فى الذكرى العطرة للإمام السيد عز الدين ماضى أبى العزائم رضى الله عنه يطيب لنا أن نمعن الفكر ونفتح القلب والوجدان لكلماته السديدة وتوجيهاته الرشيدة ، لنقتبس نذرا يسيرا من نور تعاليمه وإرشاداته ، عسى أن تهتدى بها الأمة إلى طريق الخير والرشاد ، وتنكشف عنها الغمة وتهتدى إلى النور والسداد .
التصوف منهج وسلوك :
لقد رأى الإمام السيد عز الدين ماضى أبو العزائم أن الأمة تتقاذفها أهواء مذهبية ، وترفع فيها شعارات خارجية ، كلمات حق يراد بها باطل ، ورأى أن التصوف مجهول أمره ، مغمور قدره ، منكور أهله، فأراد أن يعرّف الأمة بحقيقة هذا المنهج الإسلامى الصحيح ، ويرد على خصومه المعاندين والمفرقين ، فكتب المقالات وأصدر الكتب لهذا الغرض ، وأهما كتاب :" إسلام الصوفية هو الحل لا إسلام الخوارج ".
ويعرّف السيد عز الدين التصوف مبينا أنه ليس ضعفا ولا خمولا ولا انعزالا، بل هو الجهاد فى أعلى ذراه ، والعلم فى أصفى موارده ، والخُلق فى أعلى مثله ، وهو الذى ترك على الشخصية الإسلامية طابع كماله وهداه ، لتكون أعلى وأطهر نماذج الحياة في كل عصر بحسبه.
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جامعين لمقامات الدين ، وكانوا فقهاء وعلماء وعابدين ومحبين ، حافظين لأنفاسهم وخواطرهم حفظهم لفرائضهم وسننهم، فلما اتسعت رقعة العالم الإسلامى ودخلت الدنيا على الناس، وابتدأت الشهوات والنزوات والمطامع والأهواء ، تلعب دورها وتنحرف بالقلوب عن مسارها ، قام رجال التصوف يحافظون على روح الإسلام وآدابه.
لقد نشأت مدارس الحديث فى المدينة والعراق ، وتكونت مدارس الفقهاء فى الحجاز ومصر والشام وبغداد ، ثم نبتت مدارس لعلم الكلام بقواعده وأصوله ومناهجه ، ومدارس لعلوم التفسير بشرائطها وأصولها وفنونها ، وكما اجتهد الفقهاء فى الفروع ، وكما ابتدع رجال الحديث القواعد للرواة والسند ، وكما كوّن علماء التفسير مناهجهم فى البحث عن الذات والصفات ، والممكن والأسباب والمسببات والقضاء والقدر ؛ اجتهد علماء التصوف وشيوخه كذلك ، وأقاموا معارفهم وعلومهم فى العبادات والأخلاق ، ومناهجهم فى السلوك وأمراض القلوب وعلل النفوس ، ونوازع الخير والشر ، وأنوار الذكر والطاعة، ومقومات الشخصية الإسلامية الكاملة ، وكما تعددت طرق الفقهاء فى البحث والاستنباط وأنواع الأدلة وفنون القياس ، تعددت مناهج التصوف فى السلوك والمعرفة والأخلاق والآداب والأذكار والأوراد والفتح والكشف وِأسرار النفس.
وجهة النظر العالمية فى التصوف :
ويقدم السيد عز الدين رضى الله عنه وجهة النظر العالمية فى التصوف ، موضحا ما قاله بعض المفكرين والمستشرقين والباحثين المحايدين عن الطرق الصوفية المنتشرة فى ربوع الوطن الإسلامى الكبير ، يقول المستشرق ماركس: فى جبال الهند وغابات أندونيسيا، وفوق الرمال الذهبية فى البلاد العربية ، وفى أحراش أفريقيا وذرى جبال الأطلس ، وعلى ضفاف الأنهار وفى أعماق القرى ، فى كل مكان هنا وهناك فى القارات الإسلامية يشاهد الإنسان أينما اتجه أبناء الطرق الصوفية بسمتهم وشعائرهم وحماسهم ، وفنائهم العجيب فى الإيمان بدينهم وإجلالهم لأوليائهم .
ويقول المستشرق لين: لقد أوجد الصوفية فى البيئات الإسلامية أربعة مبادىء هيمنت على التفكير الإسلامى وهذه المبادىء هى : حب الله ، وحب رسوله ، والثقة بالأولياء وتقديرهم ، والإيمان بشيوخ الطرق والخضوع لهم والاقتداء بهم .
وعلى الجانب الآخر يعرض السيد عز الدين وجهات نظر رجال الفكر الإسلامى حيال الصوفية فيبين لنا ما كتبه الإمام الغزالى رضى الله عنه عن رجال التصوف قائلا: إنى علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى ، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقتهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم فى ظاهرهم وباطنهم من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به .
ويقول الإمام الحارث المحاسبى رضى الله عنه بعد حديث طويل عن جهاده للوصول إلى الحق حتى اهتدى إلى التصوف ورجاله ، وكتب ما كتب فى وصف الحياة الصوفية، وما فى أهلها من الجمالات والأخلاق واتباع للشرع الشريف ، إلى أن قال : فأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة ، والمتأسون بالمرسلين ، والمصابيح لمن استضاء بهم ، والهادون لمن استرشدهم ، فأصبحت راغبا فى مذهبهم ، مقتبسا من فوائدهم قابلا لآدابهم ، محبا لطاعتهم، ففتح الله لى علما ، به انفتح لى برهانه ، وأنار لى فضله .
سر اختيار الإمام أبو العزائم منهج التصوف :
لقد وعى السيد عز الدين اختيار جده الإمام أبى العزائم لمنهج التصوف فى دعوته، وما وصف به رجاله حين قال : الصوفية هم الذين صفت قلوبهم من شوائب الكون، وتطهرت نفوسهم من رجس الشهوات، وتعلقت هممهم بالله تعالى ففنوا عما سواه ، ووجهوا وجوههم شطره ، لم تحجبهم الكائنات عن شهود مبدعها، ولم تشغلهم الآيات الجلية عن فهم إشاراتها وذوق معانيها ، هم عبيد الله السائرون على منهج نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين تلقوا أسرار التوحيد وأنوارالحكمة بقلوب واعية ونفوس صافية، عن العلماء العارفين بالله ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد وعى ذلك جيدا وأدرك قدر الصوفية ومنزلتهم فأقام نفسه مدافعا عن التصوف ورجاله ، بصفته محاميا عن أهل البيت والأولياء .
فرغم أن الصوفية على مر التاريخ لم يشتركوا فى خصومات أو صراعات مع أحد ، فإن هناك من هاجمهم فى أمور كثيرة منها : صدق اتباعهم وتعلقهم وحبهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجلالهم له وصلواتهم الدائمة عليه ، وهاجمهم فى حبهم لأولياء الله واحتفالهم بموالدهم ، وهاجمهم فى مناهجهم فى السلوك والتربية، وهاجمهم فى حرصهم على أورادهم وأذكارهم ، وهاجمهم فى زهدهم وآدابهم، وزعم أنهم أعداء التوحيد وأعداء السنة .
ويرد السيد عز الدين رضى الله عنه على هذا الهجوم الموتور بكل قوة ، مؤكدا أن الصوفية يحبون الله ورسوله حبا يملك عليهم وجدانهم وقلوبهم وأرواحهم وحياتهم لأن هذا هو لب الإسلام ودعوته ، وهذا الحب يؤدى إلى صدق اتباع المحبوب ، ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم ، وهذا العلم المفاض وهذا الإلهام والكشف ، أسسه وشرائطه لدى الصوفية كافة أن يكون مقيدا بالكتاب والسنة .
وأما أن الصوفية يحبون أولياء الله ويوقرونهم ويجلونهم ، فهو حب فى الله وبالله ، إنه حب الاقتداء والأسوة الصالحة، فالصوفى لا يحب الوليّ لذاته وإنما يحبه لربه ، والصوفى لا يعبد الولى ولا يسأله شيئا ، لأنه يعيش دائما تحت ظل التوحيد الصافى .
وأما أن الصوفية قد سلكوا فى طريقهم إلى الله سبلا وأنشأوا طرقا ، وجعلوا لهم أورادا وأذكارا وأئمة وشيوخا ، فإن تعدد الطرق والشيوخ ليس إلا كتعدد المذاهب الفقهية ، وهو عين الرحمة للأمة ، لأنه يفتح للمؤمنين آفاقا فى السلوك وآفاقا فى العبادة ، بحسب إلهامات الشيوخ واجتهادات الأئمة :
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
أما الأوراد والأذكار فما هى إلا وسائل لذكر الله واستغفاره على الدوام ، ليكون اللسان رطبا والقلب حاضرا والبدن خاضعا ، فيصير العبد فى معية ربه دائما ، لا ينساه ولا يحجب عنه طرفة عين .
إن الزهد الصوفى - كما عبر عنه شيوخه وعلماؤه - ليس فقرا مذلا ، ولا ضعفا مميتا ، ولا قناعة خانعة ، إنه ترفع وإباء ، وعزة وكرامة ، وعزيمة ورياضة روحية ، هو أن تكون الدنيا فى يدك لا فى قلبك ، هو أن تملك المال ولا يملكك المال ، هو أن تسخر الجاه والمنصب للخير والحق ، لا أن يسخرك الجاه والمنصب حتى تهين وتذل .
نماذج من الجهاد الصوفى :
ثم يقدم رضى الله عنه نماذج من الجهاد الصوفى العظيم ضد هوى النفس، وكذلك ضد الطغيان والبطش أو التهاون والتخاذل فى نصرة الدين ، لتكون دروسا لكل مسلم يؤثر الله على ما سواه : يكتب حجة الإسلام الإمام الغزالى رضى الله عنه إلى ابن تاشفين ملك المغرب فيقول له: إما أن تحمل سيفك فى سبيل الله ونجدة إخوانك بالأندلس ، وإما أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك .
ويقول الإمام محيي الدين بن عربى رضى الله عنه للملك الكامل حينما تهاون فى قتال الصليبيين: إنك دنيء الهمة والإسلام لن يعترف بأمثالك ، فانهض للقتال أو نقاتلك كما نقاتلهم.
ويطغى المماليك فى أرض مصر، فيثور العز بن عبد السلام الصوفى الكبير رضى الله عنه ويأمر بالقبض على المماليك ، ويعلن أنه اعتزم بيعهم فى سوق الرقيق لأنهم خانوا أمانة المسلمين .
ويرى حاتم الأصم شقيق البلخى - وكلاهما من أعلام الصوفية - يراه يضحك بين الصفوف فى موقعة الترك ، فيقول له : ما يضحكك؟ فيقول: ألا أضحك وأنا فى أحب المواطن إلى الله ؟ إن أسعد أوقاتى وأرجاها عندى أن يرانى ربى ضاربا بسيفى فى سبيله ، وأنا بعد أحرص على الموت من حرصي على الحياة .
ويقول عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى لابن البيطار الصوفى ، فى غطرسة وغرور المُلك : أنا عبد الملك فارفع حوائجك إلىّ ، فيقول له ابن البيطار فى عزة المؤمن وكبرياء الصوفى : وأنا أيضا عبد الملك ، فهلم نرفع حوائجنا إلى من أنا وأنت له عبدان .
ويقول الإمام الشعرانى مؤرخ التصوف رضى الله عنه : من لبس جديدا أو أكل هنيئا ، أو ضحك فى نفسه أو سعد فى بيته ، والأمة الإسلامية فى كرب أو شدة ؛ فقد برىء منه الإسلام .
لقد طالب رضى الله عنه أن نتجه إلى رسالة التصوف الحق نستمد منها القوة الخلقية والعزة الإيمانية والفضائل الروحية ، لتكون درعا وحصنا نقى به أمتنا ونحميها، ومعراجا للوصول إلى أهدافها وأمانيها ، حتى يشع الروح الصوفى الطاهر المؤمن القوى فى كل حياتنا، فنجعله مادة فى معاهدنا ومدارسنا وصحفنا وكتبنا ووسائل إعلامنا ، وحياة ملهمة فى كل شئوننا ، حينئذ نظفر برضوان الله ، وتمتلىء أيدينا بعزة الصوفيين وبأس المؤمنين ، ويتحقق فينا قول رب العالمين: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) "آل عمران:139".
جزاك الله يا سيدى عز الدين عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، بما أرشدت إلى الحق ووجهت ، وبما فكرت وأخلصت فحققت بتوفيق الله ما أحببت.