قال الله تعالى :
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ{3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ
والقدر: بمعنى التقدير لما يبرز من العلم القديم ، ولك أن تعبر عن القدر بمدلوله وهو العظمة والعلو، ولك أن تقول : القدر هو الضيق كما فى قوله تعالى(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ )[سورة الفجر: 16] والضيق هنا لنزول الملائكة بكثرة، فتضيق الأرض بهم ، فإنها بالنسبة إلى الشمس جزء من مليون تقريبا، فما بالك بالسموات السبع وما فيهن من الملائكة.
ولا ينزلون دفعة واحدة ، ولكن طوائف طوائف كما أن العالم الإسلامى من الحجاج يطوف كله بالبيت طائفة بعد طائفة ، ولو أرادوا الطواف جميعا مرة واحدة لما وسعهم البيت.
وقد يعود الضمير فيها على الملائكة وقد يعود على ليلة القدر- وقيل الروح جبريل كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل فى كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد بذكر الله عز وجل) أو هو نوع من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر، أو هو ملك عظيم ينزل فى هذه الليلة.
(بإذن ربهم) وهذا تشريف من الله لهم إذ أنه جعل لهم شبه اختيار فلم يقل بأمر ربهم لأن الأمر دال على الجبر والقهر وليزوروا أحبابه. وتشريف لأحبابه أيضا.
(من كل أمر) وفى قراءة (من كل أمرىء) أى فرد من الملائكة. سلام على المؤمنين، وعلى القراءة الأولى أى أمان من كل ما فيه سوء فيحفظ الله بعنايته من اجتباهم.
أو تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم بكل ما يحدث فى هذه السنة.
وحكمة نزول الملائكة :
أولا: تشريفهم بالمؤمنين. وثانيا تشريفهم المؤمنين.
وتفصيل هذا أن الله خلق الإنسان جامعا لكل حقائق العوالم :
ففيه الجماد : لأنه مخلوق من الطين.
وفيه النبات : لقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)[نوح: 17] فهو كالشجرة يمشى على الأرض ، إلا أنها شجرة الله ، فالرأس جذع والعنق ساقها، والذراعان والفخذان أفرعها، وأصابع اليدين والرجلين أغصانها.
والإنسان حيوان : من حيث الطعام والشراب والجماع والأخلاق البهيمية، ومن الناس من إذا غضب رفس كالحمار ، أو ضرب برأسه كالعجل، أو بطش بيده كالأسد ، أو بصق كالثعبان، حتى أن من الناس من إذا اشتد غضبه وبصق إلى العين أعماها، وإلى الفم قتل، وذلك لتسمم ريقه من شدة الغضب.
وفى الإنسان النفس الملكية التى إذا صفت ملكت الجسم الصلصال، فصار طوعا لها وصارت أخلاقه أخلاق الروح، وتبدلت الأوصاف الحيوانية بأوصاف النفس الملكية ، فصار الجسم ملكا بل خيرا من الملائكة ، لأن ذلك الطين وذاك الحيوان تخلص من الشواغل والملاهى والحجب والموانع والسجون والأغلال والقيود مع توفر الدواعى، واتحدت تلك القوى بالروح حتى صار الإنسان روحانيا، لديها هو خير أم الذى خلق مطبوعا على الخير لتجرده من العناصر؟ وكيف لا وهو من النور! فالله يفاخر به ملائكته وكأنه يقول لهم : انظروا إلى هذا الطين والماء المهين الذى جرى مجرى البول مرتين ؛ كيف اتصل بالله اتصالا لا انفصال بعده، مع ذلك لا يرى لنفسه عبادة ولا فضلا، بل يشهد الفضل لله الذى وفقه للعبادة ، وفضلا عن ذلك يرى نفسه مقصرا فى حقه عز وجل ، فهذا خير أم من رأى لنفسه عملا؟ فقال ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )[البقرة : 30] ، فأى تسبيح لهم والله خلقهم وما يعملون؟
بالشرك والعياذ بالله تعالى، فالله يفاخر الملائكة بعباده، وهذا تشريف لهم ، وأرسل الملائكة إليهم بالسلام ، وذاك رسول شريف جاء من عند الملك العلام، وأى شرف أعظم من أن يرسل الله لعبده من يقرئه السلام، ومن الناس من يشهد الملائكة بعيني رأسه وذلك بنص كتاب الله تعالى (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الأنعام:75] ونحن أتباعه كما قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ)[الحج : 78] فله فى أبنائه وارثون ورثوه : (العلماء ورثة الأنبياء) وفضل الله ليس مقصورا ولا محدودا ، فإذا قويت النفس وصارت ملكية صار الجسد ملكيا والجوارح ملكية. فقبل أن ترى العين المادة يسبقها القلب فيرى السر السارى فيها، والصفات الظاهرة والباطنة بها. ولا يخطىء فى حين أن العين تخطىء ، فيرى الشمس مثلا صغيرة وهى أكبر من الأرض ألف ألف و ثلاثمائة ألف مرة تقريبا، وترى الإصبع إذا وضع بجانبها أطول من المأذنة، وهذا من خطأ العين، وقد ذكر الله تعالى فى كتابه العزيز نزول الملائكة ، فلابد من أن تنزل فنرى بقلبنا نزولها وإن لم نره بعين البصر رئية يقينية.
ولابد أن نقف فى موقف العلم الذى علمنا الله على لسان رسوله، فإن العليم هو الله، ومن قال : أنا غنى عن العلم فقد كفر ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مجلس علم خير من عبادة سبعين سنة) فقد يدخل العابد الخلوة ويتعبد السنين الطوال ؛ فيأتى إليه إبليس فيصيره أضل منه ويكفره، وذلك نتيجة الجهل ولو أنه سعى إلى عالم فثبت بالعلم يقينه ثم عبد الله ولو قليلا لكان خيرا له، ومن ذلك ما حكى عن السيد عبد القادر الجيلانى أنه بينما كان قائما لله فى جوف الليل، فإذا بالسقف قد ارتفع وغمر بالنور، ونادى مناد : (أى عبدى عبد القادر فقال: لبيك سيدى فقال: إنى أبحت لك المعاصى. فقال : أخسأ يا ملعون . فقال: بم عرفت؟ فقال : إن الله لم يحرم حراما على لسان نبى ويبيحه على لسان ولى) وقد أحكم الله شريعته على لسان رسوله فقال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا)[المائدة : 3] .
ولذا ينبغى بنا أن نتعلم حتى نعلم الله حق العلم ، فإن الملائكة كان لها معلم، وهو آدم. والعلم خير ما يسعى له . قال صلى الله عليه وآله وسلم : (اطلب العلم ولو بالصين) وما ذاك إلا العلم الإلهى الذى ينتج المعرفة بالله، ولابد أن يكون السعى للعلم فقط لا لغيره، فمن الناس من يأتى إلى العالم العارف لينبئه بما يحدث له، فإذا لم ينبئه تركه مدعيا أنه ليس بولى، وهذا جهل، فإن أسرار الغيب لا ينبغى أن تباح وما قدره الله علينا نراه، فلنقبل على معرفة الله سبحانه وتعالى فإنها خير لنا من الدنيا وما فيها، وما قدره الله لنا من الخير نناله ونحن فى راحة مطمئنون، ففى السعى للعلم شرف عظيم، ولذا أرسل الله الملائكة إلى الأرض ليعلمهم أن لله أسرارا فى خلقه وحكما تخفى على كل حكيم ، وحتى يعلمهم أن قولهم كان اعتراضها على حكمة الله وهو أيضا من حكمة الله إذ أعقبه بعلمهم حكمة الخلافة فى الأرض.
===================
من كتاب " صيام أهل المدينة المنورة "
للإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم