علم التوحيد
لما كان المسلم لابد وأن يكون حسن التوكل على الله ، كامل الثقة بالله ، عظيم الرغبة فى الله، شديد الرهبة من الله، مطمئن القلب بالله، لا تلم بقلبه لمة شيطان فيهُم بمخالفة الشرع، ولا يهجس بسره هاجس شك ، فيتأول كلام الله برأيه، ويجرؤ على فعل القبائح والمنكرات، بل قد يبلغ به اليقين مبلغا حتى يكون إذا ألقى عليه درس فى التوحيد كأنه يرى تلك المعانى، لما تقتبسه نفسه من قبس الأنوار القدسية عند سماع صفات الحق سبحانه، وهذا هو الغرض من دراسة علم التوحيد، وليس الغرض منه تشكيك المسلم وتنمية قوة الإنكار والجدل، وتعليمه سوء الأدب مع الأئمة الهداة حتى يبلغ به الجهل مبلغا يجعله ينكر على العلماء .
وقد ظهر الفساد حتى صار بعض المعلمين يجلس فى مجلسه يقرر درسا من التوحيد ،وتدعوه نفسه إلى أن يظهر قدر علمه ومقدرته على إيراد الشبه وردها بالأقيسة، ويظن المسكين أنه أرضى ربه لما أظهر من أبواب الشبه وما أبدى من دقائق المباحث، وفى الحقيقة أنه أفسد عقول المتعلمين وأبدل اليقين بالشك، والتصديق بالريب، ونجس الآذان بما لا يفيد، وأطفأ نور القلوب بما يظنه خيراً.
وقد أفرد الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم بابا فى كتابه دستور آداب السلوك فيما يلزم للسالك معرفته فى علم التوحيد حتى تنجذب نفسه إلى الحق بكليتها وتسارع فى مرضاته، وتفر من موجبات غضبه .
التوحيد :
التوحيد هو الشراب الطهور الذى سقاه الله بيد عنايته من سلسبيل محبته إحسانا منه سبحانه بسابقة الحسنى أزلا .
التوحيد ومآخذه :
هذا العلم يتلقى من القرآن والسنة ومن أفواه أهل الخشية من الله ، الذين واجههم بجماله العلى مواجهة منحتهم اليقين الحق فرأوا ملكوت السموات والأرض ، وليس للعقول – وإن كملت – قوة تستبين بها حقيقة هذا العلم ، لأن المطلوب علي عظيم ، غيب عن الأرواح ، الدليل عليه خفى ، وإنما هو الحس يحكم على الأجسام والأغراض ، وفى هذا العلم لا يقاس الغائب بالحاضر ، لأنه منزه عن النظير والشبيه ، ومن طلب هذا العلم بالبحث والنظر ارتد خاسئا وحسيرا ، ولكن لابد من رياضة النفس بالنظر إلى الكائنات لتنبلج الآيات ، وإذا ظهرت الآيات انشرح الصدر ، واطمأن القلب ، فأقبل العبد سميعا مطيعا ، مؤمنا بما يتلى عليه من آيات التوحيد فى القرآن والسنة ، وعبارات وإشارات السلف الصالح ، والعقل مقهور مخلوق منحه الله القوة التى يدرك بها الصالح ، وليس له أن يحكم على القهار القوى ، ولا أن يحوم حوالى سواطع أنوار العزة والعظمة والكبرياء ، قال تعالى : ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ ([1]) .
والذى دعا علماء الخلف إلى هذه الحرب الطاحنة بينهم ، إثباتا وسلبا وتشبيها وتعطيلا أمران عظيمان :
الأمر الأول :
إقامة الحجة على أعداء الإسلام من المجسمين كالنصارى واليهود والمجوس والصابئة ، والمشبهين كالغلاة من الزنادقة والفلاسفة ، والشاطحين من الممرورين الذين ارتاضوا على أيدى الجهلاء ، وتركوا مجالسة أهل العلم بالله تعالى والعارفين ، واعتزلوا الناس اشتغالا بالذكر والخلوة قبل أن يتعلموا العلم النافع ، فمثلوا الحق بأوهامهم وشبهوه بخيالاتهم ، ومن دخل الخلوة للرياضة – قبل أن يلتقى العلم النافع والفرق بين التشبيه والتنزيه – هلك بوهمه وخياله .
وكان السلف الصالح لا يدخلون السالك الخلوة وله وهم أو خيال فى هذا الجانب .
الأمر الثانى :
أنهم وقفوا عند عقولهم ، فخافوا على الله تعالى فنزهوه سبحانه تنزيها اقتضى التعطيل ، فوقعوا فيما وقع فيه المشبهون ، حفظنا الله وإخواننا المؤمنين من الخلط فى هذا المقام ، ومنحنا التسليم لله ولرسول الله ﴿ صلى الله عليه وآله﴾ والإقتداء بسلفنا الصالح .
وقد بين الإمام أبو العزائم العقيدة فى كثير من الكتب بيانا مرتبا ترتيبا على قدر قوة السالك ، فوضع فى كل كتاب عقيدة بحسب المقامات التى هى : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، والإيقان . فإن لكل مقام علما لابد منه ، وعملا خاصا به ، كتربية الطفل يفتتح قوته باللبن حتى يقوى على غيره ، قال تعالى : ﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾([2]) ولما كانت عبارات السلف الصالح فى هذا العلم ، يقوى بها يقين المؤمن ، أورد الإمام أبو العزائم فى هذا المختصر بياناتهم فى التوحيد ، ليعلم السالك أن ما يتلقاه من علم التوحيد ليس هو العلم الذى به النجاة ، وإنما هو دروس لرياضة النفس ، بها تقوى على دفع شبه الفرق الضالة ، وهذا العلم إنما يتلقى من الكتاب والسنة والعلماء أهل الخشية من الله تعالى .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى
([1]) سورة الأنعام آية 103 .
([2]) سورة الصافات آية 164 .