سلط كتاب (تاريخ السودان الحديث) [1] الأضواء على حال المسلمين فى الوقت الذى كان الإمام يعمل به فى السودان وقبلها، وكذلك نظرة المستعمر إلى الإسلام، فقال:(( اهتم البريطانيون بالإسلام اهتماماً خاصاً نابعاً من إدراكهم لخطورته فى المجتمع و فرق البريطانيون بين نوعين من الإسلام فى السودان: إسلام صوفى سموه الإسلام الشعبى، و إسلام سنى سموه الإسلام التقليدى. و حاربوا الإسلام الشعبى الذى يمثله الصوفيه لأنهم السبب الأساسى فى الثورة المهدية حيث تمكن حفنه من الصوفية من نفجير ثورة قوضت النظام التركى، وعزى الإنجليز ذلك إلى قوة ونفوذ الصوفى أو الشيخ. ومما ضاعف من تخوف الحكم البريطانى من الحركات الدينية أن القيادة البريطانية فى السودان كانت فى يد شخصيات ذات خلفية أمنية وتدريب أمنى، فالحاكم العام (رونالد ونجت) والمفتش العام (سلاطين) كانا فى جهاز الإستخبارات، فكان أى تحرك دينى يوضع تحت المجهر الأمنى، و كانوا يتوهمون بهاجسهم الأمنى أن المهدية يمكن أن تتكرر.
تعامل البريطانيون مع العلماء السنيين ليكونوا لهم عوناً فى تحقيق الإستقرار، كما اتجهوا إلى الطرق الصوفية التى عارضت المهدية. لذا أنشأت الإدارة البريطانية فى عام 1901م لجنة العلماء التى تكونت من علماء الإسلام الذين تلقوا دراسة أزهرية أو ما شابهها، و من الذين لهم مكانة دينية مرموقة، و هى لجنة استشارية ترجع إليها الحكومة فى المسائل ذات الطابع الدينى، و جعلت منها الوكيل المعترف به لدى جمهرة المسلمين، و حصلت منها على تأييد بعض إجراءاتها حتى تجد قبولاً وسط أهل البلاد، فيقوى موقفها لحصولها على تأييد أعلى هيئة دينية. و عندما أصدرت الحكومة قراراً بمنع الاجتماعات الخاصة بما فى ذلك نشاط الطرق الصوفية، أعلنت اللجنة موافقتها على القرار و وصفته بأنه يتمشى مع الإسلام. وكانت الحكومة البريطانية بالسودان كثيراً ما تستدعى اللجنة للتحقيق فى نشاط رجال الصوفية الذى يحمل تهديداً للأمن واعتمدت على تلك التحقيقات فى اتخاذ خطواط قمعية.
و عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م ودخول تركيا الحرب ضد بريطانيا وإعلانها الجهاد الإسلامى، استنجدت الحكومة بالعلماء وبعض الزعماء الدينيين فأعلنوا تأييدهم للحكومة وعارضوا دعوة السلطان العثمانى وأرسلوا برقيات التأييد للحاكم العام ((ونجت)) والتى جمعت ونشرت فى كتاب باسم ((سفر الولاء)). وعندما انتصرت بريطانيا فى الحرب كان ضمن الوفد السودانى الذى ذهب إلى إنجلترا لتهنئة الملك مجموعة من العلماء والزعماء الدينيين)) .
من هذه المقدمة يتبين لنا الجو العام الذى أحاط بعودة الإمام إلى مصر نهائياً. و من ناحية أخرى، فقد كشف الإمام الغطاء عن العلماء بالدنيا والجهلاء بالآخرة وكذلك أدعياء التصوف، و هم الذين استمالهم الحكم البريطانى إليه لتنفيذ مآربه، و هم منسبون إلى الصوفية والتصوف ظلماً وزوراً. قام الإمام فى دروسه بتوعية المسلمين من شر هؤلاء، مبيناً أنهم يموهون على العامة بأنهم الدعاة إلى الله الوارثون لأحوال الأقطاب وأنهم يمكنهم النفع والضر، ويلفتون المسلمين عن العمل الواجب عليهم شرعاً وعقلاً من العلم والعمل للدنيا، ومن هؤلاء من يعلن شرف انتسابه لأهل البيت. بين رضوان الله عليه أن من ينتسب لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخالف سنته فليس منه، وإنماهو دعى ينتسب إلى غير أبيه. كشف الإمام الغطاء عن هؤلاء الأدعياء، لذا قاموا بالوشاية والكيد له عند الحكام الإنجليز وأوهموهم بأنه يعمل على تحطيم نفوذ الأئمة الدينيين والذين يعتمد عليهم الإنجليز فى قبول حكمهم لدى الأهالى، وبلغ بهم الأمر أن أتهموه بأنه يدعى المهدية وأنه سوف يظهر كمهدى يحمل الراية السوداء، كما جندوا بعض أتباعهم للعمل كجواسيس لدى الإنجليز لينقلوا ما يدور فى مجالس ودروس الإمام رضى الله عنه.
كان البريطانيون مدركين لدور الدين فى حياة السودانيين لا سيما وأن حكمهم فى حقيقته إنما هو احتلال صليبى استعمارى على أنقاض دولة وطنية مسلمة. فقد كتب اللورد ملنر: (إن خضوع المسلم لحاكم مسيحى يعارض روح الإسلام نفسها) ، وعبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية انفجارها فى السودان حيث التطرف الدينى كامن فى عمق بسيط تحت السطح. وكان الحاكم العام البريطانى ونجت باشا أكثر وضوحاً وصراحة حين قال: ( يتعين علينا ألا نتراخى لحظة فى احتياطاتنا ضد انتشار هذه الحركات، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك بإمكانياتنا المحدودة أن نسحقها بلا رحمة فى بدايتها) .
بهذا الفهم تعامل البريطانيون مع كل من يمثل قيادة دينية شعبية قد تقوى الرابطة الإسلامية وثبت روح الإسلام فى النفوس كدين لا يفصل بين الدين والدولة، وبين الفرد والجماعة، وبين الدنيا والآخرة.
و الإمام رضوان الله عليه كان يبث بين طلبته وتلاميذه ومريديه روح التدين، ويقوى ويعمق الرابطة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية على أساس أن الإسلام هو النسب وهو الوطن و هو الدين، و يحذر الجميع من الوقوع فى حبائل الاستعمار، و يبين مكايده وعمله على استنزاف ثروات و عقول المسلمين.
لذا كان كثيراً ما يصطدم بإدارة الكلية، وقد كتب الحاكم العام (ونجت) باشا يقول عام 1915م: (إن المعلمين المصرين فى الكلية أدخلوا بين الطلبة الدعاية الوطنية، ويرى أن أمام الإدارة الوطنية خيارين لمواجهة هذا الموقف: إما بترك الأمور كما هى و ما تحمله من خطر انتشار الروح الوطنية التى يعمل البريطانيون للقضاء عليها، وإما نجلزة التعليم أى زيادة عدد المعلمين الإنجليز وتخفيض عدد المصرين). وأخذت الكلية بالخيار الثانى فأعيد تنظيم كلية غردون بدمج الأقسام، كما تم تخفيض ميزانية التعليم والتى كانت 4% عام 1913 فانخفضت إلى 2.95% عام 1915م.
ونظرة أكثر شمولية، أنه لما اندلعت الحرب العالمية الأولى فى العام 1914م، دخلت تركيا الحرب ضد الإنجليز، وتركيا تمثل دولة الخلافة الإسلامية والتى أعلنت الجهاد المقدس ودعت كل المسلمين لمناصرتها والوقوف بجانبها. وفى الجانب الآخر، دعا الحاكم البريطانى فى السودان الموظفين والأهالى الوقوف مع بريطانيا مؤكدين أن البريطانيين أصدقاء الإسلام وحماته، واستمال البريطانين بعض العلماء وبعض زعماء الطرق الصوفية بإغداق المنح والإعانات المالية عليهم فقاموا بتأييدهم وطمأنة الأهالى وإقناعهم بالوقوف ضد دعوة السلطان العثمانى.
و إزاء هذه الأحداث قام الإمام رضوان الله عليه بكشف الحقيقة و إبطال دعواهم، وكان الإمام رضى الله عنه يبث روح الدين والرابطة الإسلامية و حب الوطن والأخذ بأسباب التقدم و تعلم الفنون، و ذلك من أجل النهوض بالأمة الإسلامية، و يحارب الاستعمار لعلمه بأنه يعمل على هدم الدين فى نفوس المسلمين، و ليقينه بأن المسلمين لو تمسكوا بشريعتهم و أخذوا بالعلوم فسوف يكون لهم الشأن و العلو والمكانة فى الدنيا و الفوز فى الآخرة، لذا كان الإمام يربى تلاميذه ومريديه على هذا ويبين لهم مغبة الوقوع فى حبائل الاستعمار وكيف أن الاستعمار يعمل على استنزاف ثروات المسلمين.
و أثناء درس من دروس الإمام، أمسك بجوربه المصنوع من القطن سائلاً: مم صنع هذا الجورب؟ فقالوا من القطن، فسأل: و من زرع هذا القطن؟ فقالوا: نحن زرعناه فى بلادنا، فسأل: و من الذى اشتراه؟ فقاوا: الشركات الإنجليزية، فسأل فأين تذهب به؟ فقالوا إلى مصانع لانكشاير حيث تصنعه جوراباً وغير ذلك ثم يرجع إلينا بثمن أعلى. و بهذا يكون الإمام قد وضع النقاط على الحروف، ثم أكد فقال: هل رأيتم القطن الذى زرعناه؟ ماذا لو صنعناه؟!!
و قد كثر صدور مثل ذلك فى دروس الإمام، لذا كانت المخابرات البريطانية فى السودان تسترق السمع لدروسه سواء كانت فى الأماكن العامة كقاعات الدراسه والمساجد أو فى داره ((ببرى)) ، حيث كان مدير المخابرات بنفسه يسترق السمع لدروس وأحاديث الإمام.
و الإمام رضى الله عنه لم تكن تأخذه فى الله لومة لائم، و لم تلن له قناة، و لم يغض طرفه عن أصغر الأمور، فعندما لاحظ أن الطلاب يكتبون اسم (غردون) على الكراسات لم يقبل ذلك واستنكره، إذ كيف تدرس الشريعة الإسلامية تحت اسم (غردون) الإنجليزى؟ لذا طلب من طلابه أن يشطبو اسم كلية (غردون) ويكتبوا بدلاً منها كلية أهل الله، وبالفعل قام الطلبة بذلك، فاستشاط المستعمر غضباً.
امتدت دروس الإمام رضى الله عنه بمسجد الخرطوم الكبير لفترة زمنية طويلة كما ذكرنا، فالتف حوله الكثيرون من المتعلمين ومحبى العلم والمريدين، وجعلت حلقة دروسه تكبر وتكبر ويكون لها الأثر الفعال فى المجتمع، مما أثار حفيظة بعض الزعماء الدينيين، فعملوا على إثارة الإنجليز و تأليبهم عليه، و بدأت المضايقات والعقبات توضع أمامه، مره بالتشويش عليه أثناء الدرس، و تاره بإلصاق التهم عليه بدعوى المهدية، حتى كان اندلاع الحرب العالمية الأولى عام1914م، فوقف الإمام رضى الله عنه مؤيداً لدولة الخلافة الإسلامية تركيا ضد الإنجليز وحلفائهم.
لقد تحقق الإنجليز و أعوانهم من الخطر الداهم الذى يمثله بقاء الإمام بالسودان، فاستقر الرأى على إخراجه منها بشكل أو بآخر، واتجهت نيتهم فى البداية لنفيه إلى جزيرة مالطا أثناء سفره فى إجازته إلى مصر، و صدر قرار النفى إلى مالطا.
و لما وصل الإمام إلى الشلال عائداً من السودان كان ينتظره هناك الآلاف من تلاميذه، وعدد من محبيه ومن مريديه من خبرة رجالات مصر، وكان فى الباخرة التى أقلته من حلفا إلى الشلال (ونجت) باشا، وقد تقابل مع (ونجت) تلاميذ الإمام من رجالات مصر على رأسهم محمود سليمان باشا، و محمود الشندويلى باشا، وأحمد باشا الشريعى، و حمد الباسل باشا، وكثيرون من أعلام الطب والمحاماة و العلماء والأعيان. و قد طلب هؤلاء من الحاكم العام أن يكون نفى الإمام إلى بلدة المطاهرة بالمنيا بدلاً من جزيرة مالطا، فاتصل (ونجت) لاسلكياَ بإنجلترا، وصور لحكومته خطورة نفيه إلى مالطا فوافقوا.
وبمجرد وصوله إلى بلدته وافاه خطاب وكيل حكومة السودان بعدم سفره مرة أخرى إلى السودان. وقد تحولت بلدة المطاهرة و ما حولها إلى مدارس للإمام خرجت أعلام الوطنيين وأئمة المجاهدين الذين بدأت بهم الثورة الوطنية عام 1919م، فضاقوا به ذرعاً، فتوسط له أحبابه السابقون و طلبوا إليهم أن يكون فى القاهرة و تحت أعينهم، فتم ذلك.
تداعيات نفى الإمام
و قبل صدور قرار تحديد الإقامة كانت هناك بعض التداعيات التى عجلت بصدوره، ومنها:
(1) عقب إعلان الحماية البريطانية على كل من مصر و السودان فى نوفمبر سنة 1914م، أقام (ونجت) باشا الحاكم العام الإنجليزى بالسودان حفلاً بهذه المناسبة، ودعا إليه بعض الشخصيات السودانية والموظفين المصريين ليتعرف على اثر ذلك فى نفوسهم، و أقيم الأحتفال بسراى الحاكم العام.
حضر الإمام هذا الإحتفال كره وبعد إلحاح تلاميذه وأصدقائه، ذهب معه أحدهم وهو الشيخ محمد واد أحمد، وجلسا فى الحديقة يتجاذبان أطراف الحديث عن حالة العالم الإسلامى المحزنة.
وقدم الطعام فقال الإمام لجليسه: والله لإن آكل الزقوم فى هذا اليوم خير لى من أن أطعم من هذا الطعام. أوصل الوشاة هذا القول إلى ونجت باشا الذى جاء الإمام وسأله: لماذا لم تأكل؟ فأخبره أنه صائم، فتعجب وسأله عن سبب صيامه، فقال له على سبيل التبكيت: أشكر الله على نعمة المساواة التى حدثت للمجتمع السودانى نظير فرض الحماية البريطانية حيث أصبح المصرى و السودانى والبريطانى أمام القانون سواء. سأله ونجت عما يقصده، فقال له الإمام: يعنى إذا ضربتك الآن- و وضع يده على خد ونجت- فسوف لا تعلق لى المشنقة لأشنق باكر، ولكن أمامى وأمامك القضاء، والقصاص بين الندين عادل مهما كان، وأنا أتساوى معك فى الرعوية الإنجليزية. فارتبك ونجت وقال: أنت رجل طيب كتير، ادعو لى يا شيخ ماضى. لكن غضبه اشتد عن ذى قبل.
(2) كشأن الأستعمار فى أى بلد يدخلها، فإنه يبدأ بزرع بذور الفتنة والشقاق للتفريق بين أهلها ليصبحوا شيعاً وأحزاباً، وإذا كان الدين هو المسيطر على الشعوب فإنهم يدخلون من هذا الباب للتشكيك فيه. استطاع الإنجليز تجنيد بعض أدعياء العلم بالسودان، فأذاعوا بين الناس أن طاعة الإنجليز واجبه بصفتهم أولى الأمر ويتلون قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر) [2] ، ولا يصلون إلى بقيتها وهى (منكم) . و شاعت تلك الأفكار الخبيثة بين المسلمين فى السودان.
خطب الإمام فى الجامع الكبير بالخرطوم مبيناً فى خطبته أن الذين قالوا ذلك من علماء السلطة خائنون لدينهم كالذين قالوا: (لا تقربوا الصلاة) ولم يكملوها بقوله تعالى: (وأنتم سكارى) [3] فالقرآن يقول: (وأولى الأمر منكم) أى: أولى الأمر منكم أيها المسلمون وليس أولى الأمر منكم أيها الإنجليز.
وتطورت سمة المواجهة بين الإمام من جانب والإنجليز وأعوانهم من جانب آخر مما جعلهم يفكرون فى طريقة للخلاص منه.
(3) استدعى ونجت الإمام ذات يوم محاولاً استمالته وكسب ولائه للإنجليز، وطلب منه أن يثنى على بريطانيا ويكتب عن إصلاحاتها بالسودان مظهراً مساوىء الحكم العثمانى، فسأله الإمام: أتكتب ضد الإنجليز؟ فقال كيف هذا وأنا رجل متعلم؟ فرد عليه الإمام قائلاً: إذن كيف تطلب منى أن أكتب ضد وطنى وأنا متعلم؟!..
وجعل يشرح له نسب الإسلام ونظرياته فى الجنسية. وأخذ ونجت قراراً بينه وبين نفسه بإقصائه عن السودان.
(4) أعد ونجت حفلاً كبيراً بنادى الضباط للتعارف بين البريطانيين والمصريين والسودانيين والتفاهم بينهم لتسيير دفة الأمور فى حكم السودان بما يتلاءم ومصلحة إنجلترا. ولما وصلت الدعوة لحضور الحفل إلى الإمام أعلن مقاطعته للحفل، وجمع أتباعه ومريديه، فأرسل إليه الحاكم العام يطلب إليه إعلان موقفه، فما كان منه إلا أن توجه إلى المسجد الكبير بالخرطوم، وبعد صلاة العصر أعلن عن مقاطعته لهذا الحفل
كاشفاً عن مؤمرات المستعمرين وسوء نواياهم مؤيداً كلامه بآيات من القرآن الكريم يرددها ويتلوها الناس خلفه حاثاً إياهم على إكمال المسيرة وصون الأمانه.
(5)(اللهم أنصر سلطان المسلمين) .. كانت تلك من الأدعية التى يدعو بها خطيب الجمعه على المنبر. وأثناء الحرب العالمية الأولى اعتبر الحلفاء أن هذا الدعاء ضدهم حيث أن تركيا كانت تحارب ضد الحلفاء. أراد الحاكم العام للسودان تغيير صيغة هذا الدعاء، وحاول الإستعانة بالإمام لما له من مكانة عاليه فى قلوب المسلمين. وفى مناسبة ضمت الحكام والزعماء والسياسيين والدينيين حضره الإمام رضى الله عنه، وقف الحاكم العام يلقى خطبة بالعربية كان قد أعدها من قبل، و وجه الخطاب إلى الإمام قائلاً: إن الحرب قد طالت و أسأل الله أن يوقفها( فقال الإمام: آمين) ، إن ألمانيا دولة ظالمة نسأل الله تحطيمها (فقال الإمام إن شاء الله) ، وأن تركيا لا فكر لها والواجب عليها أن تكون مع الحلفاء لا مع ألمانيا، أنتم فى خطبة الجمعة تقولون: اللهم أنصر سلطان المسلمين، وهو سلطان ضد المسلمين، وبدلاً من أن تقولوا: اللهم امحق الكافرين قولوا: اللهم اهزم المانيا.
عند ذلك وقف الإمام قائلاً: إن الدين الإسلامى مؤسس على تعاليم سماويه يستوى فيها الصعلوك والملك، ولا يمكن لأى أحد تغيير شىء فيه، أنا لا أستطيع أن أقول للمسلمين غيروا فى خطبة الجمعة أى عبارة، أنت الحاكم العام للسودان، وعندك القوة، وغداً الجمعة، يمكنك أن تحضر مدفعاً وتضعه على باب المسجد ثم تأمر الخطيب أن يغير لك ما تريد، فإن لم تستطع ذلك.. فاستعمل مدفعك!!
ثم انصرف الإمام محاطاً بجمع كبير معه الضباط والجنود المصريون الحاضرون وقتها.
(6) توجه مدير المخابرات البريطانية فى السودان ومعه بعض الشخصيات الموالية للإنجليز لزيارة الإمام فى برى وقال له: أنت تكرهنا، فرد عليه الإمام: لأى سبب؟ قال: لأننا غير مسلمين وأنت شديد التمسك بدينك، فرد الإمام بقوله: ما جلست على هذه الأريكة التى أجلس عليها الآن إلا لأنها تريحنى، فلو كنتم مريحين للمسلمين فكيف أكرهكم؟ ولا سيما أنكم من البشر، والإنسان أفضل من الجماد، وما دمتم تتعبون المسلمين فكيف أحبكم؟.
(7) كان الشيخ مصطفى المراغى قاضى القضاة بالخرطوم من أشد الحاقدين على الإمام، وكان ينتهز فرصة سفره فى إجازته السنوية إلى مصر ويجلس مكانه بمسجد الخرطوم يلقى الدروس محاولاً أن يكتسب جمهوراً له ولكنهم لم يجدوا فى دروسه شيئاً مما يسمعونه من الإمام، فأخذوا يرددون المثل القائل (مرعى ولا كالسعدان) ، والمقصود أن ما يسمعونه منه كالحشائش الكثيرة التى يأكلها الحيوان ليملأ بطنه وقيمتها الغذائية منخفضة، أما ما يسمعونه من الإمام فهو كالسعدان ذات القيمة الغذائية العالية.
إزداد حقد الشيخ المراغى وجاهر بالعداوة وذهب إلى ونجت وقال له كيف تتركون أبا العزائم- وهو موظف عندكم- يلعن الإنجليز من على المنبر ويقول: فلعنة الله على الكافرين؟. استدعى ونجت الإمام وأبلغه قول المراغى، فسأله الإمام: لو جاءك أمر ملكى أتعصاه أم تنفذه؟ فقال أنفذه، فقال الإمام: ولو جاءك الأمر ممن هو أعلى من الملك؟ فقال أكون أحرص فى تنفيذه، فقال الإمام: الله يقول: (فلعنة الله على الكافرين) [4]وانا مدرس وأمين على الدين.
و لما كان يشكله بقاء الإمام من خطورة على وضع الإنجليز فى السودان، فقد صدر قرار إبعاد الإمام عن السودان فى أغسطس 1915م م.
ووقف القائد الإنجليزى عند مغادرة الإمام للسودان يودعه بشماته قائلاً: أتى اليوم الذى يخضع فيه أبو العزائم للإنجليز، و ستذهب إلى مصر و لن تجد عملاً، وستعود إلينا فتقبل يدى لأعيدك لعملك، فرد عليه الإمام بقوله: بمشيئة الله سيأتى اليوم الذى يقبل فيه القائد الإنجليزى يدى أبى العزائم وقدمه.
وعاد الإمام إلى مصر وكأنما لسانه ينطق بما سطره القدر، فلقد قامت ثورة 1919م فى مصر، وكان الإمام فى القاهرة وقتهاوالمظاهرات العارمة تجوب شوارعها لا ترى إنجليزياً إلا وفتكت به. وشاء القدر أن يذهب القائد الإنجليزى ليزور ناظر مدرسة الخديوية وهو إنجليزى، فوجد مظاهرة خارجة منها، فلم يجد شارعاً إلا شارع سوق مسكة فلما وصل إلى منتصفه وجد مظاهرة أخرى من ناحية مدرسة القربية ومدرسة الخديوى إسماعيل، فلم يجد إلا حارة متفرعة من هذا الشارع وهو عطفة الفريق، فوجد بوابة كبيرة فدخلها على أمل انها ستؤدى به إلى شارع آخر، ولكنها كانت بوابة سراى آل العزائم الذى يقيم فيه الإمام. ولما دخل من البوابة وجد نفسه فى فناء المنزل، وإذا بالإمام واقف أمامه، فقبل يده وجثى على ركبتيه يقبل رجليه وقدميه، ويستعطفه ويطلب منه النجاة. وطاش عقله لما تذكر ما كان من قبل وما رآه من أن نبوءة الإمام تحققت، فصار يصرخ قائلاً للإمام أنت المسيح، أنت المسيح!! ولكن الخلق المحمدى غالب على الإمام رضوان الله عليه، فقد أجاره وأبلغه مأمنه، وأكرمه، وبعد انتهاء تلك المظاهرات أمره بالخروج.
وفى المنيا التى وصل إليها الإمام وحددت فيها إقامته وصل إليه الخطاب الآتى نصه والذى احتجت فيه وكالة حكومة السودان وقها بالإجراءات الاقتصادية لتحول دون عودة الإمام إلى السودان مرة أخرى.
وكالة حكومة السودان بمصر التاريخ: 30 أغسطس 1915 حضرة الشيخ محمد ماضى المحترم أفيدكم أنه بداعى الإجراءات الاقتصادية التى اتخذتها مصلحة معارف حكومة السودان، المرجو عدم سفركم إلى مقر وظيفتكم فى السودان إلا إذا أخبركم بذلك جناب مدير المعارف السودانية مباشرة. وكيل حكومة السودان (إمضاء مستر سميس) |
الرجاء إفادتى باستلامكم هذا، وإعادة جميع تصاريح سفركم وسفر عائلتكم إلى هذا المكتب.
وظل تلاميذ الإمام وأتباعة فى السودان على نفس المنهج الذى سار عليه و قاموا بدورهم إلى أن كشف الله الغمة وانسحبت منه القوات الإنجليزية فيما بعد.
[1] (خلال الفترة 1820-1955م) ، لمؤلفه محمد سعيد القدال. مطابع شركة الأمل للطباعة والنشر، الخرطوم- السودان.
[2] سورة النساء آية59.
[3] سورة النساء آية43.
[4] سورة البقرة آية 89.