معرفة علم التوحيد واجبة على كل مسلم ومسلمة وذلك لما يترتب عليه من صحة العقيدة وسلامة الإيمان وما ينتج عن تركه والجهل به من الوقوع فى الشك والإلتباس والإنحراف والزيغ والضلال.
ولما كان علم التوحيد هو أول العلوم الواجبه على المكلف، قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [1]وقوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)[2] وقوله سبحانه: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) [3].
لأجل ذلك شرع الإمام أبو العزائم رضى الله عنه فى بيان عقيدة التوحيد فى كثير من كتبه بياناً مرتباً ترتيباً على قدر قوة السالك، متدرجاً حسب تمكنه فى المقامات التى هى الإسلام والإيمان والإحسان والإيقان، فجاء ذلك كما يلى:
أولاً: تناول الإمام رضى الله عنه عقيدة السلف متمثلة فيما قاله الشيخ أبو طالب المكى فى كتاب (قوت القلوب) ، وعقيدة العامة كما ذكرها الشيخ عماد الدين الأموى فى كتاب (حياة القلوب) ..
فقال رضى الله عنه فى كتاب (عقيدة النجاة) :
- عقيدة السلف الصالح:
فرض التوحيد هو اعتقاد القلب أن الله تعالى واحد لا من عدد، أولا لا ثاتى له، موجود لا شك فيه، حاضر لا يغيب، عالم لا يجهل، قادر لا يعجز، حى لا يموت، قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه، ملك لا يزول ملكه، قديم بغير وقت، آخر بغير حد، كائن لم يزل ولا تزال الكينونة صفته لم يحدثها لنفسه، دائم أبد الأبد، لا نهاية لدوامه، والديمومة وصفه لم يحدثها لنفسه، لا بداية لكينونته لقدمه، ولا غاية لأبديته، آخر فى أوليته، أول فى آخريته، وأن أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة له ولا مفصلة عنه، وأنه أمام كل شىءن ووراء كل شىء، وفوق كل شىء، ومع كل شىء، أقرب إلى كل شىء من نفس الشىء، وأنه مع ذلك غير محل للأشياء، وأن الأشياء ليست محلاً له، وأن الله جل شأنه هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه، لا يمتزج ولا يزدوج إلى شىء، بائن ن جميع خلقه، لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس فى ذاته سواه، ولا ى سواه من ذاته شىء، ليس فى الخلق إلا الخلق.
وأنه تعالى ذو أسماء وصفات، وقدرة وعظمة، وكلام ومشيئة وأنوار، كلها غير مخلوقة، ولا محدثة، بل لم يزل قائماً موجوداً بها جميعاً، له الخلق والأمر والسلطان والقهر، يحكم بأمره فى خلقه وملكه ماشاء كيف شاء، لا معقب لحكمه، ولا مشيئة العبد دون مشيئته، وأنوار، كلها غير مخلوقة ولا محدثة، بل لم يزل قائماً موجوداً بها جميعاً، له الخلق والأمر والسلطان والقهر، يحكم بأمره فى خلقه وملكه ماشاء كيف شاء، لا معقب لحكمه، ولا مشيئة لعبد دون مشيئته، لا حول لعبد عن معصيته إلا برحمته، ولا قوة لعبد على طاعته إلا بمحبته، ولا يجب عليه فى الأحكام ما أجرى علينا، لا يختبر بالأفعال، ولا يشار إليه بالمقال، عادل بحكمه وعدل هما صفته، لا تشبهه حكمته بحكمتة خلقه، ولا يقاس عدله بعدل عباده، قد جاوز العقول وفات الأفهام، وهو كما وصف نفسه، وفوق ما وصفه خلقه، نصفه بما يثبت به الرواية وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليس كمثله شىء فى كل شىء بإثبات الأسماء والصفات ونفى التمثيل والأدوات، وأن ما سوى أسمائه وصفاته وأنواره وكلامه من الملك والملكوت محدث كله ومظهر، كان بعد أن لم يكن ولم يكن قديماً ولا أولاً، بل كان بأوقات محدثة وأزمان مؤقتة، والله تعالى هو الأزلى الذى لم يزل، الأبدى الذى لم يحل، صمد، لم يلد وبمعناه لم يولد، ولم يخلق من ذاته شىء، كما لم تخلق ذاته من شىء، سبحانه وتعالى عما يقول الملحدون من ذلك علوا كبيرا.
- عقيدة العامة التى لا بأس بها:
يعتقدون أن الله تعالى واحد فرد صمد، قديم ازلى، باق أبدى، وأن ما سواه فهو صنعه وخلقه، لا شريك له، ولا ضد ولا ند ولا شبيه، موصوف بكل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، مسمى بكل ما سمى به نفسه، ليس بجسم فإن الجسم ما كان مؤلفاً والمؤلف يحتاج إلى مؤلف، ولا هو بجوهر فإن الجوهر ما كان متحيزاً وهو سبحانه خالق كل متحيز، ولا بعرض لأن العرض لا يبقى ويحتاج إلى جوهر.
سبحانه لا يكفيه العقل ولا يمثله الفكر، ولا تلحقه الإشارة ولا تعنيه العبارة، العقول محجوبة عن درك حقيقته إذ العقول للعبودية لا للإشراف على الربوبية.
ويعتقدون فى الاستواء ما قاله مالك بن أنس حين سئل عنه فقال: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . ويؤمنون بجملة ما ورد فى الكتاب العزيز وجاءت به الرويات الصحيحة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من أحوال المعاد ويوم القيامة وما فيه وما بعده، واجمعوا أن الله خالق أفعال العباد، وأن الخلق يموتون بأجلهم، وأن الشرك والمعاصى كلها بقضاء الله وقدره من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة فلله الحجة البالغة، ولا يرضى لعباده الكفر والمعاصى، والرضا غير الإرادة. ويتبرأون من المعتزلة والقدرية والجهمية والمشبهة والمعطلة والخوارج والروافض وسائر أهل البدع.
وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، فمن ترك الإقرار فهو كافر، ومن ترك التصديق فهو منافق، ومن ترك العمل فهو فاسق.
- مآخذ الإمام فى عقيدة التوحيد:
بين الإمام رضى الله عنه أنه عند الكلام فى عقيدة التوحيد فإن مآخذه هى: كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأقوال وأعمال الصوفية الكمل. والعمل بإخلاص بما علمته فيعلمنى الله تعالى علم ما لم أعلم، والاجتهاد فى الأمور إذا لم أجد لها صريح حكم فى كتاب الله وكتاب رسوله وأقوال السلف بكل احتياط.
- عقيدة العلماء الربانيين:
وهنا ينبه الإمام رضى الله عنه إلى الأصول التى أخذ بها العلماء الربانيون فى العقيدة التى لا نجاة لمسلم إلا بها لانحصارها فى الكتاب العزيز الحديث الشريف فيقول: تنحصر هذه الأصول عندهم فى مسألتين هامتين:
أولاً: الإمداد، ويسمونه العناية.
ثانياً: الإيجاد، ويسمونه الإبداع.
وإنما اخترنا الإمداد والإيجاد لأنهما لفظان قريبان لعقول الجمهور، ولإن كانت هذه الدلائل مما يعسر فهمه على العامة إلا أننا نطمع أن يسطع نور ما فيها من أسرار القرآن وحكمة الشريعة على تلك العقول فتتتفع منه بحسب القوة القابلة فيها.
ومن أراد مزيداً من تفصيل هذه الأصول، فعليه بمطالعتها فى كتاب (عقيدة النجاة) ص 22 وما بعدها.
ثانياً: تناول الإمام أبو العزائم رضى الله عنه بيان التوحيد نت ناحية تعريفه وحقائقه وأنواعه وكيفية تلقى التوحيد والدروس التى يجب على المسلم أن يتعلمها فى كتاب (دستور آداب السلوك إلى ملك الملوك) فقال:
- تعريف التوحيد:
هو تمييز الحادث من القديم حتى يذوق- أى المريد- حلاوة التوحيد. ومن حكم عليه خياله ووهمه نظر إلى المادة وأعراضها فنسى الله تعالى فأنساه نفسه- قال تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) [4]، ومن نسى نفسه بدءاً ونهاية تمنى يوم القيامة أن يكون تراباً.
الحادث والقديم: إذا نظر القلب إلى الحادث الجديد محجوباً بعيداً- قال تعالى: (بل هم فى هم فى لبس من خلق جديد) [5] وإنما الجديد ليشير للقلب إلى ما فيه من سر الحى القيوم ونور الخلاق العليم، فإذا تجرد القلب من نظره إلى الجديد، أشرقت انوار الآيات وصار للغيب شهيداً، وإذا تجرد من شهوده ظهرت غرائب القدرة وعجائب الحكمة فجذبته إلى القادر الحكيم، وأظهر الجديد كله ليعرف جل جلاله بقدرته الباهرة، ويلحظ القلب أنوارة الظاهرة، فيشكره العبد ويذكره ولا يكفره، ويطيعه ويعبده ولا يجحده. ومن شغله الجديد الفانى عن الجديد الباقى طال اغترابه ودام عذابه.
- حقائق التوحيد:
بين الإمام رضى الله عنه حقائق التوحيد ثلاثة فقال:
أولاً: توحيد الله نفسه بنفسه:
وهو التوحيد الذى لا يطيقه مخلوق مقهور. وفى الأثر (كلكم حمقى فى ذات الله) ، وقال الصديق الأكبر: ( العجز عن درك الإدراك إدراك) .
ثانياً:
توحيد من اصطفاهم:توحيد الله الذى يتفضل به على من اصطفاهم من أولى العزم، وعلى من
اجتباهم من رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، من اختطفتهم يد العناية من ورثة رسول الله وأبدال الرسل عليهم الصلاة والسلام ممن أظهر أرواحهم بدءاً على بديع جماله العلى
وذكرهم فى الكون بألسنة الرسل والرثة بما أظهرهم عليه بدءاً وأعانهم فقبلوا وأقبلوا قال تعالى: (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله) [6].
ثالثاً: توحيد الخلق ربهم بالنظر والاستدلال:
ولكل حقيقة ن هذه الحقائق شواهد قائمة ودلائل واضحة، وطهور يدار على أهل الصفا من الأخيار، فالتوحيد الذى وهبه الله لعباده مأخذه (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) [7]، والتوحيد الذى يحصله الخلق مأخذه من قوله سبحانه: (قل انظروا ماذا فى السموات والأرض) [8].
يقول رضى الله عنه:
كل شىء دلائل التوحيد ينبىء العقل فى مبادىء الشهود
فى الكيان المحدود آيات ربى فيه غيب الغيوب فى التجـريد
سر هذا التجريد كشف المعانى وهو آى دلت عـلى المعـبود
انظرن فى النبات تشهد غيباً يجذب الروح للـولى الحـميد
حيرتنى آى النبـات لأنى قد شـهدت الوجود سـر معيد
حيرتنى آثار قـدرة ربى طمأن القلب قول رب رشيـد
يا إلهى أدر طهور المعانى كى أرى الغيب فى غصون الجديد
يا إلهى وافتح كنوز العطايا وفقـنى أفـى بكـل العهـود
واشفنى من سقام جسمى وقلبى هب لكل الأولاد خير المزيـد
أعط خير العطا لآلى وصحبى فى حصون المختار فاجعل شهودى
- كيفية تلقى علوم التوحيد:
الدرس الأول: وأول درس من دروس التوحيد تلقته الأرواح من ربها عياناً وسماعاً منه سبحانه فى يوم (ألست بربكم) [9]، وهذا أول خمر أديرت على الأرواح فأسكرتها.
عاهد الله الأرواح ألا تغفل ولا تنسى ولكن الأشباح حجبت الأرواح فنسيت.
الدرس الثانى: يتلقاه المسلم والديه بالتقليد والتسليم، وبهما يسعد إن كانا مؤمنين أو يشقى إن كانا كافرين، قال (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث الطويل: (.. وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) [10].
الدرس الثالث: يتلقاه المسلم بعد البلوغ من العلماء الربانيين والأمناء والعارفين الذين حصلوا هذا العلم من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، ومن صحبة صفوة الله من خلقه وخيرته من عباده، وهم أهل التمكين وحق اليقين بعد عين اليقين.
ومن تلقى هذا العلم من علماء الكلام أو من الفرق المتفرقة أهل الرأى والجدل والبحث والدلائل العقلية، لم يفز بالتوحيد، بل ارتد بالشكوك فى لبس من خلق جديد، أعاذنى الله وإخوانى من أن نتلقى هذا العلم بموازين أهل الكفر من اليونان والرومان والفرس ونترك ما جاءنا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عند الله.
الدرس الرابع: يتلقاه المسلم من القرآن والسنة ذوقاً وإلهاماً حتى يبلغ درجة يقرأ القرآن فيسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ويرقى إلى مقام يسمع فيه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حالة استحضار، ولديها يتفضل الله تعالى عليه فيقربه قرباً ينال به حالة روحانية يستظهر منها القرآن من الله تعالى، وهنا نطوى بساط دروس التوحيد فى مقامات التمكين غيرة للأسرار العلية ورحمة بالعقول الإنسانية، ومن طلب المزيد لزم أعتاب المرشد الكامل.
- أنواع التوحيد:
- توحيد الإقرار: ومأخذه قوله (صلى الله عليه وسلم) (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) [11]، وهذا الإيمان يحفظ الله به العبد من ذل الكفر، ويحفظ الله به ماله ودمه ولو لم يكن معتقداً. ومن أقر دخل الجنة مهما كانت ذنوبه، فالإقرار بالتوحيد نجاة فى الدنيا من كل شدة، وفوز بالجنة يوم القيامة إن غفر الله له ذنوبه، أو رجوعه إلى الجنة إن حاسبه الله عليها، ومن أقر بالتوحيد معتقداً، وعمل بشرائع الإسلام: دخل الجنة مع الذين يقولون: (هاؤم اقرأوا كتابيه) [12].
- توحيد العلم: ومأخذه قوله سبحانه وتعالى: (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو) [13].
وهذا التوحيد ينتج الإيمان بعد وضوح الدلائل المشرقة فى الكائنات وشهود الآيات البينات، وصاحب هذا التوحيد مؤهل للفقه فى دين الله وذوق أسرار القرآن المجيد وصحبة أبدال رسل الله، بل وصحبة الوارث الفرد الجامع. وإذا عمل هذا الموحد العالم بعلمه، ذاق حلاوة الوحدة فى الكثرة.
- توحيد الشهود: مأخذه قوله سبحانه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [14]. وهذا التوحيد الشهودى ثمرته الإستقامة، وصاحبه يتمكن فى مقام الإحسان، قال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) [15]، وهو الواصل المتصل، بل هو نجم لآله وخلانه، يسقى الماء واللبن، ويمنح الفضل والمنن.
- توحيد وجود التوحيد: مأخذه من قوله سبحانه وتعالى: (قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون)[16]. ووجود التوحيد يدار فيه خمرة المحبة بالعناية، وتمنح فيه حلل الولاية، وصاحبه جذب جذبة الخلة طمست بقية آثار بشريته الباطلة، فإذا حفظ السر وقهر الحال اتحد بالمتعال، لأنه رام فهام، وكان فبان، غار الحق عليه فأمسكه لديه، قال تعالى: (إن الذين عند ربك) [17]، وقال سبحانه: (0لهم ما يشاءون عند ربهم) [18]، وهم القائمون لله بالحجة، الموضحون للمحجبة، تجاوزوا الرسوم والجسوم والعلم والعرفان إلى مقام قاب قوسين اتباعاً للحبيب الأكبر (صلى الله عليه وسلم) ،وفى الأثر (أوليائى تحت قبائى لا يعلمهم غيرى) ، إن صالت عليه صولة الاتحاد أو غمرته أنوار القدر غشته العزة بصفة البشر سر قوله تعالى: (0مرضت فلم تعدنى وجعت فلم تطعمنى وعريت فلم تكسنى) [19]، وإن فاجأه متكبر بحرب أسرع إليه الرب معنى قوله فى الحديث القدسى: (من آذى لى ولياً فقد آذنته بالحرب) [20]، جمله بحلة الخلافة، وتوجه بتاج أبدال أكمل مرسل صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [21] وقوله تعالى: ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) [22]. وصاحب هذا المقام عشق فاحترق، وجذب فاصطفى وصوفى، اضمحلت فى وصفه العلوم واندثرت فى آثاره الرسوم.
- محو التفريد بالتوحيد: وهو النوع الخامس: لا يسطر على صفحات الأوراق، ولا يباح للعقول والأفهام، لأنه محو التفريد بالتوحيد سر قوله تعالى: ( وما قدروا الله حق قدره) [23]، ولكنه يشم شميماً من إشارات أهل التمكين فى حال اصطلام صولة ، وهى نتف من الإشارات لا تعقل ولا تذاق للنفوس، قال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)[24]. ومن نظر إلى الجديد لا يذوق حلاوة التوحيد، والموحدون نظروا بعين المحبة الأزل أنه على ما هو عليه لم يزل، ولكنهم ميزوا بين الحادث والقديم فلم يلتبس عليهم الأمر بخلق جديد.
- وقال الإمام عن التوحيد[25]:
التوحيد هو الشراب الطهور الذى سقاه الله بيد عنايته من سلسبيل محبته إحساناً منه سبحانه بسابقة الحسنى أزلاً.
وهذا العلم يتلقى من: القرآن والسنة، ومن افواه أهل الخشية من الله الذين واجههم بجماله العلى مواجهة منحتهم اليقين الحق فرأوا ملكوت السموات والأرض.
وليس للعقول- وإن كملت- قوة تستبين بها حقيقة هذا العلم لأن المطلوب على عظيم. غيب عن الأرواح والدليل عليه خفى، وإنما هو الحس يحكم على الأجسام والأغراض، وفى هذا العلم لا يقاس الغائب بالحاضر، لأنه منزه عن النظر والشبيه، ومن طلب هذا بالبحث والنظر ارتد خاسئاً وحسيراً، ولكن لابد ن رياضة النفس بالنظر إلى الكائنات لتنبلج الآيات.
وإذا ظهرت الآيات انشرح الصدر واطمأن القلب، فأقبل العبد سميعاً مطيعاً مؤمناً بما يتلى عليه من آيات التوحيد فى القرآن والسنة وعبارات وإرشارات السلف الصالح. والعقل مقهور مخلوق، منحه الله القوة التى يدرك بها المصالح، وليس له أن يحكم على القهارالقوى ولا أن يحوم حوالى سواطع أنوار العزة والعظمة والكبرياء، قال تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) [26].
والذى دعا علماء الخلف إلى هذه الحرب الطاحنة بينهم إثباتاً وسلباً وتشبيهاً وتعطيلاً، أمران عظيمان:
الأمر الأول: إقامة الحجة على أعداء الإسلام من المجسمين كالنصارى واليهود والمجوس والصابئة والمشبهين كالغلاة من الزنادقة والفلاسفة والشاطحين من الممرورين الذين ارتاضوا على أيدى الجهلاء وتركوا مجالسة أهل العلم بالله تعالى العارفين واعتزلوا الناس اتشغالاً بالذكر والخلوة قبل أن يتعلموا العلم النافع فمثلوا الحق بأوهامهم وشبهوه بخيالاتهم، ومن دخل الخلوة للرياضة قبل أن يتلقى العلم النافع والفرق بين التشبيه والتنزيه، هلك بوهمه وخياله، وكان السلف الصالح لا يدخلون السالك للخلوة وله وهم أو خيال فى هذا الجانب.
الأمر الثانى: إنهم وقفوا عند عقولهم فخافوا على الله تعالى فنزهوه سبحانه تنزيهاً اقتضى التعطيل فوقعوا فيما وقع فيه المشبهون، حفظنا الله واخواننا المؤمنين من الخلط فى هذا المقام ومنحنا التسليم لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسلفنا الصالح.
ولا ينبغى للسالك فى طريق الله أن يلتفت إلى أى شىء قبله إلا ما لايتحصل على هذا العلم إلا به من الضرورى كالغذاء والنوم وقضاء حاجة الإنسان والسعى فى تحصيل ذلك. ولا أعنى به أن يتلقاه الإنسان بالطريقة التى يلقنها أدعياء العلم بالأقيسة المنطقية التى أخذوها عن اليونان، فإن ذلك والعياذ بالله من البدع المضلة، ول يكن فى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فى عصر الصحابة رضوان الله عليهم ولا التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما تتلقى العقيدة بطريقة السنة كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمآخذ القرآنية، فإن الله تعالى بينها فى كتابه العزيز بطريقة البرهان الذى لا يفهمه إلا من تزكت نفسه وصفا خياله واطمأن قلبه للحق بما جعله الله فيه من النور والهدى.
- وفرق الإمام بين علم التوحيد والعلوم الظاهرة[27]:
قال رضى الله عنه: واعلم أن علم التاوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف فى سائر العلوم الظاهرة رحمة، والاختلاف فى علم التوحيد ضلال وبدعة والخطأ فى العلم الظاهر مغفور، وربما كانت حسنة إذا اجتهد، والخطأ فى علم التوحيد وشهادة اليقين كفر قبل أن العباد لم يكلفوا حقيقة العلم عند الله تعالى فى طلب العلم الظاهر، وعليهم واجب موافقة الحقيقة عند الله فى التوحيد، ومن ابتدع شيئاً ردت عليه بدعته، وكان مسئولاً عنه، ولم يكن حجة لله تعالى على عباده، ولا غيثاً ولا نافعاً فى بلاده، بل كان موصوفاً بالدنيا وفيها من الراغبين، ولم يكن دليلاً على الله عز وجل ولا من دعاة الدين ولا إماماً للمتقين.
- قصيدة فى حقائق التوحيد:
يبين الإمام مقام اليقين بدرجاته وهى علم اليقين وحق اليقين.. وهى التى تمثل علم التوحيد وعين التوحيد وحق التوحيد وكلها جواذب للحق لا تذاق إلا بالمرشد الرجل فرد وقته وزمانه.. كل هذا فى قصيدة احتوت كل علوم ومشاهد ومعارف ولطائف ودقائق التوحيد:
فوق علم التوحيد عين اليقين فوقها الحق حظـوة التمكين
نور علم التوحيد يخفى المبانى حيرتـنى فيه مبدأ التلـوين
فيه صح التعبير سر بيانى ثم عين التوحيد فى المضمون
فوق فحوى إشارتى وبيانى فى خفاء من الكتاب المبين
ثم حق التوحيد فى غيب غيب فوق إدراكنا بكنز مصـون
كل ما لاح فهو علم بيان من إشـارات عالم بالديـن
ثم عين التوحيد للروح تجلى فى مقام اصطفاء أهل اليمين
ثم حق التوحيد غيب خفى غامض قد يلوح فى التعيين
لم تسعه الأوراق بل ولسانى لم يبحه من مبدأ التكوين
فوق ذوقى وفوق حالى وكشفى وهو فضل من منعم ومعين
رأس مال المريد علم يقين قصد أهل الوصال عين اليقين
جذبة القرب بعد علمى وحبى وهى عين اليقين فى التمكين
جذبة الاتحاد عين يقيـن فى مقام الصف ا لكل أمين
مشهـد الانفراد حق يقين أفرد الله باختفاء الشـئون
جذب عبدية لأحد قريـب سلب كل الظلال والتكوين
بعدها العبد هو كنز المعانى صورة جملت بغيب مبين
نسخة الأصل بل وام الكتاب لوح محفوظ إليـه حنينى
شمس حق تضىء طرق اقترابى فوق شمس النهار فى التبيين
نور أنفاسـه أضاءت قلوباً هيمت كل مخلص ومكين
إن يشر للعلوم أحيا نفوساً أو أدار الطهور صح جنونى
حضرة العبد حظوة للتدانى سـدرة الاجتلا ترى للعيون
هيكل فيه نفخة القدس لاحت للمرادين من ودود مبيـن
من رآه يفـز بعلـم يقيـن يمنح الحب بالصفا المأمون
[1] سورة محمد آية 19.
[2] سورة آل عمران آية 18.
[3] سورة البقرة آية 163.
[4] سورة الحشر آية 19.
[5] سورة ق آية 15.
[6] سورة الزمر آية 23.
[7] سورة الذاريات آية 55.
[8] سورة يونس آية 101.
[9] إشارة إلى قوله تعالى : ( ألست بربكم ) سورة الأعراف آية 172.
[10] البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى وأحمد ومالك فى الموطأ والسيوطى فى الجامع الصغير .
[11] البخارى ومسلم وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة .
[12] سورة الحاقة آية 19.
[13] سورة هود آية 14.
[14] سورة آل عمران آية 18.
[15] سورة فصلت آية 30.
[16] سورة الأنعام آية 91.
[17] سورة الأعراف آية 206.
[18] سورة الشورى آية 22.
[19] مسلم والحافظ الدمياطى فى المتجر الرابح .
[20] البخارى بلفظ : [ من عادى لى ولياَ ] وأحمد فى مسنده .
[21] سورة الأنفال آية 17.
[22] سورة الفتح آية 10.
[23] سورة الزمر آية 67.
[24] سورة العنكبوت آية 43
[25] فى كتاب : ( شراب الأرواح من فضل الفتاح ).
[26] سورة الأنعام آية 103.
[27] كتاب ( أصول الوصول ) ص 148.