سيرة الإمام فى مصيفه ببرج البرلس

05/03/2021
شارك المقالة:

 تنقل رضى الله عنه فى كثير من البلاد لدعوة الناس إلى الله تعالى إحياء لشريعة النبى صلى الله عليه وسلم، ومن بين تلك البلاد التى نالت قسطاً وافراً من دعوته قرية برج البرلس بمحافظة كفر الشيخ) .

وأهالى هذه القرية يعيشون على صيد الأسماك، وكانت أوقات فراغهم عبارة عن لعب ولهو وجلسات سمر، حتى إن الإمام قال عنها فيما بعد عندما باشر نور الإيمان قلوب أهلها فى قصيدة طويلة مطلعها:

حيرت فكرى فى الآثار محصورة           أسكرت روحى بالآيات منشورة

إلى أن قال:

يا بحر حيرتنى مما ابحت به           وىْ والبرلس كانت  قبلُ معذورة [2]

* وكان الإمام قد التقى بأحد أبنائها وهو الشيخ كامل شمس بمدينة الإسكندرية فى مسجد سيدى ياقوت العرش وأحب الإمام وتلقى منه علوم نافعة أراد أن ينشرها بين أهل قريته، وبدأ فى الدعوة إليها فتعرف عليه الشيخ حسن عبد الوهاب القلفاط وغيره من الذين كونوا وفداً زار الإمام بالقاهرة ليجمعوا بين السماع وشهود العيان، فرحب بهم رضى الله عنه وأكرم وفادتهم وجالسوه يستمعون إليه وينهلون من فضل فيض الله المفاض عليه، وعادو يحدثون بما طالعوه، ويرغبونهم فى التلقى عن الإمام ويشوقونهم إلى رؤيته، فاستجاب العديد منهم وتشوقت أرواحهم ولانت قلوبهم وتاقت لرؤياه نفوسهم، ومن بين هؤلاء: الشيخ عرفات الجمال الذى سبق أن رأى الإمام فى رؤى منامية مبشراً إياه بخير عميم، فما لبث أن توجه مع الشيخ حسن والشيخ كامل إلى مدينة الإسكندرية التى كان الإمام قد توجه إليها وطلبوا منه زيارة بلدهم ليعم النفع به، فاستجاب لهذه الدعوة.

*وعلى مدى خمس سنوات متتالية وهى من عام 1349 وحتى 1353  دأب الإمام على زيارتها فى موسم الصيف من تلك الأعوام، وكان يمكث فيها فى كل مرة ما بين الشهر والشهرين تصاحبه أسرته حيث أقام أهل القرية مقراً له أمام البحر مباشرة

يجتمعون فيه حوله يتلقون منه أسرار الحكمة وغرائب العلوم والمعارف . وأحبهم رضى الله عنه حُباً جماً، وكان مما أنشأ وهو بين ظهرانيهم:

هل  راح  أرواح  المحبة  دارا               فى الذكر  حتى  أشهد  الأنوار؟

إن أشرق  المذكور  أسكر أنفساً               حتى رأينا  فى  ذكره  الأسرارا

إن ناول  الراح  الطهور حبيبنا               حتى رأينا  المصطفى  المختارا

يا خير  خلق  الله  أنت   حبيبنا               أشهد  عيون  القلب  منك منارا

إنا نحبك  فاسقنا  خمر   الصفا               حتى نرى الوجه الجميل جهارا

قلبى   لديك  وبالبرلس   هيكلى               أوصل إليك  الفرع  أعل  منارا

خذنى  بكلى  يا حبيبى  أوصلن               فرعى  بأصلى أشهد الأسرارا

لكن   قلوب   العاشقين   دعت               إلى  أن  أقيم  بدارهم   مختارا

* وكان قلبه رضى الله عنه يسوح فى آيات الله وفى مكوناته، فيترجم بلسان العبارة عما كوشف به من أسرار تلك الآيات فى قصيدة مطلعها [3].

الكون  حان  وفيه الراح للصادى            لما  تجلى  لنا  قد  قدس   الوادى

ثغر  البرلس  فيه  البحر    يتبعه            بحيرة    ماؤها    ملح   لقصـاد

وأرضها الرمل:لا زرع ولا ضرع            لكنها  تجذب  الأرواح   للهـادى

فيها  البساتين  مَن  أشجارها إنس            قد  جملوا بالهدى من روح إرشاد

مولاى ابدلتهم بالزرع روح هدى            وبالثمـار   بأسـرار   وإمـداد

منعتهم  ما  به  الأهواء  والحجب            وأوردتهم  منهلاً  من  خير إيراد

أنت  الكريم  جواد   مانع   معط            هبنا  العنايـة  يا ربى   بإسـعاد

وصف الإمام أهلها بأنهم أشجار فى أرض جرداء لا زرع ولا ضرع فيها، وهم مع بعضهم يمثلون البساتين والجنان، مقتدياً بما وصف به ربنا المؤمنين فى كتابه العزيز بأنهم أشجار الحق سبحانه فقال: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء* تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال

للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار* يثبت الله الذين ءامنو بالقول الثابت..) [4] فقال الله: (يثبت الله الذين ءامنوا) ولم يقل: (يثبت الأشجار).. إذ أن الذين ءامنوا هم أشجار الحق وأصحاب الكلم الطيب وأنها تؤتى أكلها كل حين وهى ثمارها.

وقال أيضاً [5] :

يا إخوتـى   أهـل   البرلـس          سر  الأئمة   من   قديم   زمان

أحببتمو  المختار  فزتم بالرضا          حتى   بلغتم   حظوة   المنـان

يا إخوتى  الحب  أعظم نعمـة          تعطى  لأهل  الصفوة  والإيقان

أنتم رجال العصر فضل محمد          بشرى  لكم  فى  مولد  العدنان

قد  صرتمو نوراً لعصر مظلم          والله  جملكـم   بنور   حنـان

شكراً  لرب  منعم وهب الصفا           أعطى  المحبة  منه   بالإحسان

* وجاء بعض الآباء يوماً يشكون للإمام عن أبناءهم الذين يطيلون تواجدهم معه ومجالستهم إياه، متخوفين أن يؤثر ذلك على أعمالهم وسعيهم لجلب أرزاقهم، فتوجه الإمام يستفسر من أبنائهم عن حقيقة ذلك فأخبروه أنهم يجتهدون فى القيام بأعمالهم وقضاء حوائجهم، وأن قلوبهم لا تطيق بعداً عنه فيهرعون بعد إنجاز أعمالهم للسماع منه والتلقى عنه، ولا طاقة لهم على غير ذلك، فأنشأ رضى الله عنه قائلاً [6] : 

نهار الفتى المحبوب فى السعى والفكر        وليل الفتى المطلوب  فى جذبة  الذكر

عجيب   مجاهدة   الرجال    نفوسهم         لتطهيرهـا  من  ظلمة البعد  والكفر

شبـاب  مقامهـم  المعاصى   وغفلة         يوفقهـم   للقـرب  ربى   وللخيـر

نعم  هم  رجال  فى  محبة    ربهـم         لقد  خصهم  منه  بسـاطعة   السـر

أحبهمـو   حتى   أحبوه     هيمـوا         أيا  روح  لله   العلـى   ألا   فـرى

تراءى  له  وجه   الجميل   فحيـروا         وفروا  من  الأكوان  فى البر والبحر

فأشهـدهم  ما فيهمو  من    جمالـه         فغابوا به عشقاً على الصدق فى السير

فلم   يلههم  حظ  ولا   شـهوة   ولا         علو  وتمكين  من   الأهل   والغيـر

يقودهمـو  القرآن  ينبئهــم   بمـا         ينالهمو   من  ربهم  من  ضيا  الفخر

تراهم  سكارى  طول  لياليهمو    بما         رأوه  من  الأنوار  فى  ليلـة   القدر

ليالهمـو  قـدر  وأيـامهم   ضـيا          تجلى  لهم  مولاهمو   ساعة   الفجر

على  سنة  المختار  ساروا   وفارقوا          حظوظاً  وأهواء   تدل   على   الشر

قلوبهم    قـد   عمـرت   بحقائـق          والسـنة   الأفراد     تنبىء    بالسر

تراهم   نهاراً   كالسـباع   شهامـة          كما  أمر  الرحمن  بالسعى فى السير

وفى  الليل  موتى  من  غرام  حبيبهم          سكارى  حيارى  فى شهود وفى ذكر

لقد   تركوا   آباءهم   أمهاتهم    وقد          جاهدو   بالحال   فى   السر   والجهر

وقد   أعجزوا    بالعلم    كل   معلم          لأنهم  منحوا  الحقائق   فى   الصدر

من  الله  والإحسان   فى  كل  موطن          علومهم  نور  يضىء   بلا  حصـر

مجالسـهم   ذكـر  وفكـر  تـأدب          بآداب  خير  الرسل  من محكم الذكر

فاطمأنت الآباء وسكنت نفوسهم.

* وتوجه رضى الله عنه يوماً لنزول البحر ومعه تلاميذه فأنشأ يقول قصيدة هذا جزء منها:

اعبروا  بالبحر كى  يجلى الجميل               كى أرى فى البحر  نوراً لا مثيل

اعبـروا بالبحـر إنـى  واجـد               وجد مشتـاق إلى بـدء  العليـل

شمت فى أرض  البرلس  غامضاَ               من  علوم  لاح  لى  منها  الدليل

راح  موسى  قد   أديرت   بعدها               راح عيسـى  وهو أستـاذ  نبيل

وبعد نزوله أنشأ يخاطب البحر فى قصيدة طويلة منها:        

طهر   يا مـاء  كلى              جسمى وحسى  وظلى

طهر  حبيبى  روحى              بنور  وجهك   حولى

يا بحـر  أنت  جمال              محـوت  عنى جهلى

تجلى  فيك   حبيبـى              أنلنـا كـل  الطـول

يا بحر  أشهدت  قلبى              والعرش فوقك  سؤلى

ثم رأى موجه شديدة ستجىء إليه فقال:

والموج وافى سريعاً               حتى   أقوم  أصلى

فوصلت إليه شديدة وانتشر الماء على وجهه ورأسه فأكمل قائلاً:

وجهى ورأسى علاها            موج عن الحق يملى

يملى  حديث شهودى          عن باطن الغيب مجلى

فأسرع الإخوان برفع كرسيه جهة الشاطىء لشدة الموج، فأكمل فى لهجة سريعة جداً قائلاً:

وفى البرلس صحب            نالوا الرضا بالسهل

ولما استمع مرة إلى خطيب الجمعة بمسجد سيدى غانم، يشرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) [7]، وبعد انتهاء صلاة الجمعة أقام الإمام بالمسجد حلقة الذكر فأنشأ قائلاً: 

نور  الوراثة  لاح  للأبصـار             وضيا  الفتوة  لاح   للأسرار

شهد الرجال     حقائقاً   لم  تشهدن             إلا  لأهل  الكشف   والأخيار

فاز  الكرام  بوسعة  فى نعمة             من  منعم  معط  ومن   غفار

ما قد   مضى قد  عاد  نوراً  مشرقاً             من  سادة   الأفراد  والأبرار

           علم  وحال  ...  حجة   نبوية

وهنا ضرب الإمام بشدة على فخذه، ثم أخذ عدة خطوات للأمام- وكان الإمام وقتها قليل الحركة لمرضه- فخر بعض الذاكرين مغشياً عليه لما رأى ما اعترى الإمام من حال- بدلت ما به من بأساء إلى عافية وقوة- ومن بينهم الشيخ حسن القلينى، ثم أكمل الإمام قصيدة الذكر قائلاً:

                                                             راح    طهور   دار  بالمدرار

قد أسكر الأرواح محمــد                        طه الحبيب المصطفى المختار

فشاء الله أن تكون الخطبة لشرح الحديث، والحضرة للفهم والمشاهدة،وأحس الكتبة وهم من كانوا حول الإمام بإجهاده الشديد، فحملوه إلى السيارة لتذهب به إلى سكنه بالمصيف وبقى الكل يتغنون بالقصيده فى الذكر، وأقيم الدرس حتى صلى الكل صلاة العصر، وقد أقبل على الإمام كل من عاداه.

*وقد رد يوماً وهو برج البرلس على بعض العلماء الذين ينكرون الحال على الصوفيه فقال:

الحـال  حجة  دعوى  سالك  فانى              والحال   جذبـة  محبوب   لديـان

الحال  ينكره  أهـل الجهالـة بل                أهل  الضلالة  من  خب   وشيطان

لكن  أهل  الصفا  يخفون   حالهمو            عن  كل  مبتدع  عن  جاهل  جانى

العلم  بالله  نور  لا  يراه   سـوى             فرد  مشوق  إلى  روح  وريحـان

خل  الإشـارة  لا  تبدى غوامضها             إلا  لفـان  لـدى  محبوبـه  دانى

إن أنكر الحال  أهل الجهل فاعذرهم             فالعلـم  بـالله  من  أسـرار إيقان

اخفوا  علومكمو  صوناً  لها   عمن             مالو  إلى  الحظ  من  زور وبهتان

تستروا   عنهم   فالغيب   لا  يجلى             إلا  لأهل  الصفا  من  خير  إخوان

وادعوا  إلى  الله  بالحسنى لترتفعوا             عنكم  بجذبـة  وهـاب  وحنــان

سيروا على منهج المختار واجتهدوا             أن  تجمعوا  الخلق  للحسنى  بقرآن

إخفوا عن الخلق  ما لا  يعلمون فكم             خصم  أتى  طائعاً  فى  حالة الفانى

والله  أسال  أن  يهدى   بنا  يعطى             رضوانه  والعطا  فضلاً  بإحسـان

*لقد أحب الإمام أبناء البرلس حباً جماً، وكان المعروف عنهم أنهم فقراء الجيوب أغنياء القلوب، وقد شهد الإمام لهم أنهم رجال وقال فيهم:

لا ببيت مزخرف أو بمال                  بل بفقه فى محكم القرآن

والكلام فى شأن الإمام مع برج البرلس يطول ، فقد اختصها بالذكر فى العديد من مواجيده وأثنى على أهلها وأحبهم بقلبه، فأثمرت أشجان تلك المحبة ثماراً طيبة تنشر نور الله فى أرضه.


[1]     رواه الشيخ أحمد سرور من برج البرلس.

[2]     اى انها لم ينكشف فيها نور الإيمان بعد.

[3]      قصيدة من خمسة عشر بيتاً قالها رضى الله عنه يوم الجمعة5 ربيع الآخر 1352 أثناء رياضته على شاطىء البرلس عندما رأى الهلال. (ديوان ضياء القلوب من فضل علام الغيوب)، قصيدة رقم 433، ص453 دار الكتاب الصوفى 1992.

[4]     سورة إبراهيم آية 24- 27.

[5]    الجزء الأول من قصيدة تتكون من سبعة عشر بيتاً أولها (أهل العزائم خمرهم قرآنى) أملاها رضى الله عنه بالحضرة ليلة السبت 5 ربيع الأول 1351هـ بمصيفه ببرج البرلس، (ديوان ضياء القلوب من فضل علام الغيوب) ، قصيدة رقم 131ص 136 دار الكتاب الصوفى 1992.

[6]    ديوان ضياء القلوب من فضل علام الغيوب، الجزء الأول، قصيدة 148ص 152، دار الكتاب الصوفى 1991.

[7]     رواه أبو داود وابن حبان والبيهقى والحافظ الدمياطى فى المتجر الرابح.

رأى الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم فى ليلة النصف من شعبان

كان أصحاب رسول الله ﴿ صلى الله عليه وآله وسلم﴾ يجتمعون فى هذه الليلة ويصلون مائة ركعة فى جماعة وكل ركعة يقرؤون سورة (قل هو الله أحد) عشرات مرات ، فيكون مجموعها ألف مرة وكانوا يلتمسون فيها الخير .