المسافر إلى الله تعالى مطالَب أن يقطع المسافات التي بينه وبين ربه، ويخترق الحجب التي تحجبه عنه سبحانه؛ قال تعالى: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) "المطففين:14-15"، وذلك حتى يتحقق فرارُ العبد إلى الله كما قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) "الذاريات:50".
وتلك المسافات التي يقطعها العبد هي تلقي العقيدة الحقة من العلماء بالله، ومجاهدة النفس لتزكيتها لتتجمل بالأخلاق الفاضلة، وتراقب ربها بحسن معاملة الخلق ابتغاء مرضاة الحق جل جلاله، وتلمُّس تطهير القلب ليكون بيتاً معموراً بأنوار الجمال والبهاء رجاءً وأنساً وحُبًّا، مع التمسك بالأصول التى بها يتحقق الوصول؛ وهي:
1- اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- المجاهدة.
3- التأدب للوارد.
4- الصحبة في الله.
ونتناول بيان ذلك ببعض التفصيل بمشيئة الله تعالى على ضوء ما بيَّنه الإمام المجدِّد أبو العزائم رضي الله عنه في كتابه: "دستور آداب السلوك إلى ملك الملوك" ومن ذلك:
أولا: اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أصل الأصول الذي به نيل محبة الله للعبد والفوز بالحسنيين هو اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) "آل عمران:31".
والناس قسمان: شقي وسعيد، قال سبحانه: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) "هود:105"، فالشقي مَن أشقاه في الأزل، والسعيد مَن أسعده إلى الأبد، والأصل في ذلك العناية، فمَن سبقت لهم من الله الحسنى أقامهم عمالاً له سبحانه بالإخلاص في محابه ومراضيه، وتولاهم بالعناية والتوفيق والولاية، ومن قدَّر عليهم الشقاء وكِلَهم إلى أنفسهم عدلاً منه تعالى.
وأول عنايته بالسعداء أن يلهمهم حُبَّ العلم والعلماء، وينشط أبدانهم بالعمل بما علموا، ثم يتفضل عليهم برعاية العلم في العمل، وبمراقبته سبحانه في العلم والعمل، ثم يريهم غيوب آياته في ملكه وملكوته، فيرفعهم قَدرا من مقام إلى مقام، ويعلِّمهم بفضله ما لم يكونوا يعلمون، قال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) "المجادلة:11".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: مَن عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضتُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإذَا أحْبَبْتُهُ كُنتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَإن اسْتَعَاذَ بِي لأُعِيذَنَّهُ...) "البخاري".
والعلم هو تصور النفس رسوم المعلوم، حتى تكون النفس عليمة لأنها محل للعلم - كما يكون الثوب أبيض أو أسود لأنه محل للسواد أو البياض - وذلك العلم النافع يُكسِب القلوبَ خشيةً من الله تعالى فيكون العبد كأنه يرى المعلوم رؤية تأثير على النفس والجسم والحِس، تحفظ الجوارح من تعدي حدود الله، وتحفظ الجسم من الوقوع فيما حرم الله، وتحفظ العقل من التخبط فى بيداء الحظ والهوى.
فيتحقق الإنسان بخشية الله سبحانه، ويسارع إلى مغفرة من ربه وجنة عرضها السموات والأرض، ويتخلق بأخلاق الله من الرحمة والرأفة والحلم والصبر والشكر والكرم والعفو والتوبة والمغفرة، والحب في الله والبغض في الله، وغيرها...
والتخلق بأخلاق الله تعالى يجعل العبد مع الذين أنعم الله عليهم، لأنه يكون في الدنيا بين الله وبين عباده قائما مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام داعياً إلى الله تعالى آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ويوم القيامة مع رسل الله؛ قال سبحانه: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) "النساء:69".
ومثل هذا خير للمسلمين من الأمطار؛ لأن الأمطار تُحيي النبات النافع للأشباح، والعالِم العامل بعلمه يحيي القلوب، بل وخير من الشمس؛ لأن الشمس تبيّن بنورها طرق الأرض، والعالِم العامل يبيّن سبل الله تعالى التي بخفائها على الناس يهلكون جميعا بحرمان النجاة يوم القيامة.
وفي الموطأ قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيّ جَالسِ العُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُم بِرُكبَتَيكَ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُحْيِي القُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيِي الأرْضَ بِوَابِلِ المَطَر).
وليس أضر على الأمة من أربعة أنواع: عالِم لا يعمل بعمله، وعالِم باللسان جهول بالقلب، وتارك للعلم والعمل، والذي يصد الناس عن العلماء والتقوى.
وقد فرض الله على عباده أن يتدبروا آياته المتلوّة المسموعة؛ قال سبحانه: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) "النساء:82"، وآياته المرئية المشهودة في الكائنات؛ قال جل شأنه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) "العنكبوت:20"، يقول الإمام في قصيد له:
وإن نظرَتْ عينِي إلى أيِّ كــــائن تغيبُ المباني والمعاني سواطـــعُ
لأن المعاني الشمس والكلُّ أنجمٌ إذا أشرقَتْ فالنجمُ بالشمسِ طالـعُ
ذلك ليجمع الله بفضله لعباده نور حكمته وقدرته في قلوبهم، فيكمل توحيدهم، وتعظم محبتهم لله تعالى بشهود أنوار القدرة، ويسارعون إلى العمل بمحاب الله تعالى ومراضيه، والمحافظة على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأسعد الناس في الدنيا والآخرة من تحقق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى به من نفسه، فقهر نفسه وهواه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشدة والرخاء، والسر والجهر، وما ترك من الجهل شيئًا من أغضب مولاه باتباع هواه.واتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به نيل محبة الله للعبد المتبِع، فمن يرضى أن يُحْرَم محبة الله له بمخالفة حبيبه؛ حكم على نفسه بالشقاء الأبدي.
والاتباع الذي أراده الله تعالى في قوله سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) "آل عمران:31"؛ ورتَّب عليها محبتَه للعبد محسوب في أصلين عظيمين لا إسلام بدونهما:
1 – التصديق:
أن نصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تصديقا يمحق كل شبهة حتى يقوى الإيمان بخبره عن الله تعالى، قوة تجعلنا نسلم له صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً لا تشوبه ظلمات شُبَه نزوع النفس، ولا ضلالات أباطيل شياطين الإنس، ولا بهتان أهل الأوهام الظانين بالله ظن السوء؛ من مذاهب أهل الملل والنحل الذين يفترون على الله الكذب، وهم المغضوب عليهم الذين اتخذوا هواهم إلههم من اليهود والصابئة، وغيرهم ممن أضلهم الله على علم، ومن مجوس هذه الأمة الذين اتخذوا القرآن مهجوراً، وأضروا المسلمين بآراء أهل الكفر بالله من عبيد المادة والحاكمين على الله بحسهم وأوهامهم.
ولا يعتري هذا التصديق القويّ سخافة الضالين الذين قالوا بالحلول والتثليث، من البوذيين والبوهميين والبابلية والأشوريين وغيرهم، ممن عبدوا إنساناً قبل موسى وعيسى والخليل عليهم السلام، وقدسوا معبودهم الإنسان، حتى قالوا إنه مثلث الأقانيم وسموها الآب والابن والروح القدس، ولا تزال تلك العقيدة وقد انتحلتها النصارى، فشوهوا بها دين المسيح عليه السلام.
ولا وصول للإنسان إلى الحق إلا بما جاءنا به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالعقيدة لا يمكن تحصيلها إلا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) "الأحزاب:40"، قررت تلك الآية الشريفة أنه لا نبيّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحكم جزء من عقائد الإيمان، فلا يكون المسلم مسلماً حقًّا إلا إذا صدّق أنه لا نبيّ بعده صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تفضل الله تعالى على الأمة فحفظ فيها ولها أنوار حبيبه خاتم الأنبياء وحفظ لنا أسراره، قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) "الحجر:9"، وقال تعالى: (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) "آل عمران:101"، وفي الحديث الشريف: (اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي...) "الطبراني وغيره".
وقد أنزل الله تعالى الأمة منازل الأنبياء؛ قال سبحانه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) "آل عمران:110"، وقال سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) "البقرة:143"، يعني عُدُولاً تشهدون على الأمم يوم القيامة.
فالأصل الأول هو تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً مؤيداً باليقين الحق حتى لا تشوبه شبهة، فإن الشبهة تمحق العقيدةَ مَحْقاً،وأخوف ما يخاف المؤمن على نفسه من رجل مضل يلقي شبهة في دينه.
2 – امتثال أوامر الله تعالى وإطاعة رسوله:
أما الأصل الثاني فهو امتثال أمر الله تعالى وإطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما تتحقق الاستقامة ممن كملت عقيدته وطهرت من الشبهة، فإن أنوار العقيدة تجعل للمؤمن طمأنينة قلب بما وعد الله به، فيكون كأنه مشاهد للجنة ونعيمها، وللنار وعذابها، فيسارع إلى ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.
وإنما تحسن الطاعة وتحلو الاستقامة لعبد حفظه الله من الشهوة، فإن الشهوة - أعاذنا الله جميعاً - تمحق الاستقامة مَحقاً، وتجعل العابد يعمل لغير الله، وكما أن الشبهة مفسدة للعقائد، فكذلك الشهوة مفسدة للعبادات، وآفة التصديق: الشبهة، وآفة العبادة: الشهوة، والمخلصون على خطر عظيم.
والإنسان مطالَب بالعبادة الرُّوحانية والجسمانية، والعبادة الرُّوحانية هي نتيجة قوة الإدراك والنظر، ومبدؤها التصديق، ثم قوة الإيمان، ثم اليقين الحق الذي يتفضل الله به على العبد بالعرفان، والحب، والرهبة، والتوكل، والمراقبة، والمشاهدة، إلى غير ذلك مما به يكون قريباً من الله سبحانه، والله قريب منه، متحققا بمعية الله له.ومؤمن يرى اللهَ معه حيث كان وكيف كان لا يغفل إذا غفل الناس، ولا ينسى إذا نسي الناس، ويتباعد عما يخالف الشريعة، لأن الإنسان الفاجر يستحيي أن يعمل منكَراً أمام إنسان نظيره، فكيف بالحاضر مع الله المشاهد لمعيته سبحانه؟!.
وسرّ الطريق إلى الله تعالى مجهول عند الكثيرين من الذين يدَّعون دعاوى باطلة:
فمنهم من يدَّعي محبة الله وهو إنما يحب شهوته، فصارت عنده محبة الله طمعاً، ومن ادعى المحبة ورغب في الدنيا فهو كاذب على نفسه، فمحبة الله تجعل المحب مقبلاً بالكلية على الله، لا يلتفت ولا إلى الجنة.
ومنهم من يدَّعي أنه عابد وهو إنما ينفذ عادته، وليس المسارع إلى العادة كالقائم بالعبادة، والعابد حاضر مع الله بعباداته، مشاهد عظمة وكبرياء المعبود جل جلاله؛ وحقارة وذلة نفسه، فكيف يخطر على قلبه غير المعبود جل جلاله في وقت عبادته؟!.
أما العبادة الجسمانية فإنها الحركات والسكنات والأقوال، أو التروك كالصيام، وكترك كثير من المباحات خوفا من الوقوع في الشبهات، وتلك العبادة لا تكون مقبولة إلا إذا كانت مطابقة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صادرة عن رعاية الله في عملها، ومع مشاهدة الرُّوح لحقيقتها، ولما فيها من الحكمة الموجبة لكمال الخشية والرهبة، حتى يكون العابد عاملاً بجسمه ورُوحه على صراط الله المستقيم.
فمن عمل بهواه ورأيه أو تحرك جسمه وغفل بقلبه فليس بعابد، قال تعالى: (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) "الزمر:3"، وإنما تصح العبادة ممن ذاق حلاوة محبة الله، وصحت إرادته، والمعتاد عمل العبادة من غير حضور يجب عليه أن يتدارك نفسه بصحبة العارفين؛ ليذوق شيئًا من العلم بالله تعالى والعلم بنفسه.
وللحديث بقية إن شاء الله.