و فى 10 شعبان من عام 1313هـ (6 فبراير 1895) إبان الأيام الأخيرة من حكم المهدية بالسودان، توجه الإمام رضوان الله عليه من مصر إلى بلاد السودان ليرفع لواء العلم عالياً خفاقاً (لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خيراً لك مما طلعت عليه الشمس و غربت) [1]. و قد بذل الإمام كل جهده فى تربية النشء التربية الدينية السليمة، و هو الجيل الذى سوف يتولى القيادة، و الذى سيعول عليه فى بناء المجتمع السودانى المتحرر من قيود الاستعمار. و ظل الإمام بالسودان حتى عام 1915م فيما عدا عام واحد قضى فى مدينة أسوان بعد سواكن.
و كما كانت مدينة المنيا هى الأفق الأول لدعوة الإمام فى مصر و منها أذن بنشر الدعوة.. كذلك كانت سواكن بالنسبة لمدن السودان.
و عند دخول الإمام رضوان الله ميناء سواكن، كانت تعتبر من أكبر و أغنى مدن السودان، يسكنها خليط من العرب والبجة [2]، ويحكمها البريطانيون باسم الخديوى [3] . و كانت سواكن تعج بالسكان الذين يعملون بالتجارة، و ازدهر عمرانها، و أقيمت بها الوكالات التجارية و مخازن البضائع، كما انتعشت فيها الصناعة والتجارة، و بها العلماء و القضاة الشرعيون و مشايخ الطرق الصوفية و الصناع، و اشتهرت بأنها البحرالأحمر. و هى جزيرة فى خليج بالبحر الأحمر، و يربطها بالبر- و هو ما يعرف باسم القيف- جسر ترابى، ويقابلها بالشاطىء الشرقى للبحر الأحمر ميناء جدة بالأراضى الحجازية.
و كان الجهل و الأمية متفشيان فى أوساط العامة، كما تفشت الكثير من المعتقدات والعادات التى تتنافى وروح الشريعة الإسلامية، لا سيما تلك المعتقدات الخاصة بالطريق إلى الله ودعوى النفع و الضر و الحداد على الميت و تقديس الأشخاص وشرب الدخان. و كعادة الإمام رضوان الله عليه، فإنه لم يكتف بواجب وظيفته كأستاذ بالمدرسة الأميرية، بل بادر إلى الدعوة لله تعالى فى المساجد و الزوايا والمجتمعات العامة و الخاصة و المناسبات والاحتفالات الدينية.
و فى عام 1898م خضعت سواكن للاحتلال الإنجليزى. وكان الناس فى شغل عن المدارس والتدريس، فالكل خائف من عدوهم الخارجى و من الوشايات التى يدبرها أهل البلد فيما بينهم و ذلك نتيجة لوجود الحكم العسكرى فيها واستقطابه لبعض الأهالى، فكان وجود الإمام بينهم بعلومه ألفه لقلوبهم فصاروا بنعمة الله إخواناً، وحببهم فى العلم و فى تلقيه، فما لبثوا أن أقبلوا عليه لتلقيه بالمدارس لأبنائهم، وبالمساجد لأنفسهم وأرواحهم.
و قد أكرم الله تعالى أهل سواكن خواصها و عوامها و علماءها بالإمام رضوان الله عليه، فتلقوا منه- كل على قدر سعته- هاطل الفيض الأقدس. و قد اخبر الإمام عن ذلك فى سيرته الذاتية فقال: (..... ثم إلى سواكن وفيها قرأت البخارى لعلمائها وقسم العبادات من الموطأ، و صار لى إخوان يحسنون الاقتداء والفهم فى علوم الحكمة العالية).
و كما ذكرنا آنفا، لقد تأثر جميع سكان سواكن بوجود الإمام رضى الله عنه بينهم، لأنه كان يصرف جميع أنفاسه بعد العمل المدرسى فى الدعوة إلى الله و تعليم الناس و تربيتهم و تنوير عقولهم، لذا كان أثره فيهم بالغاً، و يثنى بالخير على أبطال الإسلام و ينشر بطولاتهم، حتى أنه عندما وقع الأمير عثمان أبو بكر دقنه (وهو أمير الشرق و قائد قوات المهدية بها) فى الأسر بعد فتح السودان عام 1898م بالقرب من سواكن واقتيد مكبلاً بالحديد من سواكن ومنها إلى سجن حلفا، جعل الناس يضحكون عليه شماتة و استهزاء، فانبرى لهم الإمام قائلاً ومنبهاً: (أتضحكون على مسلم يحارب أعداء دينه و وقع فى الأسر؟!) . و فى المدرسة الأميرية بسواكن أخذ الإمام يلقى على تلاميذه الدروس فى عظمة الجهاد و المجاهدين مبيناً مآثر الأمير عثمان دقنه و ماله من فضل فى محاربته الإنجليز و أعوانهم، مما جعل التلاميذ يتأثرون بذلك و تنمو فيه الروح الوطنية و الغيرة على الإسلام. و أثمرت هذه النفثات المباركات على تلاميذه، و من بينهم المؤرخ السودانى الشهير محمد صالح ضرار الذى دون تاريخ السودان عامة و تاريخ السودان خاصة. و قد كتب هذا المؤرخ الكبير فى مقدمة كتابة (تاريخ سواكن والبحر الأحمر) قائلاً: و فى احد ايام الدراسة ألقى علينا أستاذنا السيد محمد ماضى أبو العزائم محاضرة كلها بطولة و ثناء على الأمير عثمان أبو بكر دقنه، فتاقت نفسى منذ ذلك التاريخ للبحث عن حياته. لقد أثمر وجود الإمام رضى الله عنه بسواكن فى تكوين رجال حملوا مشعل الدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة فنشروا الطريق وأقاموا المساجد و الزوايا وأحيوا موات القلوب و صححوا عقائدهم و جاهدوا فى الله حق جهاده. وكان الإمام قد أرسل أسرته من بلدة الإبراهيمية إلى المطاهرة ليقيموا بها خلال إقامته بالسودان؛ لأنه لم يوافق على اصطحاب أسرته معه إلى سواكن بسبب المعارك التى كانت لا تزال قائمة بين رجال الدراويش بزعامة الأمير عثمان دقنه من أنصار المهدى و بين القوات المصرية وقت ذاك، فخشى أن يعرض أسرته لويلات هذه الحرب، فذهب بمفرده إلى سواكن، حيث كانت القوات المصرية تعمل على تطهير جيوب رجال الدراويش الذين كانوا يحيطون بمدينة سواكن بقيادة هذا الأمير الشجاع!!.
و من المساجد التى كان يلقى الإمام فيها دروسه: مسجد تاج السر (نسبة إلى الشيخ تاج السر شيخ الطريقة المرغنية وقتذاك بشرق السودان فقط) ، فالتف حوله جمع كثير من أبناء سواكن، و جمع الله عليه إخواناً يحسنون الإقتداء و الفهم فى علوم الحكمة العالية، نذكر منهم فضيلة الشيخ عبد الرحيم الحيدرى السواكنى، فقد كان نائباً للطريقة المرغنية بمدينة سواكن، وكان من أكبر أثرياء البلدة، وكان وقتئذ خليفة خلفاء الطريقة المرغنية فى شرق السودان، و تعلق قلبه بالإمام تعلقاً شديداً و صار من أقرب المريدين له وألصقهم بدعوته. و كان الإمام رضى الله عنه- كعادته كلما دخل بلدة من البلاد- يرى بنور بصيرته الرجال الذين سبقت لهم من الله الحسنى و المطلوبين لرحابة، فلما دخل سواكن سأل تلاميذه عن رجل صالح اسمه (عبد الرحيم) ، فدلوه على الرجل إثر الرجل ولكن الإمام لا يرى فيه إمارات الرجل الذى يراه بنور بصيرته، إلى أن كان آخر رجل يحمل هذا الاسم و قال تلاميذه إنه شيخ الطريقة المرغنية و لا يفتر عن ذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، و عرف مكانه و توجه إليه.
و فى أحد المساجد- ويرجح أنه مسجد تاج السر- كان اللقاء بين الإمام و الشيخ عبد الرحيم الحيدرى السواكنى وكان يلقى درسه بهذا المسجد، قرأ فيه إمارات الرجل الذى ينشد مقامه، وستر عنه حاله، و تودد إليه، و عكف على خدمته يناوله وضوءه و يحمل له عصاه و يقدم له الماء، حتى توثقت عرى المحبة بينهما.
و لما دنت ساعة الإكرام من الله و حان الوقت ليكشف الغطاء و يزال الستار عن قلب الشيخ عبد الرحيم ليعرف الإمام و خصوصيته، و كما فى الحكمة (إذا أراد الله أن يكرمك بصحبة رجل من الرجال، طوى عنك بشريته وأظهر لك خصوصيته) ، و كان ذلك فى ليلة النصف من شهر شعبان، إذ أن الإمام رضى الله عنه اعتاد أن يحيى هذه الليلة- التى يفرق فيها كل أمر حكيم- بصلاة و دعاء مخصوصين و قراءة سورة يس ويفسر سورة الدخان، و فى تلك الليلة و بعد صلاة المغرب طلب الإمام من الشيخ أن يقوم بإحيائها فسأله الشيخ عبد الرحيم: كيف نحييها؟ فأجاب الإمام بكذا و كذا، فقال له الشيخ عبد الرحيم: تقدم لإحيائها. صلى الإمام بهم و دعاهم وقرأ سورة يس ملاحظاً ما فى الدعاء من أسرار و أنوار، و لما فسر لهم الإمام سورة الدخان، أنسابت المعانى من قلبه على قلب الشيخ عبد الرحيم مجلية حجاب الغشاوة عنه و مزيلة الرين و مظهرة جمال و خصوصية الرجل و مكانته.
وبالفعل لقد كانت تلك الليلة هى الفارقة الفاضلة، فعندما انتهى الإمام من الإحتفال بليلة النصف من شهر شعبان، سار الشيخ عبد الرحيم مع الإمام حتى أوصله داره ثم قفل راجعاً إلى داره، و قد استولى على قلبه حال قاهر، وما أن وصل داره حتى رجع مره أخرى لدار الإمام والشوق يقوده فقد اتقدت نار المحبة و استولت على فؤاده، رحب به الإمام، و بعد أن جلس مع الإمام و بدون أن يتكلم، استأذن و خرج، و ما أن وصل إلى منزله حتى عاوده الحنين إلى الإمام، فتوجه إليه. وتكلم الشيخ عبد الرحيم فى هذه المرة الثالثة قائلاً: اعف عنى يا سيدى لما كنت تقوم به لى، أنا أبحث عنك منذ سنين وأنت تخدمنى!! أنا منذ اللحظة خادمك. و قد بلغ الحب بالشيخ عبد الرحيم منتهاه، فقال معرباً عن ذلك:
و إذا الجبال تزحزحت عن أرضها عن حبـنا فى الله لا نتحـول
وحـى السـمـاء منـزل ببيوتنـا وحقائـق الأيـات عنـا تنقـل
ولقـد ورثنا المرسـليـن بـعلمهم ولنـا من الغيب المقدس منهـل
طافت حـوالينـا المجالـى أولا والحال موصول بنـا لا يفصـل
سـادت على كل الرجال صغـارنا وكبارنا منهـا النوائـب تـذهـل
وإذا تجـلى بـالجمـال حبيبنـا فى الأوليـا فلنـا الطراز الأول
قـل للحسـود اخسء فإنـك جاهل بجنـابنــا يتوسـل المتوسـل
ياحسـرة الحسـاد إن قيودهــم ثقلت عليهم خـاب كـل مؤول
لو أنهـم تـركوا السـوى والغيـر من قلوبهـم فازوا بكل مؤمـل
و خلال فترة وجود الإمام بسواكن، ونظراً لقربها من المنطقة الجنوبية التى تنتشر بها الوثنية، فقد كان يرسل إليها بعض أتباعه فى صورة تجار حاملين الملح نظراً لعدم وجوده عندهم. فإذا أنسوا لهم كانوا يعرضون عليهم مبادىء الإسلام فى صورة سهلة سمحة رغبت فيه الكثير، و هنا تنبه الإنجليز إلى خطر الإمام الذى أوفد أتباعه إلى تلك المنطقة التى تجوبها جيوش المبشرين، فكان ذلك من الأسباب التى أدت إلى نقل الإمام إلى مدينة أسوان.
و لما انتهت السنة الدراسية الأولى عاد الإمام إلى مصر و بصحبته الشيخ صبيحى، وكان فى استقباله بميناء السويس الأفاضل على بك علمى، وأحمد الصنفاوى، و محمد عبد الجواد، و محمد يوسف و غيرهم، و لبى دعوتهم و قضى بالإبراهيمية شرقية أياماً عاد بعده إلى المطاهرة حيث إقامة الأسرة و معه الشيخ صبيحى. ومكث الإمام شهوراً ثلاثة متنقلاً فى ربوع مصر يزور الأولياء فى مراقدهم و كذلك والديه. و فى نهاية الأجازة نزل ضيفاً على محافظ السويس و هو والد فريد بك وجدى المؤلف الكبير فزادت بينهما صلة الود. و فى الإجازة الصيفية للعام الثالث زار الإمام مصر و علم بأمر انتقال وظيفته إلى أسوان، فرحل بأسرته إليها.
[1] الطبرانى فى الكبير، والسيوطى فى الجامع الصغير.
[2] قبيلة سودانية.
[3] و ذلك قبل انفصال السودان عن مصر.
مواقع ت