لما كان السالك في طريق الله تعالى لابد وأن يكون ملمًّا بما هو ضروري له في سيره وسلوكه؛ بيَّن الإمام المجدِّد السيد محمد ماضي أبو العزائم في كتابه: "دستور آداب السلوك إلى ملك الملوك" مفهوم السنة والإجماع والرأي وأسهم الإسلام، مما سنذكر بعضه، حتى تصح للمريد إرادته وتحسن بدايته، ويسير على الطريق المستقيم، سابحاً بفكره في بحار علوم الشريعة، ممتعة رُوحه بما يقوم به من عبادة وعمل، ساكنة نفسه بما يتحقق به كمال الإيمان وحق اليقين، قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) "النحل:44".
ومن بيان ذلك ما يلي:
السُّنَّة
السُّنَّة هي قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمله وتقريره، فكل أعمال الصحابة وأقوالهم والتي سمعها منهم ورآها أو بلغته عنهم ولم ينكر عليها؛ فهي تقريره وهي سنته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أكرمنا الله تعالى وحفظ لنا أعماله وأقواله وأحواله وشمائله وسيره وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الشئون، بل وحفظ لنا ما رآه وسمعه أو بلغه عن أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر عليه، وحفظ كل ذلك في مسانيد ومجاميع صحاح، قام بتدوينها أمناء الله وحملة شريعته، ورواها الخلف عن السلف، حتى وصلت إلينا مضبوطة مبينة، بياناً يدركه الغبي والذكي، جزى الله الأئمة الثقات عنا خير الجزاء، فلم يبق من عذر لتارك التعليم، قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) "الزمر:9".
وليس العالم من حصَّل من العلم كمقادير الجبال، إنما العالم من عمل بعلمه ولو تعلم مسألة واحدة، وإن العلم يحصل للعمل به، لا للرفعة والعلو في الأرض بغير الحق، أو للمماراة والجدل، أو للتوسط إلى الأمراء والملوك، ومن حصل العلم ليجعله وسيلة للغرض الفاني سجل على نفسه الشقاء في الدنيا والآخرة، وشر الناس عليم اللسان جهول القلب الذى يطلب الدنيا بعمل الآخرة، كالعُبَّاد الجهلاء الذين يتجملون للعامة بكثرة العبادة ليفسدوا عليهم عقائدهم، وليسلبوا منهم أموالهم.
والعلم الحقيقي هو العلم بالله، وبأيام الله، وعلم المسلم بنفسه، وعلم ما يجب عليه في الوقت عمله، وعلم حكمة ما يعقل من أحكام الله، حتى لا يضيع الوقت في تحصيل ما لا يجب عليه في الوقت.
الإجماع والرأي
الإجماع هو اتفاق أهل الحَلّ والعَقْد من الموثوق بهم من هذه الأمة على أمر من الأمور الشرعية أو العقلية أو العادية.
وقيل إن المراد بالحَلّ والعَقْد: عقد نظام جماعة المسلمين في شؤونهم العامة، السياسية، والإدارية، والتشريعية، والقضائية، ونحوها، ثم حل هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد.
وقيل: إن أهل الحل والعقد هم الذين ينعقد بهم الإجماع، وقيل: هم معنيون بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُم) "النساء:59".
وفي تفسيره لتلك الآية الكريمة يشير الإمام إلى أن أُولِي الأمر هم ولاة الأمور من الولاة والحكام والقضاة، وشرط علينا في إطاعتنا لهم أن يكونوا مِنَّا، فإذا كان ولاة الأمور ليسوا مِنَّا؛ أو عملوا فينا بغير ما كان عليه سلفنا؛ لم تجب علينا طاعتهم، ولكن الحكمة واجبة، فإن كانوا متغلبين فالقرآن بيَّن لنا كيف نعيش معهم عيشة يحفظنا الله بها من الوقوع في غضبه؛ قال تعالى: )إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ( "الأنفال:16"، وقد أمرنا الله بالصبر والتصابر، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واسعة، فقد مكث صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة بمكة يداوي القوم هو وأصحابه، حتى أظهر الله الحق وأذل الباطل.
وقال بعض العلماء: أُولُو الأمر منا هم العلماء العاملون الذين يجددون سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلون كلمة الله بأقوالهم وأحوالهم وأعمالهم؛ ولا مانع أن يكون الولاة والقضاة والحكام علماء فيكونون هم أُولِي الأمر، فإن اختفى أهل الحجة الذين يقيمون الحجة لله ويبينون محجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصار القوم بين حكام ظلمة، وتجار خونة، وعلماء حسدة، ونساء كيادات؛ فعلى طالب الله أن يفر إلى شواهق الجبال يرعى له غنيمات يقمن صلبه خشية على نفسه من نزول عذاب الله بالقوم، ومن ظفر في مثل هذا الزمان بقائم لله بحجة خافياً مستوراً وتمسك به نجا، وقليل ما هم.
أما الرأي فهو استفراغ الوسع في علم الحادثة؛ حتى يطمئن القلب للحكم عليها.
أسهم الإسلام
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نبيّ بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدُوا اللهَ ربَّكم، وصَلُّوا خمسَكم، وصُومُوا شهرَكم، وحجوا بيتَ ربِّكم، وأدُّوا زكاةَ أموالِكم طيبة بها أنفسكم) "جامع الأحاديث للسيوطي".
وأسهم الإسلام ثمانية: الشهادتان، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وقد تكلم الإمام عنها في العديد من مؤلفاته، ونتناول هنا بيان ما تيسر من ذلك بعون الله وتوفيقه:
أولاً: فقه الشهادتين
مما بيَّنه الإمام في كتابه: "أصول الوصول لمعية الرسول صلى الله عليه وسلم" فقه الشهاتين، ومن ذلك ما يلي:
فقه شهادة أن لا إله إلا الله:
هي ما أجمع عليها أئمة الهدى من السلف الصالح من أهل العلم بالله تعالى والخشية من جنابه سبحانه وتعالى، وهي أول فرض فرض على المؤمنين، لأن أول واجب أجمع عليه السلف الصالح هو شهادة التوحيد، ووصف فضائلها، وهي شهادة المقربين، وشهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) "محمد:19"، وقال لعباده المؤمنين يأمرهم بمثل ذلك: (فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) "هود:14".
ففرض التوحيد هو اعتقاد القلب أن الله واحد لا مِن عدد، وأوّل لا ثاني له، موجود لا شك فيه، وحاضر لا يغيب، وعالم لا يجهل، قادر لا يعجز، حيّ لا يموت، قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه، سميع بصير، ملك لا يزول ملكه، قديم بغير وقت، آخر بغير حد، كائن لم يزل ولا تزال الكينونة صفته لم يحدثها لنفسه، دائم أبد الأبد لا نهاية لدوامه، والديمومة وصفه غير محدثها لنفسه، لا بداية لكينونيته، ولا أولية لقِدمه، ولا غاية لأبديته، آخر في أوليته، أوَّل في آخريته، وأن أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة له ولا منفصلة عنه، وأنه أمام كل شيء، ووراء كل شيء، وفوق كل شيء، ومع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من نفس الشىء، وأنه مع ذلك ليس محلا للأشياء، وأن الأشياء ليست محلا له، وأنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، الجو وجه والفضاء من ورائه، والهواء وجه والمكان من ورائه، والحول وجه والبعد من ورائه، وهذه كلها حجب مخلوقات من وراء الأرضين والسموات متصلات بالأجرام اللطاف، ومنفصلات عن الأجسام الكثاف - من الكثافة - وهي أماكن لما شاء، داخلة في قوله: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) الذاريات:49"، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ربَّنا لكَ الحمدُ ملء السمواتِ وملء الأرضِ وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد) "مسلم وغيره".
والله - جل جلاله وعظم شأنه - هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه، لا يمتزج ولا يزدوج إلى شيء، بائن من جميع خلقه، لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخلق إلا الخلق، ولا في الذات إلا الخالق: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) "المؤمنون:14".
وأنه تعالى ذو أسماء وصفات وقدرة وعظمة وكلام ومشيئة وأنوار، كلها غير مخلوقة ولا محدَثة، بل لم يزل قائماً موجوداً بجميع أسمائه وصفاته وكلامه وأنواره وإرادته، وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت، له الخلق والأمر والسلطان والقهر، يحكم بأمره في خلقه وملكه ما شاء كيف شاء، لا معقب لحكمه، ولا مشيئة لعبد دون مشيئته، إن شاء شيئاً كان، ولا يكون إلا ما شاء، لا حول لعبد عن معصية إلا برحمته، ولا قوة لعبد على طاعته إلا بمحبته، وهو واحد في جميع ذلك لا شريك له ولا معين في شيء من ذلك.
ولا يلزمه إثبات الوعيد، بل المشيئة إليه في العفو، ولا يجب عليه في الأحكام ما أجرى علينا، ولا يختبر بالأفعال، ولا يشار بالمقال، حكيم عادل بحكمة وعدل هما صفتاه، لا تشبه حكمته بحكمة خلقه، ولا يقاس عدله بعدل عباده، ولا يلزمه من الأحكام ما ألزمهم، ولا يعود عليه من الأسماء المذمومة كما يعود عليهم، قد جاوز العقول وفات الأفهام والأوهام والمعقول.
هو كما وصف نفسـه؛ وفوق ما وصفه خلقه، نصفه بما ثبتت به الرواية وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه ليس كمثله شيء في كل شيء بإثبات الأسماء والصفات، ونفي التمثيل والأدوات.
وأنه سبحانه وتعالى لم يزل موجوداً بصفاته كلها ولم تزل له، وأن صفاته قائمة به لم تزل كذلك، ولا يزال بلا نهاية ولا غاية ولا تكييف ولا تشبيه ولا تثنية، بل بتوحيد هو متوحد به، وتفريد هو منفرد به، لا يجري عليه القياس، ولا يمثل بالناس، ولا ينعت بجنس، ولا يلمس بحس، ولا يجنس بشىء، ولا يزدوج إلى شيء، وأن ما سوى أسمائه وأنواره وكلامه من الملك والملكوت محدَث كله، ومظهر حدث بعد أن لم يكن، ولم يكن قديماً ولا أول، بل كان بأوقات محدَثة، وأزمان مؤقتة.
والله تعالى هو الأزليّ الذي لم يزل، الأبديّ الذي لم يحل، القيوم بقيومية هي صفته، الديموم بديمومية هي نعته، أوَّل بلا أوَّل، ولا عن أوَّل، آخر لا إلى آخر بكينونة هي حقيقته، أحد صمد لم يلد، وبمعناها لم يولد، ومعنى ذلك لم يتولد هو من شيء، ولم يتولد منه شيء، ومثل ذلك لم يخلق من ذاته شيء، كما لم تخلق ذاته من شيء، سبحانه وتعالى عما يقول الملحدون من ذلك علوا كبيرا.
هذا ما انطوى عليه القلب من علم كلمة: (أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله) الذي فرضه الله على المؤمنين بنص كتابه كما تقدم في الآية، ومتى تحقق القلب باليقين بها باشره حق اليقين، فشهد من مشاهد التوحيد، وبدائع حكمة الحكيم، وعجائب تصريف قدرة القادر، وأنوار غيب الواحد الأحد؛ ما يعجز عنه البيان، ويقصر عن إدراكه العقل، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، ومتى وهب شرح الصدر، وصفى الخيال.
فقه شهادة أن محمداً رسول الله:
قال الله تعالى في محكم تنزيله: (وََإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) "آل عمران:81"، وقال عز وجل: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) "النساء:80"، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) الفتح:10"، ففرضها علينا أن نشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خاتم الأنبياء لا نبيّ بعده، وكتابه خاتم الكتب لا كتاب بعده، وهو مهيمن على كل كتاب، ومصدق لما سلف من الكتب قبله، وأن شريعته ناسخة للشرائع، قاضية عليها إلا ما أقره كتابه ووافقه، وكتابه شاهد على الكتب، وحاكم عليها وأنه هو الذي بشَّر به عيسى عليه السلام أمتَه، وهو الذي أخبر به موسى عليه السلام أمتَه، وهو المذكور في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله عز وجل المنزلة، وهـو الذي أخذ الله ميثاق النبيين أن يؤمنوا به وينصروه لو أدركوه، فأقروا بذلك وشهد الله تعالى على شهادتهم، وهو الذي أخذت الأنبياء شهادة الأمم على الإيمان به وأمرتهم بتصديقه وأخبرتهم بظهوره، وأن موسى وعيسى عليهما السلام لو أدركاه لزمهما الدخول في شريعته، وأن بقية بني إسرائيل من اليهود والنصارى كفرة بالله لجحودهم رسالته، وأن إيمانهم بكتابه مفترض عليهم مأمور به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم، وأن طاعته ومحبته فريضة واجبة على الكافة كطاعة الله تعالى، واتباع أمره واجتناب نهيه مفترضان على الأمة إيجاباً أوجبه الله تعالى له، وفرضاً افترضه على خلقه متصلاً بفرائضه.
ثانياً: الصلاة
حكمة وسائل الصلاة:
إنما أوجبت الشريعة طهارة الجسم والثوب والمكان قبل الدخول في الصلاة ليشعر القلب بأنه يتأهل للدخول في حضرة الله تعالى، ليقوم له سبحانه بما فرضه عليه من العمل شكراً على ما لا يحصى من النعم، والقلب محل نظر الرب سبحانه فيجدد طهارته، وتجديده من شوائب الشرك الظاهر والخفيّ والظلم والحسد والطمع والحرص والعلل والأغراض التي تجعل القلب بعيداً عن الله تعالى، محروماً من فضل المواجهة، ولا يكون ذلك إلا بالتوبة الخالصة قبل الدخول في الصلاة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المُصَلَّي يُنَاجِي رَبَّه) "جزء من حديث أخرجه الطبراني".
حكمة طهارة الجوارح:
كما أن العبد يطهر جوارحه بالماء، فإنه يراعي أن الجوارح ليست منجسة نجاسة حسية، فيتذكر نجاسات تلك الجوارح العملية، فيغسل العضو بالماء، ويغسله بالتوبة والأوبة والخوف من الله تعالى والحياء منه سبحانه، لأنه استعمل نعمة الله فيما يغضبه - وهي الجوارح -، وفي تلك الرعاية يعتقد عجزه عن حفظ جوارحه من المعصية، ويتناول طهور: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويشكر الله الذي وفقه للطهور أو الغسل ويجعله طهارة لقلبه وقالبه.
معنى طهارة الثوب:
أما طهارة الثوب فإنها بالماء وبغيره، وقد بين الفقهاء طهارته بالماء، أما طهارته بغير الماء: بأن يكون لبسه لغير رياء أو كبر وخيلاء وعلو في الأرض بغير الحق، وبأن يكون تحصّل عليه من جهة شرعية تبيح له استعماله، وبأن يكون أدى حق شكر الله عليه فرحاً بفضل الله وبرحمته ونعماه، وأن يكون من نوع مباح، غير متجاوز الكعبين ولا الكوعين، وبعد وفاء الأجير أجرته، هذه هي طهارة الثوب يكون المصلي برعايتها صلى صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
طهارة المكان:
طهارة المكان بالماء بُينت في كتب الفقه، وله طهارة أخرى:
فالمكان إما أن يكون مسجداً عاما، وطهارته أن يؤسس على التقوى ولم يؤسس ضراراً ولا تفريقاً بين المسلمين، ولا إرصاداً لمن يحارب الله ورسوله، ولا فخراً ورياءً.
فإن كان غير مسجد فمن طهارته أن يكون غير مغصوب، ولا مرهون في يد الراهن ينتفع به، فإن ذلك رِبا، وهي نجاسة في المكان، ومن طهارته التي يراعيها أهل المراقبة أن لا يكون مزخرفاً زخرفة تشغل النظر والقلب، وتجعل الإنسان فخوراً.
فإن الصلاة مقام العبودية الخالصة، ولا تكمل إلا بالذل والانكسار والخضوع والخشوع، ومن ذلك الإشارة إلى خطاب الله تعالى كليمه بعد بُعده عن أهله وماله، فإن الوادي قُدِِّس وتجلى ربُّنا سبحانه لموسى وخاطبه بعد فراغ قلبه من الشغل بغيره سبحانه من مال وولد وأهل، ولأهل الإشارة في هذا المقام شهود وحِكَم لا تفي بها العبارة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الطهورُ نصفُ الإيمانِ) "جزء من حديث رواه البيهقي وغيره".
حكمة دخول الوقت:
معلوم أن الإنسان في الليل فقد الحس والحركة بالنوم فصار كالميت، فإذا أعاد الله عليه الحس والحركة عند طلوع الفجر الصادق استقبل تلك النعم العظمى فرحاً بفضل الله عليه وبرحمته به فسارع إلى شكره، فكان وقت الصبح شكراً لله على الحياة الجديدة، وافتتاحاً لليوم الجديد بعمل صالح يحبه الله تعالى، وحضوراً مع الله تعالى بالدخول في الصلاة ليقف بين يديه سبحانه، مرتلاً كلامه، متملقاً بين يديه بالذل الواجب على العبد لسيده الكبير المتعال، آنساً بشهود جماله العليّ وعظمته وكبريائه وفضله وإحسانه، مبتهجاً بما تفضل به عليه من توفيقه إياه، وهدايته له، وإقامته عاملاً لمولاه متشبهاً بصفوته وخيرة من والاه، قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) "العنكبوت:45"، ولذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة، أو: لذكر العبد ربه في الصلاة حضوراً وشهوداً أكبر من الصلاة عملاً وقولاً في الصلاة.
حكمة تخصيص أوقات الصلاة:
1– صلاة الصبح:
خصصت الشريعة المطهرة صلاة الصبح في طلوع الفجر الصادق الذي تجتمع فيه ظلمة الليل وشعاع النهار؛ ليشهد المصلِّي تغير الآيات في نفسه، فيعلم من عجائب القدرة وغرائب الحكمة ما يقوى به إيمانه، ويتحقق أنه في اختلاف الليل والنهار حِكَم بها صلاح العالم ظهرت بها رحمة أرحم الراحمين بخلقه، فإذا صلى مشاهداً وجلس يذكر الله حاضراً توالت سواطع الأنوار، حتى ينشق الأفق عن كوكب الشمس المشرقة بنورها وحرارتها وجمالها، فيشهد فيها من الخواص والتأثيرات التي أودعها الله في الكواكب، لتكون آية كبرى دالة على كمال القدرة ووسعة الرحمة، فيفوز المصلِّي بمشاهد تتجدد له في كل صباح، تجعله ذاكراً لا ينسى، ومطيعاً لا يعصى، وشاكراً لا يكفر، وموحِّداً لا يجحد.
2 – صلاة الظهر:
ثم يخرج المسلم من طاعة إلى طاعة لأنه خرج من صلاة إلى سعي للعمل الذي يحصل به قُوتَه تلبية لقوله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) "الملك:15"، فإذا انتصف النهار وزالت الشمس تحقق أن الشمس مقهورة مسخرة، وعلم ما أنعم الله به عليه بسببها، وشهد من عميم فضل الله وعظيم نعمه عليه، فسارع لذكره بصلاة الظهر، مفكراً في هذا الكوكب العظيم كيف تحول وتغير وأقبل وأدبر، ويراه يسبح في الأفق غير معتمد على عمد، ولا مرتكز على جامد، فيصلي الظهر مفرِداً ربَّه بالعبادة دون غيره، ناظراً إلى ما أحاط به أنه مخلوق مقهور مسخر له بفضل الله.
3 – صلاة العصر:
فإذا صار ظل كل شيء مثله أو أكثر تحقق زوال الدنيا وفناءها، وتذكر الآخرة وأهوالها، وأدرك من النعم المتوالية له أن الذي وهبها يجب له الشكر والثناء، لأن الكفور بالنعمة يؤاخَذ بأليم العذاب، فيسارع لصلاة العصر، ذِكْراً لربه بعد الغفلة بالعمل للدنيا، فيحضر معه سبحانه بعد الحجاب بالأمل.
ولأهل الشهود مواجهات خاصة بهم في تلك الأوقات عليّة عن الإشارة، ومن تناول طهور قوله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) "البقرة:282"، فاز بالحسنى.
والمؤمن إما أن يجلس لذكر الله حتى تغرب الشمس، أو يسارع إلى خير يعمله من بِر أو صلة أو إصلاح أو وفاء بعهد أو مواساة، أو عمل ينفعه الله به وينفع به غيره كتجارة أو صناعة أو زراعة.
4 – صلاة المغرب:
فإذا غربت الشمس أشرقت عليه أنوار الآيات، فأيقن أن البقاء لله وحده، وفهم حكمة اختلاف الليل والنهار، وأن الليل نعمة عظمى للأبدان والجوارح، فيسارع إلى شكر الله بصلاة المغرب مفتتحاً الليل بعمل صالح فرضه عليه ربُّه.
5 – صلاة العشاء:
ويجلس يذكر الله سبحانه وتعالى مشاهداً سرعة الآيات، وينتقل من شفق أبيض إلى شفق أحمر إلى فحمة الليل، وقلبه يتقلب في تلك المشاهد، فيسارع بعد مغيب الشفق إلى صلاة العشاء، مشاهداً أنوار قدرة الله التي أبدعت تلك الكائنات، وحكمته التي نوعت تلك الآيات.
ثالثاً: الصيام
الصيام هو الفريضة التي هي ترك في الحقيقة، وهو العمل الرُّوحاني الذي يصير الإنسان فيه كالملائكة الروحانيين، لأن الإنسان يترك فيه ضروريات الحياة الجسمانية ولوازم النفس الحيوانية. والصوم رمز يشير إلى أن الإنسان حيوان وملك، فهو بقوته الحيوانية يعمل أعمال البهائم، وبقوته الملكية يعرف الله ويعبده ويتشبه بسكان ملكوته الأعلى، فيترك لوازم قواه الحيوانية بالصوم ليتذكر قوته الملكية، وليطهر نفسه من كثافة التوسع في الأعمال الحيوانية، فإن النفس يقوى طمعها وميلها إلى الحرص والأمل والحماقة والخيانة وبغض بني قومه كلما توسعت في كل ما يقوي الجانب الحيواني منها، ويكون بذلك عن رتبة الإنسان قريباً من الأنعام لتشبهه بها، فـإذا قلل من ضروريات حياته الحيوانية وتشبه بحياته المَلَكية من الصوم والتفقه كان أشبه بالملائكة منه بالحيوان، وكان الصيام تزكية لنفسه وشفاء لها من أمراضها وصفاء لجوهرها، حتى تتكمل بكمالها الحقيقي، الذي تكون به في مقعد صدق عند مليك مقتدر تخدمها الملائكة.
فالصوم عبادة من حيث إنه فرض فرضه الله، وشفاء من حيث إنه يرد للنفس صحتها، وتزكية من حيث إنه جلاء للنفس من التطرف عن الحالة الوسطى التي هي الفضيلة، وبه تتجمل النفس بالرحمة والصلة والبر والإحسـان والتواضع، فيكون الصائم عبداً عاملاً لله بتركه ما نهاه الله عنه من الأكل والشرب وملامسة النساء - مما أباحه الله له في غير رمضان -، وبذلك يكون متجملاً بجمال الرُّوحانيين، ومتخلقاً بأخلاق الله من الرحمة والعطف والإحسان والود والشفقة، ويكون مجاهداً نفسه في ذات الله لحبسها عن شهواتها، فيكون له - بإطاعة الأمر- النعيم المقيم، ويحظى - بالتشبه بالرُّوحانيين في مشاهدة ملكوت الله وبالتخلق بأخلاق الله - بنعيم النظر إلى وجهه الكريم سبحانه، فما أيسر ما ترك، وما أعظم ما نال!.
مراتب الصيام:
أولاً: صوم العامة
ترك الأكل والشرب وملامسة النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ثانياً: صوم العلماء
ترك شهوتي البطن والفرج مع حفظ الجوارح من الاستطالة، فإن الصوم إذا أطلق أريد منه الترك مطلقا.
ولكل عضو صيام بحسبه، فصيام اللسان: ترك الكلام إلا في ذكر الله أو ما لا بد منه، وصيام الأذُن: ترك الإصغاء إلا إلى العلم أو ما لا بد منه، قال سبحانه: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) "مريم:26"...
والعلماء يمتازون عن العامة بصيام كل جوارحهم، ولكن العامة يصومون بترك شهوتي البطن والفرج، وشتان بين الصيامين.
ثالثاً: صوم العارفين بالله
وصيام العارفين بالله عمارة الأنفاس في اليقظة بمراقبة الله تعالى، وعمارتها في النوم بسياحة الرُّوح في ملكوت الله الأعلى، لتقتبس لطائف العوارف من عالم الطهر والصفاء، وتعود إلى الهيكل الإنساني بتحف الرُّوحانين حملة العرش والحافين حوله.
رابعاً: صوم المقربين
أما صيام المقربين ممن أخلصهم الله لذاته؛ فهو تنزيه سر الصائم عن خطور ما سوى الله عليه، لأنهم شغلوا بالمعروف عن المعرفة، وبالمعلوم عن العلم بعد تحصيل العلم والمعرفة.
خامساً: صوم المحبوبين
وهؤلاء يعلمون أن رمضان شهر الله تعالى، ونسبة هذا الشهر إليه سبحانه دليل على أنه يقرب من أوليائه فيؤنسهم فيه - كما نسبت إليه الكعبة فسميت ببيت الله - فسارعوا إلى أن يعمروا الأنفاس بالحضور مع مولاهم، فحرصوا عليه كل الحرص، ونظروا إلى أمر الله في رمضان، فظهر لهم أنه حرَّم عليهم المباح في نهاره، ورغَّبهم في إحياء ليله بالقيام، فظهرت لهم حكمة عناية الله بهذا الشهر من التشبه بالعالم الأعلى - عالم الأرواح النورانية المجردة من العناصر السفلية، عالم اللطائف الرُّوحانية الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون - فساحوا بأرواحهم في فسيح الملكوت حضوراً أو استحضاراً وفكراً، وتجردوا عن وجودهم الباطل بالوجود الحق، وتخلقوا بأخلاق الله حلماً ورحمةً ورأفةً وعطفاً وكرماً وإحساناً وفضلاً.
أحسنوا إلى مَن أساء إليهم، ووصلوا من قطعهم، واستحضروا عظمة الله وجلاله، فانكسرت قلوبهم بين يديه، فكان سبحانه عندهم بما هو أهله من جمال وقرب وحب وولاية وعناية، أوحشهم أنسه عن كل أنس مَن سواه، وآنسهم بجماله ففروا ممن سواه وما سواه، وأقبلوا بكليتهم به سبحانه عليه، فكانوا كأنهم في ضيافة الله على بسائط مؤانسته وموائد كرامته، أرواحهم سائحة في ملكوته، وسرهم مشرف على قدس عزته وجبروته، فهم بين الناس بأجسامهم، ومع الله بأرواحهم، اجتباهم لحضرته فأفردهم له، وواجههم به بجمال وجهه العليّ، ففروا به إليه سبحانه، تلذذوا بما يتألم به أهل الجهالة، وفرحوا بما يحزن منه أهل الغرور، تصعد أنفاسهم إلى الملكوت فتضيء عوالم عليين، يناجون الله تعالى بكلامه حتى كأنهم يسمعونه منه سبحانه، ويضعون وجههم ليلاً على تراب الذل تملقاً بين يدي مولاهم، أمنيتهم أن يكون الدهر كله رمضان، وحزنهم أن يمضي نفَس منهم في غير الحضور مع الملك الديان، انكشفت لهم حقيقة الدنيا والآخرة؛ ففارقوا ما يزول بقلوبهم وزهدته أجسامهم، وسارعوا إلى ما يبقى طمعاً في شهود الوجه العليّ الكريم في النعيم المقيم.
سادساً: صوم الصوفية
والصيام عند الصوفية صولة الرُّوح على الجوارح، صولة تجعلها تجانسها مجانسةً ما، فتجاهد في سبيل الاتحاد بها من حيث ما تقتضيه الرُّوح في حقيقتها، وبكمال تلك الحقيقة تمنح الجوارح قبساً من الملكوت الأعلى تنال به الرفعة عند ردها إلى أسفل سافلين، وبتلك الرفعة تتلقى من ربها كلمات الإنابة الموصلة إلى المقام الذي أكرمها ربها به في المرتبة الآدمية، إلا أن آدم أسكن في مقام الزوجية النفسانية الجنة متمتعاً بنعيمها، وهذا الصائم يكرَم بدخول جنة الرضا متنعماً بأسرارها لتجرده عن مقتضيات الجوارح المجترحة بترك ما أبيح له مما لا بد منه، والإقامة في محاب الله ومراضيه، فيكون صائماً بكل جوارحه مع وجود المقتضى لا فقده، وهو الجهاد الأكبر جهاد الحس والنفس والعقل والجسم، معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصِّيَامُ جُنَّة) "البخاري ومسلم".
الصيام لم يُعبد به غيرُ اللهِ تعالى:
والصيام هو العبادة الوحيدة التي لم يُعبد بها غيرُ اللهِ تعالى، ولذلك يقول جل شأنه في الحديث القدسي: (كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ إلاَّ الصوم، فإنه لِي وأنا أجزي به)، يكشف الإمام سرَّ ذلك بقوله:
لم يصم أحدٌ لغيرِ اللهِ مِن مبدأ التكوين في كل العبــاد
كلُّ أنواعِ العبادة أشركوا غيرَه فيها سوى الصوم المفاد
فهو للهِ العليِّ جــزاؤه مشهدُ الوجهِ لدى يوم المعـاد
وقد أفرد الإمام للصيام كتابه: "صيام أهل المدينة المنورة"، وفيه المزيد عن أحكام وحِكَم ذلك الركن من أركان الإسلام.
رابعاً: الزكاة
هي الطهرة والنمو والبركة، والحجة الدالة على أنك بعت مالك ونفسك لله سر قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) "التوبة:111"، فهو سبحانه يملك النفس والمال، فيتصرف في ماله الذي هو في خزانته التي أقامك خليفة عنه في تنفيذ أوامره، بأن تعطي لعياله الفقراء منها ما حكم به لهم، وتبقى الباقي في خزانة الله عندك تتصرف فيه بأمره وحكمه.
وإنفاق المال في الخيرات أحد أركان الدين, والتكليف به بعد القيام بما يرتبط به من مصالح البلاد والعباد وبعد الخلات والفاقات, ومعلوم أن المال محبوب الخلق, وهم مأمورون بحب الله عز وجل, ويدَّعون الحب بنفس الإيمان, فجعل بذل المال معياراً لحبهم, وامتحاناً لصدقهم في دعواهم, فإن المحبوبات كلها تُبذل لأجل المحبوب الأغلب حبه على القلب.
المحافظة على الزكاة والصدقة:
وفي الزكاة والصدقة تنبغي المحافظة على خمسة أمور:
1- الإسرار:
في الخبر: (إن صدقة السِّرِّ تطفئُ غَضَبَ الرَّبِّ) "الطبراني"، والذي يتصدق بيمينه بحيث لا تعلم شماله هو أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله, وقد قال الله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) "البقرة:271"، وبذلك تتخلص من الرياء فإنه غالب على النفس.
2- الحذر من المَنّ:
وحقيقة المَنِّ أن ترى نفسك محسناً إلى الفقير متفضلاً عليه, وعلامته أن تتوقع منه شكراً, أو تستنكر تقصيره في حقك وممالأته عدوك استنكاراً يزيد على ما كان قبل الصدقة, فذلك يدل على أنك رأيت لنفسك عليه فضلاً, وعلاجه أن تعرف أنه المحسن إليك بقبول حق الله منك, فإن من أسرار الزكاة تطهير القلب وتزكيته عن رذيلة البخل وخبث الشح, ولذلك كانت الزكاة مطهرة إذ بها حصلت الطهارة, وإذا أخذ الفقير منك ما هو طهرة لك فله الفضل عليك، فالذي يُخرِج من باطنك رذيلة البخل وضررها في الحياة الدنيا والآخرة أولى بأن تراه متفضلاً.
3- أن تخرجه من أطيب أموالك وأجودها:
قال الله تعالى: (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) البقرة:267"، وبيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، يعنى الحلال, فإن المقصود من هذا إظهار درجة الحب, والإنسان يؤثر الأحب إليه والأنفس دون الأخس.
4- طلاقة الوجه والاستبشار:
أن تعطي بوجه طلق مستبشر وأنت به فرحان غير مستكره, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْف) "النسائي"، وإنما أراد ما يعطيه عن بشاشة وطيب نفس من أنفس ماله وأجوده, فذلك أفضل من مائة ألف مع الكراهة.
5- أن تتخير لصدقتك محلا تزكو به الصدقة:
وهو المتقي العالم الذي يستعين بها على طاعة الله عز وجل وتقواه, أو الصالح الفقير ذو الرحم, فإن لم تجتمع هذه الأوصاف, فتزكو الصدقة بآحادها أيضا, ورعاية الصلاح أصل الأمور, فما الدنيا إلا البلغة للعباد وزاد لهم إلى المعاد, فليصرف إلى المسافرين إليه المتخذين هذه الدار منزلاً من منازل الطريق.
من رموز الزكاة:
1- الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن المجتمع الإسلامي عائلة واحدة, يدلي نسبهم إلى أب واحد هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأزواجه رضي الله عنهن أمهاتهم, وكما تجب النفقة على الغنيّ للفقير من والديه إذا عاقه عن العمل مرض ظاهر أو فساد في قوة العقل؛ فكذلك يجب على الغنيّ أن ينفق على أخيه في النسب الإسلاميّ بقدر ما أمره الله سبحانه وتعالى, فيكون الغنيّ يبر والده الأعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى ابنه الذي هو أخوه المسلم.
2- تأدية الزكاة تلقي المحبة في قلوب الفقراء, فينال منه عواطف تلك القلوب المتوجهة إلى علام الغيوب, ومقبول دعاة تلك الألسنة المبتهلة إلى الله تعالى, وحب تلك النفوس التي ترى أنك يا أخي بإعطائك الزكاة إياهم نجيتهم من آلام الجوع والعري, فيكون الفقراء لك زينة في الرخاء, ودروعاً وسيوفاً في الشدة.
3- إنك يا أخي إذا أخرجت الزكاة طيبة بها نفسك, وعلمت أن هذا العمل فرض عليك اعتقدت أن المال لله يتصرف فيه كيف يشاء, فتكون وفيت بالبيع الذي بعته لله بقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الجَنَّةَ) "التوبة:111"، وتكون بنص تلك الآية الشريفة ممن بشرهم الله تعالى بالجنة.
4- بإخراجك الزكاة طيبة بها نفسك تعيش مطمئن القلب من خوف مصيبة أو بلية, صحيح البدن من خوف ألم أو من مرض, وذلك لأنك بإخراجك الزكاة يحصل لك انشراح صدر لاعتقادك أنك طهرت مالك, وحصنت نفسك بتأدية الزكاة, ومن يؤدي الزكاة على الوجه الذي أمر الله شاعراً بالفقراء والعطف على المسكين؛ فلا شك أنه يكون رحمانيا لا يظلم الناس لا في بيع ولا في شراء, ولا يسيء جاراً له, ولا يقطع ذا رحمه, ولا يعق والديه, ولا يسعى في سوء أو فساد بين الناس.
وللزكاة أسرار غامضة يشهدها من أقامه الرب سبحانه خليفة عنه, نسأل الله أن يجملنا بمعاني قوله سبحانه: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) "البقرة:282"، وبمعاني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) "أبو نعيم".
تزكية النفس:
وهناك نوع آخر من أنواع الزكاة وهي تزكية النفس، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) "المؤمنون:4"، وقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) "الأعلى:14-25"، وقال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) "الشمس:7-9".
وتزكية النفس في الحقيقة: الأصل الذي تؤسس عليه الأصول وتقوم به الفروع, ومن جاهد نفسه وهواه في ذات الله بلغ غاية مناه, ومن أهمل تزكية نفسه كان كالحيوان الأعجم وإن عمل كل القربات, فهو إنما يقلد غيره كالقردة أو النسانيس ما دام لم يجتهد في صفاء جوهر نفسه وتطهيرها من نجاستها, ومن زكَّى نفسه عرفها, ومن عرف نفسه عرف ربه.
خامساً وسادساً: الحج والعمرة
قال تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) "البقرة:196"، أي: افعلوا الحج والعمرة لله تعالى قياماً بما أوجب، وإخلاصاً له سبحانه وتعالى في العمل.
والحج في اللغة هو القصد إلى من يعظم، وكانت العرب تقول: نحج إلى النعمان، أي: نقصده تعظيماً له وتعزيزاً، فينبغي أن يكون الحاج معظماً لمن قصده بالحج ليتحقق بمعنـى هذا الاسم، والحج أيضاً سلوك الطريق الواضح الذي يخرج إلى البغية ويوقف على المنفعة، واشتقاقه من المحجة بمنزلة النسك، وهو اسم للطريق مشتق من المنسك، وهو من أسماء الطريق، وإن كان أصله المذبح، ومنه سمى الناسك، لأنه سالك لطريق الآخرة.
والحج هو الركن المالي البدني الرُّوحاني, أما كونه بدنيا فلانتقال الجسم من مكان إلى مكان, وأما كونه ماليا فلبذل الأموال في النفقة على نفسه في زاده وراحلته, وأما كونه روحانيا فلأن الحاج قاصد ربه بانتقاله, فهو لا يقطع مرحلة كونية إلا تقطع الرُّوح مرحلة من مراحلها حتى تصل إلى جناب القدس الأعلى.
وأول فضائل الحج حقيقة الإخلاص به لوجه الله تعالى، وأن تكون النفقة حلالاً، واليد فارغة من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم، ويكون الهم مجرداً، والقلب ساكناً مطمئنا مملوءا بالذكر فارغاً من الهوى، ناظراً أمامه، غير ملتفت إلى ورائه، وصحة القصد بحسن الصدق، ثم طيب النفس بالبذل والإنفاق والتوسع في النفقة والزاد، وبذل ذلك لأن النفقة في الحج بمنزلة النفقة في سبيل الله تعالى، الدرهم بسبعمائة درهم، والحج من سبيل الله، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال ابن عمر وغيره: من كرم الرجل طيب زاده في سفره، وكان يقول: أفضل الحجاج أخلصهم نية، وأزكاهم نفقة، وأحسنهم يقيناً.
وفي حديث ابن المنكدر عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاء إلاَّ الجَنَّة) وقال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما بِر الحج؟ قال: (طيبُ الكلامِ وإطعامُ الطعام).
ويقال: إنما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وبعضهم يقول: يسفر عن صفات النفس وجوهرها، إذ ليس كل من حسنت صحبته في الحضر حسنت صحبته في السفر، وقال رجل لآخر إنه يعرفه، فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟، قال: لا، قال: ما أراك تعرفه.
ولا يجادل ولا يخاصم ولا يكثر المراء ولا يرفث بلسانه، وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من رفث فسد حجه.
وأسرار الحج كثيرة ومنها:
1- الحج وضع بدلاً من الرهبانية:
وضع الحج بدلاً من الرهبانية التي كانت في الملل كما ورد به الخبر, فجعل الله سبحانه الحج رهبانيةً لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2- سفر الحج على مثال سفر الآخرة:
سفر الحج وُضع على مثال سفر الآخرة, فليتذكر المريد بكل عمل من أعماله أمراً من أمور الآخرة موازياً له, فإن فيه تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر المستبصر, فتذكر من أول سفرك عند وداعك أهلك وداع الأهل في سكرات الموت, ومن مفارقة الوطن الخروج من الدنيا, ومن ركوب وسيلة المواصلات ركوب الجنازة, ومن الالتفاف في أثواب الإحرام الالتفاف في أثواب الكفن, ومن دخول البادية إلى الميقات ما بين الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة, ومن هول قطاع الطريق سؤال منكر ونكير, ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه, ومن انفرادك عن أهلك وأقاربك وحشة القبر ووحدته, ومن التلبية إجابة داعي الله عز وجل يوم البعث، وكذلك في سائر الأعمال, فإن في كل عمل سِرًّا وتحته رمزاً يتنبه له كل عبد بقدر استعداده للتنبه بصفات قلبه, وقصور همه على مهمات الدين.
وقد تناول الإمام المجدِّد بيان أحكام الحج والعمرة وحِكَم تلك الأحكام في كتابه: "هداية السالك إلى علم المناسك في الحج"، فليطالعه طالب المزيد.
سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى:
أمر بالمعروف ونهي عن المنكر باليد، وهي درجة الأمراء فإن أهملوها عزلتهم الحقائق وسُلب منهم الملك، وفي هذه الدرجة إقامة حدود الله تعالى، وقهر المجاهرين على الحق، فإذا تعدى الناس حدود الله؛ وأهمل الأمراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد؛ انتشر الزنا والخمر والربا، بل وانتشر ما هو أضر من ذلك وهو القتل والسلب والنهب والعقوق والقطيعة، بل عم البلاء بما هو أكثر من ذلك، وهو ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وهو الكفر والعياذ بالله، ومتى حدثت تلك الأحداث سلط الله أعداءه على من أهملوا حدوده فسلبوا منهم الملك والإمارة والعزة وسلطان الإدارة، حفظنا الله تعالى من نتائج إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدرجة الثانية:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان: وهو واجب العلماء، فإن أهمل العلماء ما وجب عليهم سلبت منهم الخشية والمراقبة، فصاروا شرا على المسلمين من الشياطين لأنهم يكونون أعواناً للظلمة وأنصاراً للمتسلطين بالباطل، وهي صفات الشياطين، لأن الشياطين علماء يعملون بغير ما علموا، قال الله تعالى: (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) "الأنعام:112"، ومن ادعى العلم ووقف على أبواب السلاطين والأمراء أو حاباهم ووالاهم فهو لص، حفظنا الله تعالى من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يُرفع.
الدرجة الثالثة:
الدرجة الثالثة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجة القلب، وهي للعامة خاصة، لجهلهم بالطرق المنتجة للرجوع إلى الحق، فربما أمروا أو نهوا باللسان فأفسدوا.
قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) "آل عمران:104"، وهم الأمراء لتنفيذ أحكام الشرع، والعلماء لبيان سبل الله تعالى بألسنتهم، والعامة ببغض المذنبين وبغض أعمالهم والتباعد عنهم.
ثامناً: الجـهـاد
الجهاد بذل ما في الوسع لتكون كلمة الله هي العليا ويكون العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والجهاد لا يسقط أبداً حتى يكون الدين كله لله، وأكبر الجهاد جهاد النفس أولاً، وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي منزلة أفضل عند الله بعد أنبيائه وأصفيائه؟ فقال: (المجاهدُ فِي سبيلِ اللهِ بمالِه ونفسِه) "الحاكم وغيره".
من هو العدو الذي أحاربه؟:
العدو مأخوذ من عدا, أي: تجاوز في ظلمة الحد, وكل من ظلم غيره بسلب حقه أو أوقعه في مضرة أو أعانه على ارتكاب ما يغضب الله تعالى أو سلط عليه قويًّا ظالماً, أو دعاه إلى عقوق أو قطيعة أو فعل منكر فهو عدوه، ويجب أن يحاربه بقدر ما ارتكبه من المظالم.
والحكماء يتحفظون من الأعداء قبل تمكنهم من قصودهم, وهذا التحفظ يكون بطول اليقظة ودوام الفكرة ورعاية العبرة, ومن أهمل حتى مكن منه عدوه أوقع نفسه تحت مخالب السبع, ومتى علم الإنسان عدوه وحبيبه احتاط من عدوه بأقوى السلاح, واحترس من حبيبه.
وأنواع الأعداء ثلاثة:
أولاً - أعداء ملازمون:
العدو الملازم هو أعدى عدوك الذي يجب أن تُعد له ما استطعت من قوة ومن رباط الخيل ترهبه به، وهو نفسك التي بين جنبيك، وجنودها جوارحها المنفذة لأغراضها، وقائد تلك الجنود: اللسان، وجواسيسه: العينان والأذنان، وأنصاره المنفذون: اليدان والذَّكَرُ والرجلان، وقوته المطالبة: البطن.
وتلك الأعداء في الحقيقة ونفس الأمر هي التي تولد الأعداء الخارجية، ومن أهمل محاربة تلك الأعداء عاش عدوا لنفسه، فكيف يكون صديقاً لغيره أو يكون له صديق؟!.
إن هذه الأعداء بعينها هي التي جعلت الإنسان يفتح على نفسه أبواب الشرور كلها، لأنه بإطاعة نفسه يتخذ العدو صديقاً والبغيض حميماً ويسارع إليه ويأمنه ويستسلم له، ويعادي النصحاء والأمناء الأَوِدَّاء، حتى يمتزج بأعدائه الألداء ويتحد بهم، ويفارق أحبابه النصحاء ويعاديهم، فلا يلبث إلا وقد أضاع مجده وشرفه ودينه ودنياه، ولديها ينكشف الستار عن الحقيقة فلا يجد له ملجأ يلتجئ إليه - بعد الله تعالى - إلا الاستغاثة بمن عاداهم والاتحاد بمن عصاهم من أقاربه، والالتجاء إلى من ظن بهم السوء، فيسارعون في نصرته ويبادرون إلى دفع الظلم عنه، لأنهم يرون أن خيره خيرهم، وسعادته سعادتهم، كل ذلك بسبب العدو الملازم وإهمال محاربته.
ثانياً - أعداء مفارقون:
وهم أعداء تخفى عداوتهم ويكونون من الزوجة والأولاد، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) "التغابن:14"، فإن الزوجة قد يطيعها الإنسان فيعق والديه، ويترك أرحامه، ويترك الفضائل اشتغالاً بها، ويرتكب الدنايا لجلب ما يرضيها ما لم يقف عند الحد الوسط، وكذلك الأولاد فإنهم سبب في البخل والجبن والفساد, وقد يهمل تربيتهم الشرعية حبا فيهم, فيكونون شروره في الدنيا، وعذابه في الآخرة.
وعداوة هؤلاء تكون بالفتنة، ومنها حب الرجل زوجته وأولاده حبا يشغله عن شكر والديه المفروض عليه كما قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) "لقمان:14"، أو يحبهم حبا يجعله يحرص على الدنيا فيطلبها من وجوهها وغير وجوهها, ويبخل بالمال فيجعله يجبن عن قتال العدو حرصاً على البقاء لتربية الأولاد والتلذذ بالزوجة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولدُ مجبنةٌ مفسدةٌ مبخلةٌ).
وقد تكون عداوتهم ظاهرة، كفساد أخلاقهم بسوء تربية الوالد، لأن خير تربية الأبناء قهرهم على التمسك بالدين في الصغر ورعايته أخلاقهم من الطفولة.
فأكمل الحكماء حقا من جاهد نفسه وساس زوجته وأولاده، والبيت الصغير مملكة كبيرة لأن رئيسه ملك مطلق لا يتقيد بدستور, وعلى مقدار تربية البنين الصغار تكون منزلة الأمة بين العالم، لأن الأمة تتكون من عائلات، وعلى حسب آداب العائلات يكون شرف الأمة أو ذلها، ومتى كثر أهل الحق قهروا أهل الباطل، وهى سنة العمران حتى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( "الأنفال:64"، وكل مجاهد معه الحق منصور وإن كثر عَدد عدوِّه وعُدده.
ثالثاً - أعداء خارجون:
أما العدو الخارج فهو الذي يتجاوز الحد في الظلم، ويكون إمَّا مظاهراً علنيًّا أو مداهناً سياسيًّا:
1 - العدو المظاهر العلني: وهو وإن كان أنكى في العداوة إلا أنه يوقظ الهمة، وينبه إلى التحفظ، فيعلم الإنسان ما لم يكن يعلم من أبواب الحيل والمدافعة والاستعداد.
وكذلك متى تنبهت الأمة للعدو الخارج اتحدت بكليتها إلى دفعه عنها بكل أنواع القوة، وعادت من شذ منها وابتدأت بنصيحته أو محاربته إن أبى، حتى تتفرغ للعدو الخارج.
2 - العدو المداهن السياسي: وهو العدو المحتال المخادع، أي: أنه العدو حقا الذي يفسد الحياة الشريفة والعيشة الهنية بتعاطي المخدرات، أو بمسارعته إلى تيسير الحظوظ والأهواء الفانية، أو يبسط بساط الآمال وإظهار إرادة الخير والسعادة، ثم ينقلب كما تنقلب الأفعى بالقوة القاهرة ظلما وطغياناً، إلى غير ذلك مما هو مشاهد للعيان.
وإنا في زمان قد جهلنا فيه أعداءنا فاستنمنا لهم، وجهلنا فيه أحبابنا فنفرنا منهم، يفرح الرجل منا بمال الربا، وبمجالس اللهو، والنظر إلى الفتيات، ويحب من يعينه على الفساد والضلال، غير ملتفت إلى عدو ما بعد الغد، فلا يحفظ ديناً ولا شرفاً، ولا يدخر مالاً ولا تحفاً، ويسترسل في هذا حتى يصبح يقلب كفيه، فاقداً ما لديه، ويرى ملكه العظيم في يد عدوه، أو مجده الأثيل عند أخصامه، ويرى من يعتمد عليهم أنشبوا أظفارهم في كبده، وداسوه بنعالهم، وهذا جزاء من يجهل عدوه فيصادقه لحظ يفنى وشهوة توبق في العذاب، فينخدع بحلاوة لفظه، ويفرح بأضاليل وعده، ويعادي أصدق أصدقائه طمعاً في نيل ما أطمعه فيه العدو، فيخسر كل شيء حتى أصدقاءه، والموت خير لهذا من الحياة.
قال الشاعر:
كلُّ له غرضُ يسْعَى ليُدْرِكَـهُ والحرُّ يَجْعَلُ إدراكَ العُلا غَرَضاً
وقد أفرد الإمام للجهاد كتاباً أسماه: "الجهاد"؛ بيَّن فيه تعريف الجهاد وأحكامه وأساسه وأنواعه وأهدافه وشروطه وآدابه، وبيَّن فيه أنواع الأعداء، وموجبات النصر، إلى غير ذلك، فليطالعه طالب المزيد، وبالله تعالى المعونة والتوفيق.