القرآن الكريم كلام الله تعالى الذى لا يبلى ، وهو أجل من أن يحيط بكنهه وصف الواصفين ، وهو كتاب توحيد وإيمان ، وكتاب تشريع وسنن ، وكتاب تأمل وعبادات وكتاب بلاغة وأدب ، وقبل كل ذلك فهو كتاب جمع فأوعى ، وفيه بيان كل شئ ( وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [1] ففيه أصول كل العلوم ، وفيه الحكمة والموعظة الحسنة ، وفيه كل ما يتطلب ويحتاج إليه الإنسان فى نشأتيه الدنيوية والأخروية ، وهو الكتاب الذى قال فيه المولى جل وعلا ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) [2].
والمفسرون رضى الله عنهم يدلى كل منهم بدلوه ليستخرج من علوم القرآن الكريم مايسره له الله جل شأنه وكل يحصل من القرآن بقدر استعداده وتوفيق الله له ، ومع ذلك تظل الآيات تفيض الخير والشفاء والرحمة للمؤمنين فى كل عصر ، تحقيقاَ لقول الله سبحانه : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) [3] فجعل الشفاء والرحمة للمؤمنين تنزيلاَ من القرآن وتتجدد المعانى القرآنية فى كل عصر بحسبه ، قال تعالى : (ثم إنا علينا بيانه ) [4].
والتفسير فى اللغة : الاستبانة ، وفى الاصطلاح : علم يبحث فيه عن معانى ألفاظ القرآن وخصائصه ، فالنظر فى ألفاظ القرآن الكريم وحيث كونه كلاماَ له دلالة ومعنى ، ولله تعالى فيه هذف وقصد ، ومن أجل بيان هذه الدلالة وشرح المعنى وإيضاح القصد والإفصاح عن الهدف نشأ علم التفسير الذى تكفل بتلك الغايات ، ولابد لطالب هذا العلم من مؤهلات منها العلوم العربية بشتى أقسامها ، وعلم الفقه وأصوله ، ومنها علم الحديث ، وعلم الكلام ، ومنها علم التجويد والقراءات ، ومنها أسباب النزول والناسخ والمنسوخ .
والإمام المجدد رضى الله عنه فى تفسيره للقرآن المسمى ( أسرار القرآن ) ينتهج منهجاَ فريداَ من نوعه ، يتميز بسلاسة عبارته ، وعذوبة إشارته ، وقوة حجته ، ووضوح بيانه ، وتوضيح المبهم وإزالة المشكل فكأنك وأنت تقرأ له تفسيره كأنما أنت فى جنة عالية الجمال والمذاق دانية القطوف والبركات ينفذ بعبارته إلى عقلك وبأنوارها إلى قلبك .
ولسنا فى مقام المفاضلة بين مفسر ومفسر ، لأن الله يهب من بيان القرآن وأسراره لمن اختصه بفضله ولا حجر على فضل الله ، لكن الوسعة الالهية اقتضت أن تتفاوت المقامات والمنازل والدرجات ، وأهل البشرى من الله هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
وفى صدر تفسير الإمام المجدد لسورة البقرة تطالعنا العبارات التالية التى تعطى صورة من آدابه وتوقيره لأهل العلم جميعاَ مع تفاوت مقامات مقاماتهم ، فعند تناوله لشرح قوله تعالى : ( الم ) يقول رضى الله عنه :
معلوم أن العلماء بالتأويل تتفاوت مقاماتهم فى العلم ، فمنحهم الراسخون فيه ، ومنهم ومنهم ، ولكل فريق تأويل فى هذه الآية الشريفة وكلهم على حق لأنهم يجتهدون ، والآيات الشريفة تحمل كل تلك المعانى ، وقول بعضهم : الله أعلم بمراده ، كلمة يقولها كل مؤمن ولو أطلعه الله على مكنون العلم ، قال تعالى : ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) [5] فمن شاء الله أن يحيطه بشئ من العلم أحاطه به ، وعندى أن الله تعالى كشف تلك الحقائق لمن شاء ممن اجتباهم فعلمهم مالم يكونوا يعلمون.
ثم يبين رضى الله عنه العديد من معانى ( الم ) حيث يروى ظمأ المشتاق إلى معرفة أسرار كلام ربه جل شأنه ، وتسرح الروح فى نور حد القرآن ، وتتجلى حقائق اليقين للنفحة القدسية فى مطلع القرآن ، وهذا فى معنى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن : (( لكل حرف من القرآن ظهراَ وبطناَ وحداَ ومطلعاَ )) [6].
ويجرى تفسير الإمام مع الآية حيث تجرى ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضح دلالتها حيث تدل ، فهو تفسير حكيم حينما تشتمل الآية على الحكمة ، وهو تفسير أخلاقى حيثما ترشد الآية إلى الأخلاق ، وهو تفسير فقيه حين تتعرض الآية لفقه ، وهو تفسير اجتماعى حين تبحث الآية فى الاجتماع ، إذ أنه دائرة لمعارف القرآن ومحور جميع العلوم الإنسانية والكونية الإلهية التى جاء بها الإمام رضى الله عنه .
وكان للإمام المجدد رضى الله عنه مسلكان فى تفسير القرآن الكريم :
أولهما: أن يفسره متسلسلاَ وبالترتيب وقد ابتدأ ذلك بالسودان حيث خصص يوماَ من كل أسبوع يجتمع فيه تلاميذه ويؤمه الناس من كل مكان لسماع تفسيره ، فإذا تناول الآيات بالشرح والتفسير استغرق فى بيان معانيها واستولى اهتمامه بها على كيانه كله ، ولايكاد يفرغ من مجلسه هذا إلا وقد أجهد إجهاداَ شديداَ وظل يتصبب عرقاَ .
ثانيهما : أنه كان إذا سمع القارئ يقرأ قبل الدرس آيات قرآنية ، تناول الإمام تلك الآيات بالشرح والتفسير ، وربما تعرض لتفسير الآية الواحدة أكثر من مرة ، وفى كل مرة كان يجلى فيها معان جديدة وألوان شتى من الدلالات والإشارات القرآنية العالية .
ومع تصفحنا لـ ( أسرار القرآن ) [7] نطالع بعض المعانى التى تضمنها ذلك الأثر الإسلامى الجليل مثل :
حقيقة الأسماء التى تعلمها آدم عليه السلام :
أنزل الله تعالى القرآن عربيا َ ليعين الخلق على تدبر معانيه ، ولقد استطاع الإمام بإبراز بعض الجوانب النحوية أن يعطى مفهوماَ جديداَ على غير ما عهد الناس فى معنى قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) [8]– حيث كان المفهوم السائد فى معنى ذلك أن الله تعالى علم آدم أسماء المسميات – فقال رضى الله عنه فى قول الحق سبحانه : ( ثم عرضهم ) إشارة عالية حيث أتى بالهاء والميم المنبئة بأن المعروض من العقلاء .. وفى قوله : ( أنبئونى بأسماء هؤلاء ) بالإشارة إليها دليل على أن المعروض على الملائكة أسماء ظهرت معانيها جلية فى آدم وهى معانى الصفات التى لم يتجمل بها نوع من المخلوقات إلا آدم مشيراَ إلى أنها معانى الصفات الإلهية التى جمل الله بها آدم عليه السلام فصار مرآة تظهر للملائكة أسرار وأنوار تلك الأسماء . الحكمة فى أن الله أخر الدين مع أنه مقدم شرعاَ على الفائض والوصايا : عند تناول الإمام لشرح قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أودين) [9] بين الحكمة فى أن الله تعالى أخر الدين وقدم الوصية فى السياق القرآنى ، فقال رضى الله عنه : أخر الله الدين هنا مع أنه مقدم شرعاَ على الفرائض والوصايا لحكمة أرادها الله تعالى ، وهى أن الورثة لا يجدون مشاحة فى الدين ، بل يدفعونه بصفاء من غير معارضه ، ولكنهم يجدون فى الوصية غضاضة فى أنفسهم ، فقدم الله الوصية حثاَ لهمم الورثة ، وأخر الدين لأنه لا مانع من تنفيذه ، وعلى هذا فيكون الدين مؤخراَ شرعاَ وتكون الوصية نافذة ما دامت فى الثلث أو فى أقل من الثلث ، فإذا زادت الوصية عن الثلث كان للورثة الخيار فى تنفيذها .
معنى بياض الوجه أو سواده يوم القيامة :
فى سياق بيانه معنى قوله تعالى : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) [10]يقول : لما كان الهم حبس القلب ، وكان القلب إذا نزلت بالإنسان مصيبة يحبس بها فيختلط دم الوريد الأسود بدم الشريان الأبيض فتسود البشرة ، فيرى السواد فى وجه الإنسان عند همه ، وإذا بشر بخير عظيم انبسط القلب ، وظهر البياض واللمعان فى وجه الإنسان . وأعظم الهموم هم يوم القيامة ، خصوصاَ إذا كب الكافر على وجهه فى النار ، فإن وجهه – أعاذنا الله منه – يعلوه السواد الفحمى .
وإذا أكرم المؤمن بالدخول فى الجنة ؛ انبسط من الفرح ، وعلاه نور الجنة فابيض وجهه ، أخبرنا الله تعالى بذلك بشرى للمؤمن ، وإزعاجاَ للكافر ليرجع إلى الله تعالى ويقبل على الإسلام .
ولك أن تقول : إنه مجاز عن سوء عاقبة الكافر وفوز المؤمن ، وهو سياق عربى . وكثيراَ ما نسمع من الناس تقول : فلان ابيض وجهه ، إذا ظفر بحاجته أو دفع عنه سوء . ويقولون : فلان أسود وجهه ، إذا أصابته مصيبة لاقبل له بها ، نعوذ بالله من سوء القضاء وقضاء السوء .
ولما كانت رحمة الله تعالى وسعت كل شئ وقد سبقت غضبه ، افتتح الآية ببياض الوجه فقال : ( يوم تبيض وجوه ) وجعل سواد الوجه فى وسط الجملة ، وبياضه فى أولها وآخرها ، ليطمئن قلوب المؤمنين ويفرحهم بالآية .
بيان الحكمة فى أن للمرأة نصف ما للرجل من الميراث :
يتناول الإمام المجدد رضى الله عنه فى الجزء الرابع ص 143 بياناَ للحكمة فى أن الله تعالى جعل نصيب الأنثى من الميراث نصف نصيب الذكر فيقول :
(( وتلك الحكمة هى أنه جل جلاله جعل الرجل يدفع صداقاَ للمرأة ، وأوجب عليه نفقتها ونفقة أولادها منه ، ولذلك جعل لها نصف ماله .
فلو فرضنا أن رجلاَ مات وترك ولداَ وبنتاَ ، وترك ثلاثمائة دينار ، أخذ الولد مائتين ، وأخذت البنت مائة واحدة ، وبعد ذلك دفع الولد خمسين صداق زوجته ، وأخذت البنت خمسين صداقها من آخر ، فاستوى ذلك ، فصار عند الرجل مائة وخمسون ، وعند المرأة مائة وخمسون ، فاستويا )) .
بيان حكمة الوضوء وحكمة التيمم :
يشير الإمام المجدد رضى الله عنه فى الجزء الخامس من ( أسرار القرآن ) ص 41 فيقول :
(( وهنا حكمة غريبة ، وهى أن المراد من الوضوء طهارة الجوارح المجترحة مما لابسته من صغائر الذنوب التى لا يتنزه عنها الإنسان ، وهى فاتحة لطهارة القلب مما لابسه من الهمم واللمم والنوايا والقصود المكروهة ، ليعلم المتوضئ أن الله ما أمره بطهارة جوارحه لوجود نجاسة حسية عليها ، بل ليوقظ قلبه أن طهارته أولى من طهارة الجوارح ، لأن الجوارح مسخرة للقلوب ، فإذا أمر الله العبد بطهارة الآلات التى هى : العينان والأذنان والأنف والفم واليدان والرجلان ، وليس لها فى الحقيقة عمل ، وإنما العمل منسوب إلى القلب لأنه سلطان الجوارح ، فالواجب شرعاَ أن يطهر القلب من باب أولى .
وما توضأ من غفل عن طهارة قلبه وطهر جوارحه ، لأنه طهر الجوارح التى يراها الناس وليس بها نجاسة حسية ، وترك القلب الذى هو محل نظر الرب ، ينظر الله تعالى فإذا هو نجس وهو مول وجهه إليه جل جلاله ، وينظر الناس إليه فيرونه طاهر الجسم ، متقناَ لطهارة الأعضاء ، عالماَ بشروطها ودقائقها ، جاهلاَ بوضوء القلب ، فتضرب الملائكة بصلاته وجهه ويقولون : إن الله غنى عن عمل الغافلين .
ولما كانت هذه حكمة الوضوء التى هى طهارة الجوارح لطهارة القلب ، كان مسح الوجه واليدين بالصعيد الطاهر كسراَ للقلب ، لأنه يضع أثر التراب على وجهه ، ثم يضعه فى السجود على التراب ، وفى هذا العمل ذكرى أنه من التراب ، فيطهر من غرور نظره إلى نفسه أنه إنسان مستقيم القامة ، سميع بصير متكلم ، ويقف أمام ربه حافظاَ لرتبته التى تجذبه إليه جل جلاله )) .
معنى النفى من الأرض لمن حارب الله ورسوله وسعى فى الأرض فساداَ :
يتناول الإمام المجدد أبو العزائم رضى الله عنه فى ( أسرار القرآن ) الجزء السادس ص 97 بياناَ لحكم الله تعالى فى الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداَ فيقول :
(( ... ولكن قوله : ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) [11] (أو) هنا ليست للتخيير ، وإنما هى لبيان الحكم ، والذى يقتل هو من قتل النفس بغير حق ، والذى يصلب هو من قطع الطريق وقتل النفس وسلب المال فى القرى أو فى الأمصار ، والذين تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف هم الذين يسرقون ولم يقتلوا ، ولم يقطعوا الطريق على المسلمين ، وقوله تعالى : ( من خلاف ) أن تقطع الرجل اليسرى واليد اليمنى أو بالعكس ، والذى ينفى من الأرض هو من قطع الطريق ولم يقتل نفساَ ولم يسرق .
والنفى من الأرض هنا لا يكون بإخراجه من بلد إلى آخر من بلاد المسلمين لأنه يخشى منه على المسلمين ، ولا إلى أرض الكفار لأنه يخشى عليه منهم أن يفسدوا عقيدته .. والنفى هو السجن الذى تدوم له فيه المراقبة )).
دليل قرآنى على نزول عيسى عليه السلام من السماء فى آخر الزمان :
يورد الإمام رضى الله عنه فى الجزء الثالث ص 151 عند تعرضه لشرح قوله تعالى فى شأن سيدنا عيسى عليه السلام : ( ويكلم الناس فى المهد وكهلاَ ) [12] فيقول فى معنى كلمة ( وكهلاَ ) : (( معنى هذه أنه يتكلم كهلاَ بما لم يتكلم به طفلاَ ، وبهذا المعنى يكون كلامه كهلاَ معجزة ، ولكنا نفهم فى هذه الكلمة أن كلامه كهلاَ من أكبر المعجزات ، وإن كان بعض العلماء عرف الكهل من سن استواه إلى صباه الأعلى ، أى : من ثلاثين سنة إلى الأربعين ، إلا أنه بحسب العرف لا تطلق إلا على من تجاوز الستين ، والمسيح رفع إلى السماء وهو فى ريعان شبابه حيث كان سنه ثلاثاَ وثلاثين سنة .
وإذا فهمت ما أورده عليك تتحقق أن كلامه كهلاَ معجزة كبرى ، وذلك لأنه ينزل من المساء بعد رفعه فى آخر الزمان فيتكلم مع الناس ، فيكون كلامه فى ذلك الوقت من المعجزات الابهرات ، ويصير عليه عندها أنه كهل بالنسبة لطول الزمن الذى أمضاه فى السماء الرابعة كما ورد .
بيان فى حقيقة إسناد الأفعال :
والآن ، تعال معاَ لنطالع سراَ من أسرار القرآن من معنى قوله تعالى :
( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاَ * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاَ وكفى بالله شهيداَ ) [13]واستمع إلى بعض المعانى التى ذكرها الإمام المجدد فى الجزء الخامس من ( أسرار القرآن ) حيث يقول :
(( هذه الآية الشريفة من معضلات آيات القرآن ، ومن لم يلهمه الله الفقه فيها زلت به القدم ، وإنى مبين لك ما علمته فيها وأحب منك التسليم : كان المشركون والمنافقون إذا نالوا خيراَ من نصرة أو غنيمة أو سلامة قالوا : هذا من عند الله ، وإن أصابهم بلاء من جراح أو أمراض أو هزيمة قالوا : هذا منك يا محمد ، نظراَ منهم إليه صلى الله عليه وسلم بعين العناد ، فكذبهم الله تعالى وأثبت التوحيد الخالص بقوله تعالى : ( قل ) يا محمد ( كل من عند الله ) أى : أن العافية وتوالى الخيرات والنصر والتأييد والهداية والتوفيق من عند الله تعالى ، كما أن البلاء والشدة والمصائب هى كذلك من عند الله ، إذ هو الضار النافع ، والمعطى المانع ، والمحيى المميت ، والمعز المذل لا شريك له . ثم شنع على المنافقين الذين يجعلون الخير من الله والشر من رسوله ظناَ منهم أن الله حصل بسوء تدبيره أو غلطه ، أعاذنا الله من الكفر بعد الإيمان ، ومن سلب العطا وحرمان الرضا وكفران النعمة .
وفى هذا التشنيع برهان على سوء طبعهم وخبث نفوسهم فقال تعالى : ( فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) .
وما أورده الإمام المجدد من المعانى التى سبق ذكرها لا غرابة فيه على العقل ، ولكن لما يقول عز من قائل بعد ذلك : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) هنا يحس العقل بغرابة الأمر ، وبالحاجة الماسة إلى مزيد بيان وتوضيح المبهم وإزالة المشكل .
إن الذين نسبوا الحسنة إلى الله ونسبوا السيئة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شنع الله تعالى عليهم بقوله : ( فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاَ )د وذلك بعد أن حسم المسألة وأظهر الحقيقة بقوله : ( قل كل من عند الله ) .
ويحتار العقل متسائلاَ : أبعد كل ذلك يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ؟ ما سر ذلك ؟
خاصة بعد قوله تعالى : ( قل كل من عند الله ) ؟ )) .
لكن الإمام المجدد لا يترك العقل فى حيرته ، بل يكشف السر عن ذلك المعنى فيقول :
(( وهنا محذوف تجب رعايته وملاحظته وهى كلمة : يقولون . كأن سائلاَ سأل الله تعالى : تذم هؤلاء وتشنع عليهم ؟!! فأجابه سبحانه بقوله إنهم يقولون ما تقدم من مقولهم الأول ، ويقولون : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ولهذا التقدير تطمئن القلوب على فقه آيات القرآن ، ولا يكون هناك حيرة ولا تردد فى فهمه ، فإنه سبحانه بعد قوله : ( قل كل من عند الله ) لا يرجع فيقول : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ) الآية محكمة ، فقالوا : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) وهى تقدير الله والكل من الله ، ولكن الله جعل العبد سبباَ فى الوقوع فى السيئات التى قدرها سبحانه ، وعلى هذه الوقوع يكون الحساب والعقاب )) .
ثم يستطرد الإمام المجدد رضوان الله عليه مبيناَ وجهاَ آخر من وجوه معانى الآية القرآنية : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) فيقول :
(( والذى أستحسنه ما بينته لك أولاَ ، لأنه لا يحتاج إلى تكلف فى التأويل ، وإن كان فى تأويل الآية ما يقتضى الأدب مع الله . مع أن ينسب العبد السيئة لنفسه ، والحسنة إلى الله ، كما قال صاحب موسى عليه السلام عند قوله : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) [14]. وقال : ( فأردت أن أعيبها ) [15] فنسب الخير لله والشر لنفسه ، وكما قالت الجن : ( وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) [16] فلما ذكروا الشر نسبوا الفعل إلى نائب الفاعل ، ولما ذكروا الخير أسندوه إلى فاعله الحقيقى . ولكن العلم يقتضى كشف الحقائق والبيان كل البيان ، والأدب شئ والعلم شئ آخر ، فإذا جلس العالم كشف الحقائق جلية لمن زكت نفوسهم بالأدب )) .القصاص قتل فكيف تكون فيه الحياة ؟:
عند شرح قوله تعالى : ( ولكم فى القصاص حياة ) [17] يبين الإمام المجدد رضى الله عنه حكمة القصاص فيقول :
(( يبين الله تعالى حكمة حكم القصاص بأقصر آية عجز فطاحل البلغاء من أصحاب المعلقات على الكعبة أن يأتوا بمثلها . وأفصح كلمة قالوها فى هذا المعنى : ( القتل أنفى للقتل ) وفى كلمتهم تكرار لفظ القتل ، وفيها نقص بيانى وهو أن القتل لا يكون أنفى للقتل . وكلمة الله هى العليا . وقوله تعالى : ( ولكم فى القصاص حياة ) كأنه يبين الحكمة فيقول : إنكم إن تركتم القصاص وهو قتل القاتل أحرق الغل القلوب فثارت، فجرت الدماء أنهاراَ بتعطيل حكم القصاص .
ولو قال لنا قائل : القصاص قتل ، وكيف تكون فيه الحياة ؟ والجواب : إن مراد الله سبحانه وتعالى الرحمة للمجتمع الإنسانى فإنك إذا حكمت بحكم الله فقتلت القاتل إن لم يعف أولياء المقتول أثلجت صدور من أحرقت قلوبهم نار الغل على من قتل قتيلهم وربما كان بسبب ذلك هرج ومرج يفسد القلوب ويفرق المجتمع ، وهذا معناه والله أعلم . يعنى أن القصاص بقتل القاتل حياة لفئة كثيرة ، بل وراحة لقلوب المجتمع المصاب بهذا البلاء ، بل وصفاء لهم من الهرج والمرج والفتن )) .
الحكم بكفر من يعين اليهود :
أفتى الإمام المجدد رضى الله عنه بما يلى فى سياق تفسيره ( أسرار القرآن ) الجزء الأول ص 44 حيث يقول :
(( ولو تتبعنا سير اليهود وسيرتهم من حادثة يوسف عليه السلام ، وما عمله الأسباط مع يعقوب عليه السلام إلى زمننا هذا ، لعجزنا عن شكر الله بما تفضل به علينا برسالة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أبعد بك فإنا نرى تلك الفئة التى لعنت فى التوراة والإنجيل والقرآن لا تزال ينبوع تلك الخبائث والشرور والفتن فهم كما قال العربى : ( فى كل واد أثر من ثعلبة ) يسلط الله عليهم بختنصر قديماَ ودول أوربا فى هذا الزمن ، وقد أراد الله أن يجدد لهم البلاء فانقلبوا شياطين لإهراق الدماء والإفساد فى فلسطين ، فإنهم انتهزوا فرصة خوف الإنجليز من الترك ، وبذلوا أموالاَ طائلة للإنجليز مساعدة لهم على حرب الترك ، وطلبوا منهم أن يبيحوا لهم الهجرة إلى فلسطين ، وأن تكون فلسطين وطناَ قومياَ لليهود ، وقد رأى الإنجليز أن ذلك فى فلسطين قوة تدفع عنهم ثورة العرب وغيرهم ، فمكنوا لهم فيها بقوة الحديد والنار .
وقد استفتانى علماء فلسطين فى حكم من يبيع لليهود عقاراَ أو أطياناَ ، فأفتيت بكفر من يعينهم بدليل الآية التى نزلت فى اليهود وهى قوله تعالى : ( لا تجد قوماَ يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) [18]، وسبب نزول الآية هم اليهود ، وإن كان خصوص السبب لا يقتضى خصوص الحكم والواجب على كل مسلم آمن بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يعادى من حاد الله ورسوله ، فإن تساهل مسلموا فلسطين مع اليهود أثار عليهم غضب الله فانتقم منهم بالعدو (اليهود والإنجليز ) ، حفظ الله إخوتنا المسلمين من موالاة غير المؤمنين )).
اليهود أهبطوا قدراَ ومرتبة :
يكشف الإمام فى موطن آخر أن اليهود أهبطوا قدراَ ومرتبة حيث يقول فى سياق تفسيره لقوله تعالى : ( اهبطوا مصراَ ) [19]:
(( الذى أفهمه أن الهبوط ليس مكانياَ ، ولكنه هبوط قدر ورتبة ، كما قال لآدم وحواء : (اهبطا منها ) [20] أى انزلا عن قدركما ، وإن كان الهبوط المكانى تحقق ، وفى قوله تعالى : (اهبطوا مصراَ ) إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى سلب منهم الصبر الذى يقوى النفس على تحمل أعباء القيام بأوامر الله تعالى ، فقوله تعالى : ( اهبطوا مصراَ ) دليل على أنهم استحقوا من الله أن تضرب عليهم الذلة والمسكنة ، لأن الأرض التى كانوا فيها متعهم الله فيها بما هو فوق ملك الأرض لكل واحد منهم ، فليس عليهم آمر إلا الله تعالى ثم كليمه ، وليس ثم منافس ولا منازع لحصول المساواة المطلقة بينهم وفقد المعاوضة التى تقتضى المفاوضة المقتضية للمعارضة ، حيث لم يكن ما يوجب التنازع ولا الحسد ، لأن طعامهم المن والسلوى وشرابهم الماء الذى تفجر من الحجر ، وهى عيشة كعيشة أهل الجنة ، ولكن أبت النفوس اللقسة إلا الخروج من الحق إلى الباطل )) .
الإمام يكشف فى تفسيره عن سبب أكثر أمراض الأطفال :
فى سياق تفسيره للآية 226 من سورة البقرة ، يقول رضى الله عنه :
(( فإن نكاح الرجل زوجته سبب فى أمراض المولود إلا إذا احتاط لنفسه فأمرها بالامتناع عن رضاع الولد حتى تطهر ، لأن هذا النكاح يجعل الدم يسرى فى الثديين فإذا أرضع الولد عقب الجماع مباشرة تسمم ، وأكثر أمراض الأطفال من هذا العمل الجاهلى )).
أسرار القرآن والعلوم الكونية :
وقد تناول رضى الله عنه بياناَ لبعض العلوم الكونية حال تعرضه لتفسير قوله تعالى : (وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )[21] فقال : الرياح جمع ريح ، واسمه مأخوذ من الروح لأنه حياة العالم أجمع ، فهو كأنه روح الوجود المادى ، وقد ورد الريح فى القرآن المجيد بلفظ الجمع ولفظ الإفراد ، وبعض العلماء يرى أن لفظة بـ(( ال)) للجنس فيكون بمعنى الرياح ، وبعضهم يفهم أن لفظة الريح بالإفراد تدل على مخصوصة وهى الريح العقيم التى تضر ولا تنفع ، ولفظة الرياح تدل على الرياح النافعة للعالم ،قال تعالى : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات)[22] وقال تعالى : ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) [23]وقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اجعلنا رياحاَ ولا تجعلها ريحاَ ) [24]عندما كان يرى هبوب الريح . وفى قوله : ( وتصريف الرياح ) يقظة لأهل القلوب المطمئنة ، وسبحان المعطى الوهاب الفتاح العليم القائل سبحانه : ( وفوق كل ذى علم عليم ) [25]والقائل جل جلاله : (ولدينا مزيد )[26] .
قوله تعالى : ( وتصريف الرياح ) يقظة لأهل القلوب المطمئنة بذكر الله تعالى ، فإن تصريف الرياح وتغيرها تكون شمالية أو جنوبية أو صبا أو دبوراَ. وفى هذا التصريف ، المنافع العامة لمصالح العالم أجمع ، وهناك تيارات دورية وهو التيار الذى يأتى من جهة القطب الشمالى فيمر على نصف الأرض الشمالى حتى يصل إلى خط الاستواء (( المنطقة المحترقة )) فيتبخر ويرتفع ملتهباَ جداَ متجهاَ من خط الاستواء إلى القطب الشمالى حيث المنطقة الثلجية ، فيثقل وينزل إلى الأرض حاراَ فيحيا به ما هنالك من الحيوانات
والنباتات والأناسى فى هذا الأفق المتجمد ، ثم يأتى بارداَ إلى البحر الأبيض المتوسط ماراَ على البحر الأسود فبحر البلطيق ويمر على شمال أفريقيا محملاَ بالبرودة التى اكتسبها من الشمال ، ويمر على خط الاستواء كما تقدم . وهذا التيار الدورى دائم المرور من خط الاستواء فيتبخر هناك بحرارته الشديدة ، ويرتفع إلى الأفق الأعلى ثم يميل إلا الجنوب لنفع العالم عند القطب الجنوبى ، وهكذا يفعل كما يفعل التيار الشمالى . وهناك راح تسمى الرياح الموسمية ، وتلك الرياح تتولد من مصادمة تلك التيارات الدورية بالجبال الشاهقة فيتغير مجراها ، فقسم منها بانفعال المصادمة ينصرف إلى الغرب ، وقسم ينصرف إلى الشرق ، وقد تتغير تلك التيارات بتغيير الظواهر الجوية من حرارة شديدة إلى برودة شديدة فيثقل تيار من التيارين ، فيحصل اصطدام الهواء بعضه ببعض فتتولد منه الزوابع التى تقتلع النباتات وتغرق السفن وقد تهدم البيوت بشدة تصادمها وضغطها .
وتلك الرياح المختلفة هى التى تلقح النباتات فتأتى بذكور النباتات إلى إناثها كما قال تعالى : (وأرسلنا الرياح لواقح ) [27]، وقد تنقل تلك الزوابع بذور نباتات إلى بلاد لم تكن فيها تلك النباتات . وفى كل ذلك من تطهير الهواء فى الآفاق ، ونقائه من الأوساخ والكائنات الصغيرة السامة كالذباب والناموس وما دونه من البعوض ، ولولا ذلك التصريف لفقد أكثر الناس صحتهم . وفى هذا التصريف حجة قاصمة لظهور الملحدين ، لأن هذا النظام والتركيب لا يكون عبثاَ ولا لغير حكمة ، لكنه بقدرة وإرادة ومشيئة ، يريد فاعله سبحانه أن ينفع الناس جميعاَ بهذا التصريف ، ولو نظر أهل القلوب العامرة بنور الله تعالى إلى تصريف الهواء فى يوم واحد لشهدوا بعظمة الله تعالى فى كل نفس من أنفاسهم ، ولعجزوا عن شكر الله لإنعامه عليهم ، فسبحان مصرف الرياح الذى جعل فيها فضله وإحسانه وإمداده لخلقه .
ولوأن الله أمسك الهواء أن يتصرف حتى فقد من أفق الآفاق لما وجد على ظهرها دابة ، بل ولا نبات ولو أنك حسبت الهواء عن الحيوان لمات فوراَ ، أو عن النبات لذبل وفقد حياته . قال تعالى :( وإن تعدوا نعمة الله ) [28]ولو فى نوع واحد من أنواع العناصر من نعمه ( لا تحصوها ) فكيف يمكن بنى الإنسان أن يحصوا نعمه فى كل خلقه من العرش إلى الفرش بالنسبة لنا ؟ وإذا عجزنا عن حصر نعمه فى الهواء فكيف يمكننا أن نقدر الله سبحانه حق قدره أو نحيط به علماَ ؟ فسبحان من أعجز العقول عن علم آياته فى مكوناته ، وأعجز الأرواح عن علم حقيقة أسمائه وصفاته ، وتنزه وتعالى عن أن تحوم الأرواح العاليات حوالى قدس عظمته وكبريائه ، قال تعالى :( فارجع البصر
هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاَ وهو حسير ) [29].
من جوانب الإصلاح الاجتماعى فى تفسير الإمام رضى الله عنه:
حث الإمام رضى الله عنه الأمة على التوحيد ونبذ الاختلاف ، والعمل على عودة المجد الذى فقده المسلمون عند تناوله لتفسير قوله تعالى:
( واعتصموا بحبل الله جميعاَ ولا تفرقوا )[30] فقال : (( الاعتصام : هو التحفظ والتحرز من فقد المقصود ، والتمسك بما يوصل إلى نيل الخير الحقيقى . وهذا الحبل إما أن يكون كتاب الله تعالى عند هجر العمل به ، أو يكون الجماعة عند التفرقة ، أو يكون الإخلاص لله فى التوحيد عند الشكوك والريب ، أو يكون المسارعة إلى التوحيد والإنابة عند ارتكاب الخطايا . فهو فى كل حال بحسبه ، ونحن فى زماننا هذا فى حاجة إلى كل تلك المعانى ، بعد أن هجرنا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحنا عالة على من كانوا عالة علينا ، فى حاجة إلى أن نتلقى الصناعات والفنون والحرف ممن عنا نقلوها ، فى تفرقة تحتاج إلى أن يتدخل فى شئوننا من كنا سبباَ فى خلاصهم ورقيهم . فإذا اشتقنا إلى مجد سلفنا الصالح وعزهم ومنعتهم ، يجب علينا أن نعتصم بحبل الله تعالى ، وهو القرآن والسنة المطهرة ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بما من به على سلفنا ، ويكون معنا كما كان معهم ، ويعيد لنا مجدنا ، ويجعل لنا التمكين فى الأرض ، حتى يصلح بنا جميع خلقه ، قال عبد الله بن مسعود :( عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذى أمر به ، وإن ما تكرهون فى الجماعة والطاعة هو خير مما تحبون فى التفرقة )، وكيف يميل المؤمن بالله ورسوله إلى التفرقة للذة عاجلة تفنى، وجاه يورث ذل الأبد، ومال قد يعين على الخلود فى نار جهنم ؟! ويرضى أن يذل بتفرقة المسلمين ، فيكون مسئولاَ عنهم جميعاَ يوم القيامة ؟!
أيها المؤمن المحب للخير العاجل : هذه النفس التى تحب الخير ، ألا تذكرها أنها لو باعت هذا الخير العاجل المفسد للدين وللجماعة بالخير الدائم الباقى عند الله تعالى تكون رابحة ؟ ما الذى يناله الجاهل المغرور بالميل إلى التفرقة إذا عاجلته المنية قبل أن ينال قصده ؟ لعمرى إنه ليموت على أكبر الكبائر ، فيحرم لذة أمله العاجل وبهجة النعيم الأبدى ، ويخلد فى نار الشقاء والعذاب .
وإن النعمة مقولة على معنيين : عند العاقل نعمة الشرف والعز والفرح بالمجتمع الإسلامى ، ونعمة لذة الحيوانات فى الشهوات والشهرة الكاذبة .
وإنى لأرى نعمة الشرف قد تستعلى فى البهائم على لذتهم البهيمية ، فقد يجهد الفرس نفسه فى الجرى حتى يقع صريعاَ ليفرح بسبق نظيره لذة بنعمة الشرف .
وقد يلقى الكلب بنفسه على السبع ليحفظ صاحبه حتى يقتل فرحاَ بلذة الشرف .
وقد يترك الديك غذاءه وينادى الدجاج متلذذاَ بلذة الشرف .
فوا عجباَ ! تعظم نفوس الحيوانات ، فتقدم لذة الشرف على اللذة البهيمية التى هى فطرتها !! وتصغر نفس المؤمن حتى يدنسها بالتعس والخيبة ، ليسمع كلمة جميلة أفسد لأجلها دينه ودنيا إخوته المؤمنين !! بل أعجب من هذا أن أجهل إنسان يعلم أن عز جماعته عز له ، وذل قبيلته ذل له .
وترى الجاهل يهدم مجد المجتمع ليتلذذ بأنه قريب إلى عظيم من العظماء ، أو محبب عند ذى منزلة ، والله تعالى يقول : ( واعتصموا بحبل الله جميعاَ )[31] ما هى تلك النعمة التى ينالها من ترك الاعتصام بحبل الله واعتصم بحبل شهواته وحظه وحبه لذاته ؟! لا أراها إلا أعظم نقمة ، فإنه يمقته الله تعالى ، ويمقته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويمقته المؤمنون من أهل عصره .
وليس الاعتصام بحبل الله بأمر صعب عليك ، تذكر أيها المؤمن أيام كانت القلوب مجتمعة معتصمة بحبل الله ، والأبدان عاملة لله ، ومن أنت وما كان حالك وشأنك ؟ لعلك إذا ذكرت تبكى ، وتحن إلى هذا المجد حنين الثكلى أو أعظم ، لأن العبد المملوك المسلم يعزه الإيمان على كل من فى الأرض ، كان أصغر مسلم يمنح الأمن ، ويقبل فى ذمته من استجار به فينفذ له الخليفة ، كان المسلم عنوان الكمال فى نشأته ومعاملاته ورحمته ورأفته بالعالم أجمع ، ومسارعته إلى الخير ، وكان العالم أجمع إذ ذاك فى ظلمات الجهالة والضلالة لم يهتد للخير إلا بسببك أيها المؤمن .
أيها المؤمن : استعمرت مشارق الأرض ومغاربها ، ودان لك أصحاب تيجانها ، ومكنك الله فى الأرض بالحق ، حتى فصمت تلك العروة ، وترك أهل الجهالة الاعتصام بحبل الله تعالى ، فتغير الحال ، وتبدل الشأن ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
قم أيها المؤمن فتنبه ، وبحبل الله فاعتصم ، وبسنة رسول الله فتمسك ، وجاهد نفسك أعظم الجهاد فى ذات الله تعالى ، وقد منحنا الله الإرادة والحرية والقوة ، فإذا نحن تمسكنا بأحكام شريعة الله تعالى ؛ وعملنا بوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جملنا الله تعالى بالرحمة ، فكنا رحماء بالعطف وبالأمانة والصدق والعفاف ، والغيرة له سبحانه وتعالى ، وتركنا ما يضرنا ، ونشطنا لما ينفعنا ، وتشجعنا على فعل المكاره والفضائل ، وأحب بعضنا بعضاَ ، حتى نصبح كجسد واحد ، يشعر الرأس بألم الإصبع ، وتتلذذ الرأس براحة الإصبع ، ونكون – مع كثرتنا – كعائلة فاضلة يسعى كل فرد منها لخيرها ، ونستعين بنعم الله على ما يحبه ويرضاه ، ولديها تلذ الحياة ، ونفوز بمسراتها فى الدنيا والآخرة ، ونورثه أبناءنا )).
* ولقد أشرنا إلى قليل من كثير من (( أسرار القرآن )) وعلى طالب المزيد أن يطالع ما شاء من ذلك التفسير الذى بين الإمام المجدد فى بدايته سر قوله تعالى : ( وذلك الكتاب )[32] فقال : أشار سبحانه وتعالى إلى الكتاب باسم الإشارة الدال على البعد مع أن الكتاب قريب من الذاكرة ، فأشار إليه بما يدل على البعد لعلو مكانته ، أو لعظمة منزله سبحانه .
ولقد منح اسم الإمام المجدد نوط الامتياز من الطبقة الأولى تقديراَ من الدولة لما قدمه فى ((أسرار القرآن )) وقام رئيس الجمهورية بتسليم هذا النوط لحفيد الإمام وخليفته الثانى سماحة السيد عز الدين ماضى أبى العزائم رضى الله عنه وذلك فى ليلة القدر من عام 1311هـ الموافق 1991م .
[1] سورة النحل آية89
[2] سورة ص آية29.
[3] سورة الإسراء آية 82
[4] سورة القيامة آية 19.
[5] سورة البقرة آية 255.
[6] الغزالى فى إحياء علوم الدين وابن حبان فى صحيحه .
[7] أسرار القرآن : هو تفسير الإمام المجدد أبو العزائم الذى تصدره مشيخة الطريقة العزمية على أجزاء تباعًا
[8] سورة البقرة آية 31.
[9] سورة النساء آية 11.
[10] سورة آل عمران آية 106.
[11] سورة المائدة آية 33.
[12] سورة آل عمران آية 46.
[13] سورة النساء آية 78، 79.
[14] سورة الكهف آية 82.
[15] سورة الكهف آية 79.
[16] سورة الجن آية 10
[17] سورة البقرة آية 179.
[18] سورة المجادلة آية 22
[19] سورة البقرة آية 61.
[20] سورة طه آية 123.
[21] سورة البقرة آية 164.
[22] سورة الروم آية 46.
[23] سورةالذاريات آية 41.
[24] الإمام الشافعى فى الأم بلفظ : ( ما هبت الريح إلا جثا صلى الله عليه وآله على ركبتيه ، وقال : اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ) .
[25] سورة يوسف آية 76.
[26] سورة ق آية 35.
[27] سورة الحجر آية 22
[28] سورة إبراهيم آية 34
[29] سورة الملك آية 3،4.
[30] سورة آل عمران آية 103.
[31] سورة آل عمران آية 103.
[32] سورة البقرة آية 2.