بيَّنَّا فيما مضى الحكمة من إيجاد الخلق، وأنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) "الإسراء:70"، وجعله مؤهلا لظهور معاني أسمائه وصفاته، وأعده لنيل الكمالات الروحانية أو ارتكاب النقائص الشيطانية.
وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الإنسان الكليّ الذي هو المظهر الأكمل لظهور معاني أسماء الله تعالى وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى أمد الإنسان بكل كائن في السماء وطبقاتها وأجوائها، وفي الأرض وأرجائها، وفي الرياح ومهابها، وفي الأفلاك ومداراتها، فما من ذرة في العالم من علوه إلى أسفله، بل من العرش إلى الفرش؛ إلا وفيها خواص لنفع العالم والكون كله لمصالح الناس، قال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) "الجاثية:13".
الإنسان انطوى فيه العالَم:
بيَّن الإمام المجدِّد السيد محمد ماضي أبو العزائم حقيقة خلق الإنسان وما أودعه الله فيه من آيات كما قال تعالى: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) "الذاريات آية:20-21" ومن ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان جامعا لكل حقائق العوالم:
ففيه الجماد: لأنه مخلوق من الطين.
وفيه النبات: لقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) "نوح:17"، فهو كالشجرة يمشي على الأرض، إلا أنها شجرة الله، فالرأس جذع، والعنق ساقها، والذراعان والفخذان أفرعها، وأصابع اليدين والرجلين أغصانها.
والإنسان حيوان: من حيث الطعام والشراب والجماع والأخلاق البهيمية، ومن الناس من إذا غضب رفس كالحمار، أو ضرب برأسه كالعجل، أو بطش بيده كالأسد، أو بصق كالثعبان، حتى أن من الناس من إذا اشتد غضبه وبصق إلى العين أعماها، وإلى الفم قتل، وذلك لتسمم ريقه من شدة الغضب.
وفي الإنسان النفس الملكية: التي إذا صفت ملكت الجسم الصلصال، فصار طوعا لها؛ وصارت أخلاقه أخلاق الرُّوح، وتبدلت الأوصاف الحيوانية بأوصاف النفس الملكية، فصار الجسم ملَكا بل خيرا من الملائكة، لأن ذلك الطين وذاك الحيوان تخلص من الشواغل والملاهي والحجب والموانع والسجون والأغلال والقيود - مع توفر الدواعي -، واتحدت تلك القوى بالرُّوح حتى صار الإنسان رُوحانيا.
فما من شيء إلا والإنسان يشبهه من وجه:
فإنه كالأركان - عناصر الحياة - من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
وكالمعادن من حيث هو جسم.
وكالنبات من حيث ما يتغذى ويتربى.
وكالبهيمة من حيث ما يحس ويتوهم ويتخيل ويتلذذ ويتألم.
وكالسبع من حيث ما يحرض ويغضب.
وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل.
وكالملائكة من حيث ما يعرف الله تعالى ويعبده ويطيعه.
وكاللوح المحفوظ من حيث قد جعله الله مجمع الحِكَم التي كتبها فيه على سبيل الاختصار، فقد ذكر بعض الحكماء في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة، وفي نفسه قريبا من ذلك.
وكالقلم من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في قلوب الناس، كما أن القلم يثبت الحكم في اللوح المحفوظ.
الإنسان هو النوع الوسط:
والإنسان هو النوع الوسط بين الملائكة والحيوانات:
فهو بالنسبة لغذائه ونموه وحسه وحركته: حيوان.
وبالنسبة لإدراكه وقوة تصديقه بالغيب وتخيله الغائب بالمشهود ورقيه في مراتب العلو حتى يدرك ما وراء المادة ويبلغ درجة أن يأنس بالمفارق: ملَك مقرب.
سر عجيب في عضو من أعضاء الإنسان:
وقد ألمع الإمامُ بسرٍّ عجيبٍ في أحد أعضاء الإنسان وسع السموات والأرض ولم يتجاوز شبرا في شبر؛ وهو الوجه والرأس:
فتجد في الوجه آلات السمع والبصر والشم والذوق والنطق التي بها إدراك الحقائق الكونية، وتجد في الرأس قوة الخيال والوهم والإدراك والحافظة والمخيلة والحاكمة، فسبحان مَن جمع في هذا العضو الصغير ما جعل الإنسان عالَما كبيرا ينطوى فيه العالَم الأكبر.
الإنسان عالَم صغير والعالَم إنسان كبير:
ولِكَوْن الإنسان من قوى مختلفة قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) "الإنسان:2" أي: مختلطة من قوى أشياء مختلفة، ولِكَوْن العالم والإنسان متشابهين قيل: الإنسان عالَم صغير, والعالَم إنسان كبير، ولذلك قال الله تعالى: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) "لقمان:28" فأشار بالنفس الواحدة إلى ذات العالم.
فالإنسان مملكة عظيمة وعالَم صغير: النفس سلطان المملكة، والعقل وزيرها، والقوى جنودها، والحس المشترك صاحب بريدها، والأعضاء خدمها، والبدن كله محل المملكة، والحواس تسافر في جميع الأوقات في عالمها، وتلتقط الأخبار الموافقة والمخالفة تعرضها على الحس المشترك الذي هو واسطة بين النفس والحواس، لأنه بواب المملكة؛ وهو يعرضها على القوة العقلية لتختار ما يوافق وتطرح ما يخالف، فسبحان من جعل هذا الجسم الصغير عالَما تنطوى فيه العوالم.
الإنسانُ مثنويُّ التركيب:
والإنسان - كما يقول الإمام أبو العزائم -: مثنويُّ التركيب جمع الله فيه الضِّدَّين، جمع فيه العناصر المختلفة حقائقها المادية، وبين الرُّوح المجردة كاملة النُّورانية، فألِفَت الرُّوح العناصر وهي مفارقة لها.
فهو مجموعة من جسد جسماني ونفس رُوحانية وعقل بينهما رقيب، والنفس والجسد جوهران متضادان في الصفات، متباينان في الغايات، مشتركان في الأفعال العارضة وفي الصفات بلا مفاوضة.
فالإنسان بمقتضى جسده الجسماني ميال بطبعه الحيواني إلى البقاء في الحياة الدنيا، وكانت معصية آدم في الجنة لتلك البغية، فخلوده في الدنيا متمناه، فيرتكب لأجل ذلك من الرذائل ما لا يرضاه الله، وهذا هو مطلب الجسم الدنيّ وقصد الإنسان الغويّ.
أما الرُّوح فهو من أجلها طالب للدار الآخرة، وبغيته الوصول إليها بالقلب اليقظ والعين الساهرة، ولذلك ترى أكثر شئون الإنسان مثنوية متتابعة، بين حيوانية ورُوحانية، فهو بين حياة وممات، ونوم ويقظة، وعلم وجهالات، وتذكرة وغفلة، وعقل وحماقة، وفجور وعفة، وبخل وسخاء، وألم ولذة.
فتراه مترددا بين صداقة وعداوة، وذكاء وغباوة ، وفقر وغناء، وبسط وغنى، وخوف ورجاء، وصدق وافتراء، وهرم وشباب، ومعصية فمتاب، وخطأ وصواب، وحق وباطل، وقبح وحسن.
جمع الله فيه الأضداد، وتفضل عليه بخير الإمداد، أسجد الله له ملائكته لما خلقه فيه من العجائب، وحير فيه الحِجا "العقل والفِطنة" لما أودع فيه من الغرائب، فتراه بين راقٍ يتكلم في رقيه مع الله شِفاهًا، وبين هاوٍ إلى حضيض الأسفلين سِفاهًا.
الإنسانُ ركَّبه اللهُ في أحسن صورة رُوحًا وبَدَنًا:
والإنسان مُركَّب من النفس والبدن، وهو الوسط؛ وخير الأمور الوسط، ولذلك كان أهل القرآن خير بني الإنسان لأنهم أمة وسط، ركَّبه اللهُ في أحسن صورة رُوحا وبَدَنا، وميَّزه بالنطق والعقل سِرًّا وعلنا، زيَّن ظاهرَه بالحواس والحظ الأوفى، وجمَّل باطنَه بما هو أشرف وأقوى، ومنحه الذكر والفكر والحفظ.
الإنسان بمعناه لا بمبناه:
فالإنسان حان الشراب للسالكين، ودنان الراح للواصلين، والشراب الطهور للعارفين، ظهر مبناه وغاب معناه، وإن الإنسان بمعناه لا بمبناه.
وكم من وحش كاسر وشيطان ماكر وخنزير سِفاد في صورة إنسان.
وكم من ملَكٍ رُوحانيّ وكروبيّ هائم في جلال ربه؛ وعالٍ آنسٍ بمعية مولاه في صورة إنسان.
فمَن وقف عند الصورة وحكم عليه قال: حيوان، ومن نظر بعين البصيرة إليه قال: مخلوق تخدمه الملائكة، ووليّ تولاه الله، ومحبوب قربه الله، وإنسان سخَّر اللهُ له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه.
والإنسان صوَّره اللهُ بيده طينة صلصالية، ونفخ فيه من رُوحه القدسية، وأسجد له ملائكته فقرَّبهم بسجوده وعلَّمهم، وأبى السجود له إبليس فأقصاه وأبعده لتركه السجود للإنسان.
الإنسان قرَّب اللهُ به مَن قرَّب، وأبعد به مَن أبعد.