تابع ما أورده الإمام أبو العزائم بيانا لحقيقة النصرانية ودعاتها فى كتابه (وسائل إظهار الحق):
بيان أن المسيح عبد ورسول كبقيه الرسل :
ثبت لنا جليا من هذا أن المسيح عليه السلام عبد جعله الله آيه كبرى كما جعل يحيى ابن زكريا آية كبرى مثل آية المسيح ، وجعل آدم آيه من جلائل الآيات لأنه خلقه من طين ، فلا فرق فى حضرة القدرة بين أن يخلق شيئا من لا شىء ، وأن يخلق شيئا من شىء لم يخلق منه عادة ، وأن يخلق شيئا من شىء يخلق منه عادة لكن بغير كمال المعدات كل ذلك أمر هين على العقل إذا تصور القدرة تصورا ما . وإذا كان المخلوق من شىء يخلق منه عادة مع نقص فى المعدات يكون ابن الله ، فالأولى أن يكون المخلوق من لا شىء هو الله ، كالشمس والقمر وبقية الكواكب والأرض .
سبحانك اللهم وبحمدك ، تنـزهت وتعاليت عما يصفك الواصفون ، وتقدست عما ينتحله لك المنتحلون ، سبحانك علوا لذاتك الأحدية ، وتنزيها لكمالاتك الربانية . كيف تتخذ ولدا وأنت الغنى عن كل من سواك وماسواك ، والكل مقهورون لقهرك ، مربوبون لعزتك ، فقراء إلى جنابك العلى . تحيى من تشاء وتميت من تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وأنت على كل شىء قدير . الملائكة والرسل عبيد لذاتك ، أذلاء لعزتك . وأنت سبحانك الإله الواحد الأحد ، المنزه عن المثيل والنظير والوالد والوالدة . أسألك يا مجيب الدعاء أن تهب لنا نورا فى قلوبنا يملؤها يقينا حقا ، ونورا فى عقولنا يستبين لنا به طريق الوصول إليك . وسبيل القرب منك إنك مجيب الدعاء .
المسيح لم يجعل له دينا خاصا :
إلى هنا لم نتكلم فى روح الموضوع الذى نقصده ، وإنما بينا أن المسيح عليه السلام عبد ورسول كبقية الرسل عليهم الصلاة والسلام . وأن الله تعالى أكرمه بما أكرم به رسله السابقين ، من أنه سبحانه سلطه على أعدائه ولم يسلط أعداءه عليه بل حفظه حتى رفعه إليه ، وإنه عليه السلام جاء متمما للتوارة لا ناسخا لأحكامها، لأن الإنجيل عبارة عن أقاصيص تاريخية للمسيح عليه السلام ، وعن أخلاق فاضلة لم تبين فى التوارة ، وعن إثبات أنه عبد مسكين بما تقدم من الأدلة . وأنه لم يأت بدين اسمه النصرانية ، ولم يجعل له دينا خاصا لأنه قال : أنا ما جئت لأهدم الناموس وما جئت لأضع حربا ولكنى جئت لأضع سلما . ولا شك أن من جاء لينسخ الناموس الذى قبله لا ينسخه إلا بالحرب . وإليك إثبات ذلك فى أسفار سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا إبراهيم وسيدنا نوح وغيرهم من الرسل عليهم الصلاة والسلام . وما يدعيه النصارى من أن هناك دينا يسمى النصرانية قول غير صحيح . لأنه لابد لمتبع المسيح عليه السلام أن يعمل بأحكام التورة جميعها، تاركا ما أمره المسيح بتركه ، ويزيد عليها ما أمره المسيح بالزيادة عليها . وبذلك يكون مقتديا بالمسيح عليه السلام : ولكنهم لما أن ادعوا أنه دين مستقل احتاجوا إلى العبادات والعقيدة والمعاملات ، فادعى قوم أنهم رأوا أحلاما تدل على تعاليم يلزم أن يعملها المنتسب إلى النصرانية ووضعوا تعاليم الكنائس . فتركوا ما هو صريح من عند الله تعالى مما ورد فى التوارة ، ومكث العالم فى ظلمة الهوى والحظ وتقديس بعض الرجال حتى تنورت العقول تنورا ما ، بما أشرق على قارة أوربا من الأندلس من أشعة الأنوار الإسلامية، التى أيقظت تلك العقول الخامدة من سجن ظلمتها . لكن كانت تلك الأشعة منكسرة على كثائف ظلمات بعضها فوق بعض ، فأضاءت حوالى تلك الظلمات ، ولم تخترق كثيف تلك الطبقات لأنها لو نفذت من تلك الطبقات لأشرقت شمس الإسلام مضيئة لهذا الأفق قال تعالى : ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ ([1]) فرفضت تعاليم الكنائس ورجعت إلى الإنجيل ، فظهر للعقول الكاملة أن الإنجيل تكملة للدين الموسوى ، ولم يوضع لينسخ أحكام التوارة ، فصاروا فى حيرة : إن رجعوا إلى التوراة واقتدوا بأحبار اليهود أثبتوا أن المسيح ابن زنا ، وإن وقفوا عند الإنجيل اختل نظام الدين لأنه أخلاق صرف . وكان الأحرى بهم بعد ان نبه العلم عقولهم إلى الحق أن يرجعوا إلى القرآن الذى يقول : إن المسيح كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم .
المـراجـع
- وسائل إظهارالحق للإمام أبى العزائم
- أسرار القرآن للإمام أبى العزائم
- قصص الأنبياء المسمى بعرائس المجالس للثعلبى
- قصص الأنبياء لابن كثير
- قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار
- الفارق بين المخلوق والخالق للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن سليم زادة
- قصص الأنبياء والتاريخ للدكتور رشدى البدراوى
- قصص القرآن للدكتور محمد بكر اسماعيل
- بدائع الزهور فى وقائع الدهور لابن إياس
- قصص الأنبياء للشيخ محمد متولي الشعراوي
- النصرانية .. تاريخا.. وعقيدة.. وكتبا.. ومذاهبا.. دراسة وتحليل ومناقشة : د. مصطفى شاهين
- التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام للشيخ محمد الغزالى
[1])) سوة الأنعام آية 125 .