قبل التعرض لموضوع انتقال الإمام إلى الرفيق الأعلى، لابد من وقفه نستعرض فيها حالته الصحيه، والأحداث التى سبقت ذلك وكان لها تاثر عليه، إلى أن قضى الله امراً كان مفعولاً.
كانت حياة الإمام مملوءة بالأعمال التى تنوء عن حملها الجبال . لقد حمل مسئولية العالم الإسلامى كله على كاهله، فما رأى مرضاً استشرى فى الأمة الإسلامية إلا وأوجد له العلاج من الكتاب والسنة ونصح الأمة واتجه بالكلية إلى حضرة رب البرية، يتذلل إليه ويدعوه أن يكشف الغمة ويحفظ الأمة.
وكان لكثرة تفكيره فى أحوال المسلمين وشدة غيرته على الإسلام وما نزل بالمسلمين أثر كبير فى إصابته بمرض الفالج [1] قبل عشر سنوات من انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وكان أحد تلاميذه قد زاره- وهو طبيب- قبل مرضه، وأخبره أنه ينهك قواه العقلية كثيراً، وأنه معرض للإصابة بهذا المرض إذا لم يتحفظ منه، فأجابه الإمام على الفور: وكيف التحفظ منه وأنت ترى حالة المسلمين فى الشرق والغرب تستدعى الكثير من التفكير، وأنا اخشى ان يأتينى الحين[2] وأنا لم أضع دواءً ناجعاً لهذه الأمراض الاجتماعية التى توشك أن تودى بهذا المجتمع إلى التهلكة. أنت تحذرنى مما يجب على أداؤه، ولقد قمت به أنت لى، فكيف لا أقوم به لغيرى ممن هو أحوج إليه منى؟
ولم تمض بضعة أسابيع حتى أخبر الإمام وهو جالس يلقى درسه أن الإيطاليين ألقوا بالمسلمين من الطائرات ولا سيما المجاهدين فى ليبيا، فغضب الإمام غضباً شديداً وحزن حزناً بالغاً وشرع يملى إحدى قصائده وقد غمره الإنفعال بما أخبر به، وبدت عليه فى الحال آثار ما نزل به من مرض، وثقلت يده ورجله على أثر جلطة دموية ألمت به.
وقد صدر أول خبر عن حالة الإمام الصحية فى العدد السادس من السنة الأولى والصادر فى شهر المحرم 1346هـ من المدينة المنورة مجلة السعادة الأبدية ص 44 تحت عنوان عجل الله الشفاء، حيث يقول الخبر:
ألم بفضيلة مولانا السيد محمد ماضى أبو العزائم مرض بسيط فى أوائل هذا الشهر، وكان عقب إجهاد فكره واستغراق ليله ونهاره فى العمل لخير المسلمين فى هذا الظرف العصيب الذى تكالبت فيه عليهم أمم الغرب، فنجم عن هذا الإجهاد الذى لا يقوى عليه الجسم فى مثل هذا السن ضغط دموى على القلب. ولما شعر فضيلة السيد بمبادىء المرض استقل سيارته إلى الدكتور الشهير محمود عبد الوهاب، فأشار على فضيلته بالتماس الراحة التامة والكف عن التفكير والجهد. وفى اليوم الثانى عاده من الأطباء الدكتور عبد العزيز إسماعيل والدكتور إسكندر الجرجاوى والدكتور محمود معاذ والدكتور محمد بك النجار كدوائى والطبيب الفرنسى الشهير كاركولو، وقد اتفقت آراؤهم جميعاً على التزام السكينة والراحة التامة والبعد عن كل المؤثرات. ومع ما أشار به علينا فضيلة السيد من تكتم الخبر لئلا تنزعج القلوب، فقد انتشر الخبر، وتقاطر على دار آل العزائم الوفود من سائر أنحاء القطر المصرى للاستفسار عن صحة هذا السيد المحبوب لما له فى قلوب من عرفوه من المكانة السامية والمحبة الخالصة. ونحن نبشر جميع إخواننا من حضر منهم ومن لم يحضر أن صحة مولانا السيد قد تحسنت كثيراً والحمد لله، وأنه يسير الآن نحو العافية بخطواط سريعة. عجل الله لفضيلته الشفاء وألبسه ثوب العافية القشيب.
وبالرغم من وجوده رضى الله عنه فى فراش المرض، ورغم قرار الأطباء له بلزوم الراحة والسكون، ورغم إلحاح كبار الأطباء وعظماء الزوار عليه ألا يشغل باله بأمر من الأمور خصوصاً ما فيه إجهاد الفكر والعقل، فلم تمض أيام على مرضه إلا وقت أبت نفسه العالية وروحه الفياضة بالحكمة والعرفان وعزيمته القوية وقلبه المفعم بالآمال لخير الإسلام والمسلمين إلا أن يكون مجاهداً فى كل نفس من أنفاسه، أبى فضيلته إلا أن يقضى كل أوقاته فيما يعود على المجتمع الإسلامى بالخير العام، فخرج يحمله بعض خواصه إلى الزاوية للاستمرار فى حلقاته المتوالية لتفسير القرآن الكريم.
وما أن جاء يوم الجمعة 21 صفر إلا وتشرف وفد لجنة الخلافة الإسلامية بالدقى بزيارة دار آل العزائم للأستفسار والسؤال عن صحة الإمام وهو رئيس جماعة الخلافة بوادى النيل. ونزل الإمام إلى الزاوية إلى أن انتهى إلى مجلسه الخاص ثم طلب المصحف الكريم، فتلى مقرئه الخاص الشيخ مفتاح زيدان عليه قول الله تعالى: (ألم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [3]، فشرح الآية كعادته بأسلوب جميل على قدر ما سمح المجلس، وأحس خاصته بتعبه وإجهاده، فالتمسوا منه رحمة به وشفقة عليه أن يعود إلى حجرته الخاصة، فاستأذن الإمام من الحاضرين طلباً للراحة فى جو هادىء، وإجابة لملتمس تلاميذه بالواسطى، توجه الإمام إليها بالقطار وسط حفاوة وتوديع الكل له. وكان بالقطارنخبة من الوجهاء وبعض رجال القضاء والموظفين، ولم يكن بينهم بالطبع من يجهل فضيلة السيد ولا مكانته الدينية فى المجتمع، وكانوا جميعاً ملتفين حوله وهو مقبل عليهم يحدثهم بأحديثه الدينيه العذبه. وأثناء الحديث ساله أحدهم عن رأى فضيلته فى الحاله الحاضرة فى مصر فأجاب بالآتى [4] :
إن أملنا فى الله تعالى يملأ قلوبنا ويبعث فى نفوسنا قوة التفائل بما فى المستقبل من سعادة مصر وخيرها. إن الأمة الآن فى أشد الحاجة إلى التمسك بالدين والرجوع إلى ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، ولا أقصد بالرجوع التأخر والإنحطاط، وإنما أعنى به إحياء ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، ولا أقصد بالرجوع التأخر والانحطاط، وإنما أعنى إحياء ما كان لسلفنا من مجد وتمكين لم يصلوا إليه إلا باتحاد قلوبهم على نصرة الحق وإعلاء كلمة الله. إنهم ينشأوا ملوكاً ولا قادة، بل كانوا قبل الإسلام وحوشاً غلاظاً، فلما تلقوا الحرية من القرآن الكريم لم يروا فوقهم إلا الله تعالى، فقاموا بقلوب تلتهب غيرة، وصدور تفيض إيماناً وعقيدة، ففتحوا نصف العالم تقريباً، وتغلغلوا فى قلب أوروبا وآسيا بل ووصلوا إلى أمريكا الشمالية، فقد اكتشفوا من آثارهم عند بوغاز بهرنج حجراً مرسوماً عليه دائرة منطقة فلك البروج، كل ذلك سببه التمسك بروح الدين الذى جعل الجهاد فى سبيل الحق من أقدس الواجبات، لا تحسبوا ان ديننا الحنيف يدعوا إلى الرجعية أو الجمود، أو يقف بمعتنقيه عند حد الأحكام والعبادات وما يليهما .. إن الذى يحكم على الدين الذى يمثلون هذا إنما هو جاهل بحكمته ناكب عن سبيله ومقصده.
إن القرآن الكريم مملوء بالحث على تعلم الصناعات والعلوم والفنون واستخراج كنوز السموات والأرض، ولا أدل على ذلك من تاريخ أسلافنا المجيد، فإنهم لما آخذوا بتعاليم القرآن وتفهموا روح الدين وحكمته قاموا فملأوا الأرض علماً ونوراً وعدلاً، فالفوا المجلدات الضخمة فى مختلف العلوم، ونشروا الصناعات والفنون، وعرفوا كيف يسوسون ممالكهم الواسعة بالقسط والمساواة . ولقد سرنى انتخاب مصطفى النحاس باشا لرئاسة الوفد فى عهد الوزارة الحاضرة التى يرأسها صاحب الدولة ثروت باشا، وهو الرجل الذى عرف الحكمة والكفاءة مع ميله إلى الدين وأهله، وتجمع وزارته رجال الغيرة والجهاد فى سبيل الدين والوطن أمثال محمد باشا محمود وأحمد باشا خشبه وعلى باشا الشمسى ونجيب باشا الغربلى وغيرهم.
ثم استطرد فضيلته متكلماً عن الحالة الاقتصادية، ثم قال: إن أساس نهضة الأمة يقوم بالدين أولاً وبالذات ثم بالثروة. وثروة البلاد تنحصر فى حاصلاتها الزراعية التى من أهمها القطن. فوصيتى إليكم أن تحافظوا على هذه الثروة، وأن تهتموا أعظم الإهتمام بتنميتها والعمل على إعلاء شأنها والاحتياط فى بيعها وتصريفها من دسائس التجار.
ثم ختم كلامه رضى الله عنه بالحث على التمسك بالسنة ونبذ البدع والعناية بتربية النشء وتغذيتهم بما يجعل منهم رجالاً صالحين للعمل لدينهم ووطنهم وأهلهم.
وكان القطار قد دنا من الواسطى، فودعه الجالسون فى لهفة وأسف. وما أن توقف القطار حتى اندفعت جماهير المستقبلين كأنها السيل، واستقل فضيلته السيارة وجماهير المستقبلين تتبعه حتى وصل الركب إلى سراى شاكر بك المهندس الواقعه على ضفاف النيل التى أعدها آل العزائم بالواسطى لنزول فضيلته. وقد أقيم تجاهها سرادق فخم لاستقبال زواره من نواحى الواسطى والفيوم وبنى سويف. وظل فضيلة السيد يستقبل كل تلك الوفود بما عرف عنه من رقة ووداعة يمتزجان دائماً فى أحاديثه الدينية وعظاته العالية. والحق أن سيادته كريم بقدر ما هو حكيم، إذ لم تثنه تعليمات الأطباء وتشديد خاصته بالتزام الراحة التامة عن أن يلقى على كل زائر ما يناسبه من حكمة وموعظة حسنة وقد انتقشت كلماته على قلوبهم ولهجت بالثناء ألسنتهم.
ومع اقتراب ذكرى الإسراء والمعراج، زاره سمو سلطان حضرموت ومعه ولى عهده ووزير خارجيته الذى بقى لحضور الاحتفال . وأثناء لقاء الإمام بالسلطان، ألقى سيادته درساً فى أخلاق الملوك والسلاطين العاملين بكتاب الله وسنة رسوله وما أعد لهم فى جنات الخلد، والفائدة التى تعود على تعارف الشعوب الشرقية ببعضها، وما تنتجه الرابطة، وذلك بأسلوب حكيم جذب هذا السلطان حتى إنه كان يقبل يدى السيد بين آونه وأخرى قائلاً: إن هذا هو الفرد الذى شاهدت فيه العمل بكتاب الله وسنة رسوله.
وقد ألقى نائبه خطبة فى الإحتفال بالذكرى عدد فيها صفات الإمام، ومما قاله: لست بمبالغ إن قلت إن هذا هو وارث حضرة المصطفى صلوات الله عليه أخلاقاً وأعمالاً وأحوالاً، ولو كان هذا فى بلادنا لكان فوق الملوك قدراً، ولن تنال الأمة خيراً إذا لم تجتمع حول هذا القلب الرحمانى الذى إذا أقسم على الله لأبره... إلى آخر حديثه.
ثم القى الإمام درساً فى الإسراء والمعراج أنصت له الكل وكأن على رءوسهم الطير، حيث طوف بأرواحهم فى بيان آية الإسراء والمعراج، وقد نشر ذلك بالتفصيل فى جريدة الأهرام (21/1/1928) تحت عنوان (ليلة المعراج) ، وجريدة السياسة (24/1/1928) تحت عنوان (سلطان حضرموت: تناوله طعام العشاء على مائدة حضرة الأستاذ الشيخ محمد ماضى أبو العزائم) ، وجريدة مصر (25/1/1928) تحت عنوان (سلطان حضرموت) ، فارجع إليه إن شئت.
وبعد عام على مرضه جاء موعد الإحتفال بذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكعادته فى كل عام تناول بالشرح سورة الكوثر مبيناً ما فيها من الأسرار، ورذاذاً من مقامات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القلوب المشرقة بأنوار علام الغيوب، واستغرق فى بيانه حتى أصابه الإرهاق الشديد، فخشى عليه خاصة تلاميذه وطلبوا منه أن يستريح.
ولما بلغه رضى الله عنه نبأ قتل الإيطاليين للمناضل الليبى الكبير عمر المختار، وإن موسولينى يدعى أنه حامى حمى الإسلام، وكان الإمام مريضاً لا يستطيع القيام، طلب من مرافقيه أن يجلسوه فى سريره، وألقى القصيدة التالية: وطلب أن ترسل إلى موسولينى:
يا وحش روما[5] تأدب
فلست كسرى وقيصر
وطعنة القهـر تأتى
وأنت كالثوب تنشـر[6]
كبير لندن [7] فاحذر
فالله ربـك أكبـر
وطعنـة القهـر تاتى
من حيث لا تتصور
الله ربـى غيـور
فاحـذر يغـار فتقهر
وكيف يرضـى إلهى
بالظلم يعلو ويظهر ؟
أغار ربى تعالى
على العبـاد وأنذر
فســارعوا بمتاب
يا آل كسرى وقيصر
أولى بأمر عصيب
والعبد [8] أوصى وحذر
وصيتـى فاقبلـوها
أنا لا أرد المقدر
عيسـى أتـى بسـلام
نعمـة الله تشـكر
أعطيتموا الملك فضلاً
وفضـل ربى يذكر
كفرتمــو بإلــه
ذوالعرش بالعدل يظهر
توبـوا إليـه أنيبـوا
فقهـره ليس ينكـر
وكم أزل ظلوماً
لما طغى وتكبر
ومع شدة المرض وزيادة وطأته، كان رضى الله عنه حريصاً على مجالسة إخوانه، وكثيراً ما كان ينتقل من مكان إلى مكان متكئاً على عصا أو محمولاً من خاصة تلاميذه، وكان يفتتح مجالس الذكر جالساً، ثم يشتد به الحال فيذكر الله قائماً فينسيه ذكر الله ما ألم به حيث ترجم ذلك منشداً:
يا ذكر قد أنسيتنى شيخوختى
وألحت لى يا ذكر أسرار العيان
وخلال سنوات مرضه تلك التى سبقت انتقاله إلى جوار ربه، مرضت زوجته السيدة (منتهى طلبه) مرضاً أقعدها عن خدمته، فاحتاج إلى زوجه أخرى تعينه وتخدمه، فتزوج السيدة (لبيبه محمود سلامة) التى توفيت أثناء حملها ولذلك سماها الإمام أم شفيع، ثم تزوج رضى الله عنه بالسيدة (عزيزة السماحى) من البرلس وهى آخر زوجاته.
وفى عام 1354 هجرية (1935ميلادية) استخرج الإمام تصريحاً رسمياً من وزارة الداخلية لبناء المدفن الخاص به فى نفس مقر سكنه وبالتحديد فى غرفته الكبيرة [9] التى تطل على الزاوية، وحفرت بها الروضة التى سيدفن فيها، وكان قد تم بنائها قبل ذلك (شهر رجب 1348) فى نفس المكان، وهى بطول 3.5 وعرض 2.8 متراً وتسع لفردين.
وفى أواخر شهر المحرم من عام 1354هـ اشتد به المرض، فلاذ به أهل محبته الخاصة من تلاميذه، وانفض من حوله إجلاسه، ولكنه رفض وجلس رغم مرضه الشديد وبدون مساعدة أحد، فأنشد رضى الله عنه يقول:
رجل بألف رجل كيف لا يقوى الجلوس
وهو الممد وقدره فوق النفوس
الجاهلون بقــدره من حولـه
باعـوه فى سـقم بأبخاس الفلوس
لو أنهم علموا به فى سقمه
لرأوه أعلى من دروس من شموس
باعوه بيعة زاهد جهـلاً بـه
لو قدروا وضعوه من فوق الرءوس
كنت الرحيم بطفلهم وكبيـرهم
حتى سقيتهم الطهور بلا كئوس
وبرغم اشتداد المرض عليه، فقد كان يحضر الحضرة ويلقى قصيدة الذكر ثم يعطى الدرس للإخوان ويصعد إلى غرفته لراحة قليلة، ومره جاءه بعض الإخوان أثناء راحته فقرأوا الصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل بداية الذكر وإذا بالإمام يخرج عليهم كى لا يحرمهم من ذكره معهم وأنشد قائلاً:
بحالكمو جددتمو حالى القديم وأشجانى
فرفقاً بحال سقيم فالسـقم أضنانى
فإنى لا أقوى على الحال إخواتى
وحالى على فوق جسمى وأركانى
تحملت حالكمو مع السـقم والضنا
ومن يحملن حالى ؟ وحالى روحانى
أريحوا فتى فى ثورة السقم والضنا
يروح من الأذكـا ر فى القـرآن
سلام عليكم من حبيب مقـرب
ســرى فدنــا للواحــد الديان [10]
وكان البعض منهم يظن أن الإمام لمرضه قل إدراكه وذلك لعدم كلامه فترة، فنادى الإمام أحد أتباعه- وكان ذلك فى البرلس- وقال له: يا بنى إن البرلس قد أخذت منى قسطاً وفيراً ويجب عليه الشكر لله، وقد أمليت هنا قصيدة تشير إلى معانى الشكر فهل تعرفها؟ قال: نعم. وقالها:
إن كان شكرك فرضاً
فمن يقوم بشكرك؟
أنت الشـكور إلهى
بالفضـل وفق لذكرك
الشـاكرون عبـاد
لن يدركوا سر قدرك
وشـكرهم لك نعمـى
واليتهـم من خيـرك
قد يوجب الشكر فرضاً
عليهمو سـر أمرك
فاشـكر إلهـى عنـا
نعمـاك فضـلاً ببرك
إنـا عجـزنا جميعـاً
عن أن نقوم بشـكرك
فقال الإمام له أكمل، فقال: إن هذا آخرها وقد أمليتها علينا سبعة أبيات، فقال له الإمام: اكتب:
والعجز حمد وشكر
والعبد قد صار يدرك
وفى عام 1355 هجرية، أى قبل الانتقال بسنة بالضبط، وفى المناسبة السنوية
للاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وكما هو معتاد فقد كان من المقرر أن يلقى الإمام كلمته فى السرادق المعد، ولكن لم يتمكن الإمام من ذلك لظروفه الصحية، وظل فى غرفته، وأناب أحد أبنائه لإلقاء كلمته، وكان هناك أخ سيلقى كلمة بمناسبة الاحتفال أمام الإمام ، فلما علم أن الإمام لن يستطيع الحضور لمرضه قرر أن لايلقيها. وفجأه وجد أن الإمام يستدعيه فتوجه إلى غرفة نومه، وطلب منه أن يلقى كلمته أمامه وهو فى سرير مرضه فى خلوته. وبعد الفراغ من إلقاء الكلمة قال له الإمام: لقد سمعتها، فلابد أن يسمعها الناس، وأنا معك فى الصيوان كما أنا معك الآن، هيا يا ولدى ولا تبخل بما آتاك الله من فضله. وهذا هو نص الخطاب [11] :
سيدى ومولاى.. سادتى:
قف على الروض ياحمام وغرد
وأشـد باللحن فى سماك وردد
قل تعالى المحيي المعز تعالى
باعث الروح بالجمال المخلد
مظهر الله في الشـفاء عظيم
يا مفيض الشـفاء إياك نعبد
ذاك عيد الأفراح عيد التهاني [12]
إذ تجلى المعيد أحيا وجدد
أيهـا القـوم عاد ماض إلينا
عاد بالروح والكيان محـمد
وبعد أن قدم لحديثه... قال:
إخوانى.. كثير على أن أقف الليله مثل هذا الموقف الرهيب، أقف أمام من علم وأتكلم!! ، واقف بين يديه وأنا موطنى تحت قدميه، وأظهر حيث كنت أوثر أن أختفى، ولكنها روح علية ونفخة قوية سرت فى دمى ولحمى وتفجرت من قلبى على فمى وقالت لى: هذه الليله عيدنا فتقدم وقف وتكلم وسبح بحمد ربك الأكرم الذى علم الإنسان مالم يعلم.
ما أجمل نعمتك يا الله، لقد كنت فى إبلائك عظيماً بقدر ما تجليت فى عطائك كريماً، أبليت ثم أعطيت، وأمرضت ثم شفيت، وأنت فى هذا وذاك أنت، ولكن أبيت إلا أن تختفى وراء أسمائك وصفاتك، وتتنكر خلف أسبابك وآياتك، لتميز بين عبادك وتبلو قلوب أوليائك، ولتدع العقول حيرى تتخبط فى محيط الأسباب وتضل ظلمات الأوهام حتى إذا طلعت عليها شمس قدرتك فأذابت الحجب وأشرقت من غير سبب، هتفت باسمك الأرواح وسجدت لعظمتك العقول، ونادى كل: سبحانك إنى كنت من الظالمين.
سادتى وإخواتى: لقد كنتم تجتمعون فى مثل هذه الليلة من كل عام لتحتفلوا بذكرى الإسراء ، ولتحيوا ليل هذا العيد الذى أسرى الله فيه بحبييه صلوات الله وسلامه عليه إليه وأراه من آياته وأسمعه لذيذ مناجاته وكشف له الحجاب عن وجهه الجميل. أما الليلة فقد شاءت عناية الله أن تجمع لنا بين عيد سعيد وعيد جديد، بين عيد الإسراء وعيد الشفاء، بل بين عيدين الإسراء معاً، فلقد كانت الروح العلوية سارية فى شهود عيد الإسراء، ولاحتبس عنا غيث السماء، فشروق هذه الطلعة فين شروق لشمس الإسراء، واحتفالنا بشفاء هذا الجالس بيننا هو احتفال بليلة الذكرى، إذ لولاه لما اجتمعنا هذه الليلة ولولاه لما شهدنا جمالها ولا ذقنا خمر شرابها ولا سعدنا بها.
من أجل هذا ما أضفاه الله على تلك الليله من حلل السرورو أولويه النور، وتحسون أن الفرح بها فرح مزدوج،والابتهاج فيها شامل كامل، وكيف لا وقد امتزجت نشوة الذكر بنشوة الشكر، ولئن كان الشكرموعوداً من الله بالمزيد فليس بعجيب أن يهبط علينا عيد الإسلاء ومعه عيد.
سيدى ومولاى : لقد كان لى شرف الحظوة بمعيتك الذاتية خمسة عشر عاماَ أو يزيد ، شهدت فيها من آيات معرفتك ومن كمال عبوديتك لله ما هذب نفسى وأذهلنى عن وجودى وحسى . ولقد صحبتك فى السفر والحضر وفى الخلوة والمجتمع ، وكنت تحت أقدامك فى ميدان السياسة وحلبة الدين ، وبيدى هذه لقد كتبت عنك ما كنت تثيره فى صحف العالم من حرب على طغاة المستعمرين ، وشهدت الدنيا بمالها وزخرفها وجاهها تحبو إليك وأنت تركلها بقدميك ، وأشهد أنك كنت فى كل طور من أطوارك مثلاَ أعلى للعبودية الكاملة وعنواناَ صادقاَ على التضحية والفناء فى محبة الله . ولكن هذا الطور الأخير كان شيئاَ آخر يختلف عن كل ما شهدت ويسمو على كل ما عرفت ، لقد كنت تناجى الله فى خوف الليل مناجاة تنخلع لها الصدور وينفجر من ثناياها النور ، وكنت المثل الأعلى للصبر والرضا والاحتمال . تعلمنا – حتى فى هذا الموطن الذى ينسى المرء فيه كل شئ – كيف يكون الرضا عن القضاء والأنس بالله فى البلاء ، كنت تسبح وتقدس وتشكر على ألم الداء ومرارة الدواء .
انظروا كيف كان وهو فى سقمه أطال الله حياته ، يتملكه هم المسلمين فيعلو فى همه بنفسه ويشغله عن التفكير فى صحته ، كأنما قد تحلل العالم الإسلامى بأسره فى شخصه ، وأصبحت أمم المسلمين أعضاء فى جسده لا تشاك منها أمة بشوكة إلا وجد ألمها وشاركها همها وقام يناضل عنها ويدعو الله من أجلها .
هذه حالة إخواننا المسلمين فى سوريا وفلسطين وغيرهما ، هل شغله عنها سقمه أو أغفله عن الجهاد ألمه ؟ لا والله .. وإنى لموقن أن هذا الانتصار الذى أحرزه المجاهدون من المسلمين فى صد غارات المستعمرين إنما هو قبس من نور هذا القلب الذى يبيت يناجى ربه فى ظلمات الليل : يارب أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين .
وإليكم بضعة أبيات رقيقة من مقطوعة جفرية أملاها على رضى الله عنه قبل أن تعلن الحرب فى الحبشة يتوجه إلى الله ضارعاَ أن يمحق الظلم وأهله ، ويتميز غيرة وألماَ لتحكم هؤلاء الطغاة فى الأرض بغير الحق . ولو سألتمونى رأبى لقلت أن تلك الثورات المشتعلة فى كل مكان قد انفجر ت من بين هذه الأبيات :
يا وحش روما[13] تأدب
فلست كسرى وقيصر
وطعنة القهـر تأتى
وأنت كالثوب تنشـر[14]
كبير لندن [15] فاحذر
فالله ربـك أكبـر
أيها السادة : ولقد أرانى هذا الطور الأخير مالم أكن رأيت ، وعلمنى من تلك الذات مالم أكن أعلم . وكنت أود أن أطيل فى هذا الصدد ، ولكن جمال هذا العيد قد طغى على جلال العلم والشهود . وقد أذهلتنى نشوة الفرح عن كل ما شهدت وعلمت .
سيدى ومولاى : لم يبق إلا شئ واحد هو الذى يحز فى صدرى ويملأ قلبى ألماَ ونفسى ندماَ : ذلك أنك وفيت لنا كل الوفاء ونحن لم نستطيع أن نوفى لك بعض فضلك ولا أن نقوم بذرة من شكرك أو شكر الله على نعمته علينا بك ، بل ليس فينا من يستطيع أن يرفع وجهه ليطيل النظر إلى وجهك المتلألئ الجميل دون لأن تصبغه حمرة الخجل وتحتبس فى عينه دموع الندم ، لقد كان هذا الطور الأخير محنة لنا وفتنة . ولقد سنحت لنا فرصة كنا نستطيع فيها لو وفقنا الله أن نقيم الحجة على صدق الدعوى وحسن الاتباع ، ولقد كان أدنى ما تستحق منا أن نبذل فى سبيلك النفس والنفيس وأن نوصل على أعتابك الليل بالنهار ، ولكن عجزنا عن الوفاء لك هو شفيعنا اليوم إليك ، ولا زلت يا سيدى أهلاَ للإحسان ولا زلنا أهلاَ للإساءة ، لئن كانت شيمتنا الذنوب فإن شيمتك ستر العيوب والأخذ بيد العاثر القاصر ، وإن فرحتنا بشفائك هى عزاء حسرتنا على التقصير معك ، فتجاوز يا سيدى عن جهد المقل فأنت للعفو والحنانة أهل . والله نسأل أن يعيد علينا هذا العيد السعيد ومثله معه ونحن فى ظل هذه الدوحة الوريف من ثمارها ونسبح فى أنوارها ، وأن يجعلنا يا سيدى من أهل معيتك يوم يظهر الله بك دينه على الدين كله .. إنه سميع مجيب .
وقبل الوفاة بحوالى ثلاثة شهور ، توجه الإمام إلأى مسجد سيدى زغلول برشيد ( يوم الأحد 19 ربيع الآخر 1356هـ ) وصلى كثيراَ ، ثم زار المقام ، ووقف فى المكان الذى ولد فيه منذ حوالى سبعين عاماَ قمرياَ عندما زارت المقام أمه وهى حامل فيه ثم فاجأها المخاض وولدته . لقد اشتاق الإمام إلى مكان ولادته ليشاهد معانى وجوده وفضل الله عليه طوال سبعين عاماَ ، ثم سلم على أبيه وسلم على أمه من هذا المكان اعترافاَ بفضل الله عليهما فى إبرازه للحياة ، وألقى هذه القصيدة فى مقام المواجهة والحضور فقال :
هنا استحضرى روحى افتتاح وجودى
لدى ولدتنى الأم .. بدء ورودى
بمسـجد زغلول ولدت وها أنا
وبعـد مشيبي جئـت للجديـد
أزور مكان ولادتى بعد شيبـتى
وأسـأل ربـى مبدئـى ومعيـدى
جمال العطايا فى مشيبى ولاية
أنـال بهـا الزلفى لدى تفريدى
بمسجـد زغلول حضرت لأجتلى
معانى وجودى حال فك قيودى
سلام على أمى ، سلام على أبى
أنلنى إلهى الكشف حال شهودى
أيا رب أشهدني وكـل أحبتي
جـمالك يا وهـاب جـود ودود
بأرض رشيد عند زغلول لاح لى
جمال افتتاح البدء حال ورودى
تذكرت بدئي بعد سـبعين حجة
فشـاهدت أطواري وصح وجودي
كأنى طفل بعد سبعين قد مضت
من العمر هب لى ياولى قصودى
أنلنـا العطايـا واسـعات إلهنـا
أدر لى الصفا من حوضك المورود
جوار رسـول الله أكمل مرسل
وأهلـى وأحبـابى وكـل مـريد
وسـيلتنا طـه الشفـيع محـمد
أدار علينـا خمـرة التوحـيد
وكان الإمام رضى الله عنه قد أملى فى جموع الإخوان جملة من الوصايا ، أحس الجميع منها بقرب مفارقته للدنيا ، وقد تأثر إخوانه أيما تأثر عندما خاطبهم متمثلاَ قول الإمام الغزالى [16] رضى الله عنه :
قل لإخوان يرونى ميتاَ
ليس والله بالميت أنــا
انا عصفور وهذا قفصي
طرت منه إلى دار الهنا
لا تظنوا الموت موتاَ إنه
لحياة وهو غايات المنى
لا ترعكم هجمة الموت فما
هو إلا نقلة من ها هنا
ثم أخذ يلاطفهم برحمته المعهودة ويواليهم بعظاته ويسرى عنهم ما ألم بهم .
وأثناء تواجده بمنزل الأخ محمد عبد ربه بالاسكندرية قبل الوفاة بشهر ، أملى رضى الله عنه :
مولاى أٍسرع بى إلى الوجـه
إنى فنيت عن الأولا د والأهل
إنى فنيت عن الدنيا ولازمها
وعن بنيها ، عن الأولاد ،عن أهلى
مولاى أنت ولى والوكيل فكن
عوناَ لهم ، يسرن لى سيدى سؤلى
مولاى فاغفر لى ذنبى وأكرمن
بالعفو وارحم عبيداَ جاء بالذل
منى سلام على أهلي على ولدى
أستودع الله من أبقيت بالفعل
وزج بى فى رياض القدس مشرقة
أنوار وجهك بالغفران والوصل
منى عليهم سـلام الله أسـأله
يعطيهمو خيره فى الفعل والقول
عقوا الأبوة فاغفر سيدى لهمو
وخذ عبيدك للجنات فى سهـل
الـدار دار غرور كلهـا ألأم [17]
قد تبت فاغفر لى يا واسع الفضل
مختار ريحانتى مهدية بنتى [18]
أرجو لها وله من فضله الكلى
كونوا مع الله فى أدواركم فعسى
أن تمنحوا فضله بالحول والطول
يارب صل على المختار سـيدنا
فى القبر وسع لى واجعل به وصلى
وعندما استشعر رضى الله عنه شدة المرض ودنو الأجل وقرب ساعة الرحيل إلى الرفيق الأعلى ، أمر الإمام أن تفتح خزانته ، وأخرج كل ما فيها من نقود ، ووزعها على أولاده وأهله وذوى رحمه ولم يبق منها شئ لأنه لا يريد أن يخرج من الدنيا وفى بيته شئ منها تأسياَ بالنبى صلى الله عليه وسلم فى إخراج ما فى بيته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى عندما كان آخر عهده بالدنيا ، ثم نقل الإمام إلى (( مستشفى بابا ينى )) بالدقى صباح يوم الأحد الموافق 26 رجب 1356هـ حيث أجريت جراحة لتوسيع مجرى البول وخرج الأطباء على إثرها مستبشرين ، وكان ولده الأكبر السيد أحمد ماضى أبو العزائم ملازماَ له .
وبعد فجر يوم الاثنين 27 رجب 1356 هـ كان الإمام نائماَ فى سريره ، فلما تحرك أسرع السيد أحمد ماضى أبو العزائم إليه وقبل يده ، فقال الإمام له : لا تنزعج يا ولدى .. أنا مع الأحبة ، يا ولدى : اعطى فلاناَ كذا .. واجعل مختار ومهدية فى عينيك .. ثم توجه لأعلى جهة اليمين رافعاَ يديه قائلاَ : مرحباَ برسول الله .. مرحباَ برسول الله .. مرحباَ بقضاء الله ، ثم هم ليقوم وكأنه يقبل شخصاَ فتدلت يديه إلى جواره ، وهنا تحقق نجله من نزول القضاء ، وصعدت روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى بعد حياة امتلأت بالجهاد لم يهدأ له فيها بال نشر فيها العلم بلسانه وقلمه ونافح عن الإسلام وترك من ورائه تراثاَ فكرياَ ومدرسة رائدة فى الدعوة إلى الله لا يزال نورها يملأ الأفق .
وما أن ذاع الخبر حتى أقبل أبناؤه وتلاميذه وأحباؤه يهرعون من كل صوب ، ونظروا إلى الإمام نظرة أخيرة ، وفى الساعة الحادية عشرة صباحاَ نقل الإمام إلى سراى آل العزائم بالحنفى مسجى على سريره فى حجرته الخاصة التى أعد فيها روضته من قبل .
وفى الساعة الثالثة بعد الظهر نودى لصلاة الجنازة ، وتقدم نجل الإمام الأكبر السيد أحمد ماضى أبو العزائم لصلاة الجنازة ، وألحد الإمام فى روضته.
وهذا ما شاء الدائم الذى له الخلق والأمر ، دعا الإمام إليه بعد أن أدى الأمانة وقام بالتكليف وأرسى القواعد وشيد البنيان وترك الأبناء والأحباب والمريدين على الصفاء والوفاء والمحبة ، واستودعهم ذخيرة لا تنفذ من العلوم النافعة والسيرة الزكية العطرة ، وتلك سنة الله فى خلقه ورسله ، قال تعالى :
( سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراَ مقدورا ) [19].
ثم أذن لصلاة العصر ، وبعد أداء الصلاة أقيمت الحضرة ، ووقف الشيخ عبد الباسط القاضى [20] وقال :
يا آل العزائم ، يا آل العزائم ، يا آل العزائم : إن آل العزائم جميعاَ كانوا يخشون هذا اليوم وكانوا يعملون له ألف حساب ، وكان كل فرد من آل العزائم يحب من صميم فؤاده أن يسبق هذا اليوم إلى الدار الآخرة ويكون الإمام الوارث مشيعاَ له إلى مقره لا مشيعاَ ، ولكن الأجل المحتوم والقضاء السابق قضى علينا أن نكتوى بناره وأن تستعر قلوبنا بجحيمه ، ووالله لولا سكينة من الله ألقاها وتمكن الإمام فى مقام العبدية حياَ فى الدنيا وحياَ فى برزخ القرب الإلهى لصعقت أرواح الكثير منا وللحق به فى هذا اليوم العدد الوافر ، ولكن المواهب الحنانية والرحمة العزمية التى غمرنا بها الزمن الطويل لم تزل توالينا ، ولم يزل نور عطفه ولطفه ووده من حوضه يسقينا ، وشمسه أبداَ مشرقة علينا ، وأمثلته فى كل شعب وواد وصوره التى صورها له الحق إكراماَ فى الكرة الأرضية لا حصر لها ، والنفوس التى زكاها بعلمه وعمله وحاله ظاهرة للعيان لا تخفى إلا على من أعماه الهوى وأبعده الحظ والحياة الدنيا ، وكيف لا يكون المثال محفوظ والإمام قد أدى الأمانة وبلغ ما والاه به مولاه . فها هو يا آل العزائم كوكب شمسه أمامكم ودرة كنزه صوبكم : نجله الأكبر ونائبه الذى اخترتموه فى حياة الوارث وأقركم على ذلك رضى الله عنه . فهيا اليوم فبايعوه وأجمعوا أمركم وسيروا فى طريق إمامكم واعلموا أن الله وليكم وناصركم والمدد واصل إليكم ، لأن العطايا الإلهية والمواهب الأحمدية التى كان منها يمدكم لم تزل أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وقد بينها رضى الله عنه ووضحها حتى أصبحت تحس وتجس وكتب عنها نظماَ ونثراَ إجمالاَ وتفصيلاَ قال : إذا زكت النفوس فهى كالشموس ، وإذا صفت القلوب واجهت علام الغيوب ، وقال واصفاَ لنور المصطفى ومعرفاَ :
لا يغيب النور عن أهل اليقين
كيف ذا والنور فى الأفق المبين
نورنـا شمس علت تدعو إلى
ربنا المعبود مولانا المتيـن
لم تغب شمس الحبيب محـمد
وهى نور الروح فوقى عن يمين
من يقل غابت فذاك لحجبـه
كيف يخفى نور رب العالمين؟
شمسـنا طه الحبيب المصطفى
لم تغب يا طالب الحق اليقين
نورتنا الشمس أصبح نورهـا
مشـرقاَ في كل فرد في أمين
ربنـا آنس بنـورك روحنـا
كي نرى النور بعين المستبين
فى حضور فى غياب لم تغب
شمسنا والشمس غابت عن ضنين
أينما كانت يعـم ضيـاؤهـا
تشـهدنها الروح فى عين اليقين
ولكن لابد للهيكل من رمز ومظهر . وقد أقام سيدى ومولاى السيد محمد ماضى أبو العزائم رمزه الجسمانى ومظهره فى الأمانة وفرعه الأكبر والجميع عنه راضون : السيد أحمد ماضى أبو العزائم وإنى أشهد الله ورسوله ومولاى السيد أبو العزائم أنى فى هذا اليوم بايعت من أقامه مولاى نائباَ وفاء لولى نعمتى ومربى روحى ومنقذى من الضلالة إلى الهدى ، إنى أبايعه على كتاب الله وسنة رسول الله التى بايعنا عليها وعلى القيام بأوامر الإمام وبتنفيذ تعاليمه ، وإنى لا أملك إلا نفسى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، فمن شاء أن يوفى لمولانا وأستاذنا بالعهد ويحفظ له البيعة فليتقدم .
وهنا تزاحم الإخوان على تقبيل يد السيد أحمد ماضى أبى العزائم ومبايعته خليفة لوالده رضى الله عنهما بقلوب مفعمة من البكاء حزناَ وألماَ على هذا السيد الأكبر ، وفرحاَ وسروراَ فى الآونة على هذه التولية التى نالت من قلوب الجميع مكاناَ سامياَ له قيمته عند الإمام العارف .
[1] مرض الشلل.
[2] الموت.
[3] سورة العنكبوت آية 1، 2 .
[4] مجلة السعادة الأبدية.
[5] إشارو إلى موسولينى.
[6] وقد تم تعليق موسولينى وأعدموه رمياً بالرصاص، كما يعلق الثوب من اسفله.
[7] إشارة إلى جورج الخامس ملك إنجلترا.
[8] إشارة إلى الإمام.
[9]وهى بطول 9.7 وعرض 7.5 متراً. وهى تمثل الآن جزءاً من المسجد.
[10] قالها رضى الله عنه فى 26 رجب 1354.
[11] مجلة (المدينة المنورة) السنة 9 العدد 10 (7 شعبان 1355هـ الموافق 23 أكتوبر 1936م) . المقاله بإمضاء ن.م ويعتقد أنه الأخ نبيه مدكور.
كان الإمام مريضاًَ لمدة ستة شهور، ثم تقدمت صحته إلى الأحسن،
[12] كان الإمام مريضاًَ لمدة ستة شهور، ثم تقدمت صحته إلى الأحسن، فجهز الأخ خطبته على أن الفرح فرحان: فرح الاحتفال بمناسبة الإسراء وفرحة شفاء الإمام وعودته إلى إخوانه، ولكن الإمام أحس بالوعكه الصحية قبل إلقاء كلمته بساعات.
[13] إشارو إلى موسولينى.
[14] وقد تم تعليق موسولينى وأعدموه رمياً بالرصاص، كما يعلق الثوب من اسفله.
[15] إشارة إلى جورج الخامس ملك إنجلترا.
[16] وقيل إنه قول السهروردى عند وفاته .
[17] العارفون كانوا يقولون عن الدنيا إنها دار أمل ، ولكن الإمام أبو العزائم أخبر بأنها دار ألم .
[18] أولاد الإمام من السيدة عزيزة السماحى زوجته الثالثة .
[19] سورة الأحزاب آية 38 .
[20] أحد تلاميذ الإمام .