قرشت" تقرشهم حين تحشرهم أى تجمعهم ، فقال المؤدب لأمه: أيتها المرأة خذى ابنك فقد علم ، ولا حاجة له إلى المؤدب.

وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال : كان عبد الله بن عمر يقول : "كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك فيقول : نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعمينى ما خبأت لى فتقول وأى شئ خبأت لك فيقول كذا وكذا ، فتقول من أخبرك؟ فيقول : عيسى بن مريم ، فقالوا : والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم، فجمعوهم فى بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم، فسمع ضوضائهم فى البيت ، فسأل عنهم فقالوا إنما هؤلاء قردة وخنازير فقال: اللهم كذلك فكانوا كذلك. رواه بن عساكر.

قال عطاء : سلمت مريم عيسى بعدما أخرجته من الكتاب إلي أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الصباغين ، فدفعته إلي رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب مختلفات فعرض للرجل سفر ، فقال لعيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج فى سفر ، لا أرجع إلي عشرة أيام ، وهذه ثياب مختلفات الألوان ، وقد علمت كل واحد منها على اللون الذي يصنع به فأحب أن تكون فارغا منها وقت قدومى ، ثم خرج فطبخ عيسى عليه السلام جبا واحدا على لون واحد ، وأدخل فيه جميع الثياب وقال لها كونى بإذن الله تعالى على ما أريد منك ، فقدم الصباغ ، والثياب كلها فى جب واحد فقال : يا عيسى مافعلت؟ قال: فرغت منها. قال أين هى؟ قال فى الجب ، فقال كلها؟ قال نعم ، قال كيف تكون كلها فى جب واحد ؟ لقد أفسدت تلك الثياب ، قال: قم فانظر ، فقام فأخرج عيسى ثوبا أصفر وثوبا أخضر وثوبا أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التى أرادها، فجعل الصباغ يتعجب وعلم أن ذلك من الله عز وجل ، فقال الصباغ للناس تعالوا أنظروا إلى ما فعل عيسى عليه السلام ، فآمن به هو وأصحابه وهم الحواريون. والله أعلم.

شب سيدناعيسى عليه السلام  بين بنى إسرائيل منظورا إليه بعين الاحتقار ، مبغوضا من قومه مرذولة أمه . ولكن الذى خلقه سبحانه وأهله لأن يكون رسولا لبنى إسرائيل يخفف عنهم أثقالهم التى شددوا بها على أنفسهم ، ويبين لهم ما خفى عليهم فى التوارة، ويفك الأغلال التى أحاطت بأعناقهم فأخرجتهم من العمل بالحق إلى العمل بالباطل وكبت وجوهم فى النار بها ، فقدر سبحانه وتعالى أن يجدد لهم فى كل يوم آية من طفوليته تلفت إليه الأنظار وتوجه إليه الهمم ، وتشغل فيه الأفكار ، وهو مع ذلك لا يناله هو وأمه من بنى إسرائيل إلا ما ينغص الحياة حتى فارقت به قومها .

وكان سيدنا عيسى يرى العجائب فى صباه إلهاما من الله ففشا ذلك فى اليهود ، وترعرع عيسى ، فهمت به بنوا اسرائيل فخافت أمه عليه فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق إلي أرض قال تعالى ( وآويناهما الي ربوة ذات قرار ومعين ) . ذكر بن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق ، وأن هذه الربوة فى دمشق ومحلها مشهور ومعلوم بها إلي الآن ، وتحتها الأنهار والأشجار.

وصاحب كتاب " الفارق بين المخلوق والخالق " يكذب قصة مجئ المجوس من المشرق وانصراف المسيح وأمه إلى مصر ، وذلك لأن الذى انفرد بهذه القصة المصطنعة هو ( متى ) ولم يوافقه أحد من رواة الأناجيل الثلاثة ولا أصحاب الرسائل ولا أحد من المؤرخين الذين يعتبر ضبطهم للوقائع.

إضافة إلي ذلك قول لوقا ( أنه بعد تمام النفاس ذهب يوسف النجار ومريم بالصبى إلي أورشليم ولم يقيما فى بيت لحم )، ثم إن المجوس لم يكونوا تابعين لملك اليهود ولا يدينون بشريعة نبى حتى ينتظروا مجئ المسيح ، ثم إن ما حكاه ( متى ) من أمر هيرودس بذبح الأطفال يقتضى أن هيرودس وأهل اورشليم كانوا أضدادا للمسيح ولكن ( لوقا ) لم يذكر ذلك وسياق عبارته عن سمعان الذي كان رجلا صالحا وأخبار النبية حنة بهذا الخبر (وهو خبر الميلاد) فى اورشليم التى كانت دار السلطنة لهيرودس تشعر بكذب ما حكاه المترجم من حكاية المجوس .

ويؤكد صاحب كتاب " الفارق بين المخلوق والخالق " أن يوسف النجار لم يسافر قط من أرض اليهودية لا إلى مصر ولا إلى غيرها، وأنه قد حدث تزييف ودسائس فى الترجمة وهو قوله ف 15 من هذا الإصحاح ( لكى يتم ما قيل من الرب بالنبى القائل من مصر دعوت ابنى ) لأن المقصود بالنبى القائل فى الجملة السابقة هو يوشع عليه السلام ، وأشار بذلك إلي الفقرة الأولى من الإصحاح الحادى عشر من كتاب يوشع والنص هكذا( أن اسرائيل منذ كان طفلا أنا أحبه ومن مصر دعوت أولاده) كما هو فى الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 ، فلا علاقة لهذه الفقرة بسيدنا عيسى عليه السلام بل هي بيان الإحسان الذي فعله الله فى عهد سيدنا موسى عليه السلام علي بنى إسرائيل. " راجع كتاب الفارق بين المخلوق والخالق ص 29 – 31 " .

وظلت السيدة مريم فى هذا المكان ( وهو الربوة بدمشق )حتى بلغ سن سيدنا عيسى اثناعشرة سنة.

وكعادتهم السنوية فى عيد الفصح صعدوا إلي أورشليم ( يوسف النجار والسيدة مريم وسيدنا عيسى عليه السلام) لإقامة الشعائر ورجعوا كعادتهم وبعد مسيرة يوم لم يجدوا سيدنا عيسى بالرفقة وفقدوه ، فرجعوا إلي أورشليم يسألون عنه بين الأقرباء والجيران وفى اليوم الثالث وجدوا الصبي فى الهيكل وسط العلماء يحاجهم فى أمر الناموس، وأعجب كل أحد بأسئلته وأجوبته قائلا ( كيف أوتى مثل هذا العلم وهو حدث ولم يتعلم القراءة ) ، وسألته أمه السيدة مريم لماذا يابنى عذبتنا بطلبك ؟ فأجابها سيدنا عيسى بأن خدمة الله يجب أن تقدم . ثم نزل معهما إلي الناصرة وكان مطيعا لهما بتواضع واحترام.

وظل سيدنا عيسى عليه السلام طوال هذه الفترة من سن 12 سنة إلي 30 سنة يحاج العلماء وعلي يديه تظهر المعجزات والخوارق والإرهاصات قبل مبعثه عليه السلام، فقد كان سواحا فى الأرض لا يتخذ دارا ولا مسكنا ولا زوجة ولا دابة وكان يلبس جبة صوف علي لحمه ويلبس علي رأسه قلنسوة من لباد ، وكان لا يأكل إلا من غزل أمه وكانت تغزل الصوف.

وننوه إلي أن يوسف النجار قد تزوج بالسيدة مريم عليها السلام بعد ذلك وأولدها أولادا.

فلما أتم سيدنا عيسى عليه السلام ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلي الله ويضرب لهم الأمثال ويداوى المرضى والعميان والمجانين ويقمع الشياطين ويزجرهم ويذلهم ، وكانوا يموتون من خوفه ، ففعل ما أمره به فأحبه الناس ومالوا إليه واستأنسوا به وكثرت أتباعه وعلا ذكره وربما اجتمع عليه من المرضى فى الساعة الواحدة خمسون ألفا، فمن أطاق منهم ان يمشى إليه مشى إليه، ومن لم يطق وصل إليه سيدنا عيسى عليه السلام ، وإنما كان يداويهم بالدعاء بشرط الإيمان.

ودعاؤه الذى كان يشفي به المرضى ويحيي به الموتى :

اللهم أنت إله من فى السماء وإله من فى الأرض لا إله فيهما غيرك ، وأنت جبار من فى السموات وجبار من فى الأرض ، لا جبار فيهما غيرك ،وأنت ملك من فى السموات وملك من فى الأرض لا ملك فيهما غيرك ، وأنت حكم من فى السموات وحكم من فى الأرض ، لا حكم فيهما غيرك ، قدرتك فى الأرض كقدرتك فى السماء وسلطانك فى الأرض كسلطانك فى السماء ، أسألك بأسمائك الكرام إنك علي كل شئ قدير.

وكان أشر الناس عليه الأحبار والكهان الذين كانت لهم الرياسة والسيادة على شعب إسرائيل . سبب ذلك أن سيدنا عيسى عليه السلام  لما أن أكرمه الله تعالى بالآية التى بها شفاء المرضى مع ما من الله عليه من الحكمة الإلهية ، كان عليه السلام  يكثر حواليه المرضى والقفراء وكثيروا الذنوب ، لأنه كان يشوق الناس إلى الجناب الإلهى بوسعة الرحمة والفضل ، لينوع أفكار العالم بما يكشفه لهم من وسعة رحمة الله ومغفرته وعفوه ، ومن إقبال الله على من اتقاه بقلبه وآمن به سبحانه وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم .

و لذلك فإنك ترى العشارين والخطائين والمرضى من الرجال ومن النساء المرضى والبغاة يلتفون حوله لفرحهم برحمة الله وشوقهم إلى ما كان يشوقهم إليه من الملكوت ، ويرغبهم فيه من الحياة الأبدية . وكان أكمل جاذب يجذب به القلوب ويؤلفها عليه ، ما كان متصفا به ﴿ عليه السلام ﴾ من التواضع والخشوع والذل ، حتى بلغ من تواضعه أن داعيا دعاه فقال : أيها المعلم الصالح . فالتفت إليه مغضبا وقال : ( أنا لست المعلم الصالح ، المعلم الصالح هو الله ) .

و كان عليه السلام  مخشوشنا فى مأكله وملبسه ، ليتحقق الناس بأنه عبد مسكين ، وأن تلك الآيات التى تظهر على يده هى من الله الذى خلقه آية من آيات قدرته ، وكان عليه السلام  يرضى بالقليل من الطعام وينام على التراب ويبول ويتغوط خارج الأماكن ، ليشهد الناس أنه إنسان مثلهم، وأن تلك الآيات لا تجعلهم يجهلون . ولكن الأحبار لما رأوه كثر محبوه من العامة ، وانتشر ذكره بين الخاصة، وظهرت على يده الآيات العجيبة ، وتحققوا أنه يدعو إلى الحق الصريح ، الذى إذا ظهر محق رياستهم وأزال سيادتهم ، وسلب منهم السطلة الدينية . ولا يخفى حرص النفوس على الشهوات والحظوظ ، فقام سادات اليهود عليه قيام من يريد أن يفقد حياته ليتلذذ بالحياة بعده لأنهم تحققوا أن بقاءه إذلاء لهم وبلاء عليهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يكلأ رسله ويحفظهم .

و للحديث بقية بإذن الله تعالي