بعد أن أمضى الإمام رضى الله عنه عامين بالمنيا جاءه قرار النقل مرة أخرى إلى الإبراهيمية، و لم يمض عام على نقل الإمام لنفس المدرسة- التى عمل بها من قبل- أكثر من ثلاثة أشهر حتى قررت وزارة المعارف غلقها و تحويل طلبتها إلى المدارس المجاورة و ذلك لقلة عدد الطلبة المقيمين بها.
ترك الإمام عائلته بالإبراهيمية و سافر إلى القاهرة، و بعد أن صلى فى مسجد سيدنا الحسين لقيه حسين بك رشدى- و قد كان مفتشاً بالمعارف وقتذاك- و ذهب به إلى الوزارة و أخبره بخلو وظيفة مدرس لمادة الدين ومادة اللغة العربية بمدرسة سواكن الابتدائية بالسودان، و أنه هو المرشح الوحيد لتلك الوظيفة لما يعلمه فيه من حب الجمهور له أينما سار، و أنه قد زيد مرتبه جنيهين مصريين لهذا الغرض. و استلم الإمام قرار التعيين لهذه الوظيفة، ثم توجه فوراً إلى الإبراهيمية، و أعلم صاحبه الشيخ صبيحى بما تم به الأمر فسأله الصحبة حتى ركوب القطار فأذن له. و فى يوم السفر إلى السويس ظل يجوب أطراف مدينة الإبراهيمية مودعاً، حتى إذا فرغ من هذا الوداع كانت الشمس قد غربت، و بين المدينة و محطة السكة الحديد سبعة كيلو مترات تقريباً، و لا تستطيع العربات التى تجرها الخيول أن تسير ليلاً. و لذلك فقد استأجرا ركوبتين و سارا بهما إلى ههيا و هما على حالة استغراق فى المذاكرة فى آيات الله وعجيب صنعه. و لما أفاق الشيخ صبيحى من هذا الأستغراق كانت الساعة قد بلغت الحادية عشر مساء، و القطار الذى سيركبونه من ههيا إلى القاهرة كان المفروض أن يصل ههيا فى تمام التاسعة، فحزن الشيخ صبيحى من ضياع الوقت على سيده المسافر، فسرى الإمام عن خاطره، فسخر الله لهما شخصاً فى الطريق أخذ بزمام أتانيهما [1] ، و ما لبثا أن وجدا أنفسهما أمام السكة الحديد و ألفيا جمهور المسافرين منتظرين و كانت الساعة و قتئذ تشارف الثانية عشر ببضع دقائق. و دق جرس المحطه معلناً بقرب وصول القطار الذى كان قد توقف فى محطة منيا القمح لمدة ثلاث ساعات لأمر ما، فركب الإمام و لم ير الشيخ صبيحى بداً إلا الركوب معه حيث لم يتمكن من الاصطبار على بعده. وصلا إلى السويس عند مطلع النهار، وعاون الشيخ صبيحى أستاذه فى نقل المتاع إلى الباخرة، و ما علا صفير الباخرة مؤذناً بالإقلاع حتى علا النحيب لمفارقة الحبيب، و فى لحظة و من شدة الوجد صعد الباخرة، و إذا به واقف بين يدى أستاذه بعد أن أقلعت الباخرة. و جاء الربان للتاشير على بطاقات المسافرين، فلما أخذ تذكرة الإمام سأله: و أين التابع؟ و تضرع إليه الشيخ صبيحى ألا يرده، فأشار إلى الشيخ صبيحى، و كانت المفاجأة أن وجد بالتصريح تذكرة بالدرجة الثالثة لتابع الأستاذ، فعاوده الربان وقال: هل هذا أبوك يا شيخ ماضى؟ سأعد له مكاناً مناسباً حتى تكون عنى راضى، فتهللت أسارير الشيخ صبيحى بعد أن امتقع لونه خيفة و ريبة، و حصلت له مع الربان صحبة طيبة، وذهب مع أستاذه إلى سواكن حيث وصلاها فى 10 شعبان 1313 الموافق 6 فبراير 1895، و طابت له الإقامة سنة كاملة.
[1] دابتا الركوب، و الأتان أنثى الحمار