السماع معراج الأنبياء والأولياء ، كما جاء فى الأثر : ( معراج الروح السماع ومعراج القلب الصلاة ) فالجهر والسماع آلات محركات لما فى قلوب العشاق والعارفين لأنهما طعام المحبين ومقوى الطالبين ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : ( من لم يتحرك عند السماع فليس منى ) [1] وإن منكر السماع لا يخلو من أحد أمور ثلاثة : إما جاهل بالسنن ، أو مفتر على ما أباح الله تعالى من الأعمال بالأخبار ، وإما جامد الطبع لا ذوق له ، وقوله تعالى : ( يزيد فى الخلق ما يشاء ) [2] المراد بالزيادة الصوت الحسن ، وفى (( عوارف المعارف للسهرودى )) أن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت : ( كانت عندى جارية تسمعنى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى على حالتها ، ثم دخل عمر رضى الله عنه ، ففرت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : ما يضحكك يا رسول الله ؟ فحدثه حديث الجارية ، فقال : لا أبرح حتى أسمع ما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها فأسمعته ).
السماع على ثلاثة أقسام : محرم ، ومباح ، ومندوب .
* فمن غلبت عليه شهواته وتكدرت بواطنه وفسدت مقاصده فلا يحرك السماع إلا ما هو الغالب عليه من الصفات المذمومة ، فالسماع فى حقه حرام .
* ومن تحرك فى قلبه بالسماع محبة زوجته ، أو تذكر به غالباَ أو ميتاَ فيثير به حزنه فيستريح بما يسمعه فالسماع له مباح .
* ومن غلب عليه حب الله والشوق إليه ، فلا يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة ، وتضاعف الأشواق إلى الله ، واستدعاء الأحوال الشريفة والمقامات العلية والكرامات السنية والمواهب الإلهية فالسماع له وفى حقه مندوب بل واجب ، فسماعه ذكر من الأذكار مكتوب فى صحائف الأبرار ، وسماع الصوفية من هذا القبيل وهو ممدوح ومحمود عند العالم النحرير [3].
والسماع عند الإمام المجدد أبى العزائم من النوع الثالث ؛ الناتج عن إمعان النظر فى الآيات وشهود تجليات جمال الحق فى الخلق عند سماع آيات الحق تتلى سر قوله تعالى : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) [4] وقوله تعالى : ( إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [5] وقوله سبحانه : ( ورتل القرآن ترتيلاَ ) [6].
روى البخارى وأبو داود والترميذى حديث السيدة عائشة رضى الله عنها : ( كان النبى صلى الله عليه يضع لحسان منبراَ فى المسجد يقوم عليه قائماَ يفاخر عن رسول الله أو ينافح – أى يرد عنه هجاء الكفار بالشعر ويباهيهم به – ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يؤيد حساناَ بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعندما تحدث الإمام رضى الله عنه عن السماع قال [7] :
(( إن السماع من أكمل أنواع تزكية النفوس خصوصاَ مواجيد أهل الصدق ممن وقع بهم العلم على عين اليقين وهجمت عليهم صولة الحق فأفنتهم عنهم فيترنمون بألحان شجية ، وتلك المواجيد خصوصاَ لأهل النفوس الطاهرة الطيبة نوع من أنواع الرياضة والتزكية ، فإذا صغت الآذان إلى تلك المعانى القدسية بالألحان الشجية زكت النفس وأقبلت وأحبت من تتغنى به عن وجد وحال ، قال الله تعالى : ( ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراَ لهم وأقوم ) [8] ، وقال تعالى : ( واتقوا الله واسمعوا) [9] ، وقال جل جلاله : ( واسمعوا وأطيعوا ) [10]، وقال تعالى : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) [11] وقال تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) [12] ، وقال عز وجل : ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) [13] ، وفى الأثر : ( الصوت الحسن نفس من نفس الرحمن ).
معلوم أن الأسرار الإلهية المتعلقة بكمالات الأسماء والصفات لا طريق لها إلا السماع ، قال الله تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاَ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) [14] ، فجعل الله تعالى الأبصار للإنسان ليشهد الكائنات وبها تظهر الايات للأفئدة ، وخلق الله له السمع ليصغى إلى كلام الله تعالى وبيان رسله عليهم الصلاة والسلام فيوصل تلك الأنوار إلى الأفئدة فتفقه أسرار الله وتنعقد على الحق .
وقبل أن أتكلم على السماع عند القوم أبين الخلاف فيه ، وقد وضحت جملاَ منه فى كتاب ((معارج المقربين )) ولما كانت النفوس قبل تزكيتها وتطهيرها من لقسها ينبغى أن يكون لسماعها رنين سياط الإنذار والتخويف حتى تطهر من طمع فى الدنيا وغرور بها ، ثم يترقى السماع إلى سماع البشائر بالملاذ الباقية والنعيم الأبدى حتى تزكو من الإخلاد إلى الأرض ، ثم يكون السماع بنغمات الرغبة والرهبة ليصفو جوهر النفس صفاء يجعله مستعداَ لتلقى العلوم النافعة ، ثم يكون السماع بسماع الحكمة الغالية لاستجلاء تلك الحقائق فى جوهر النفس فتنجذب بالكلية إلى عالمها الأعلى وتفارق مفارقها وترى الدنيا كما وصفها الله تعالى بقوله سبحانه : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) [15] والمتاع هو سقط البيت الذى لا ينتفع به ، وكفاها تعاسة أن الله سماها دنيا لأنها مأخوذة من الدون ، فإذا صفا جوهر العقل وقبل العلوم النافعة بطريق السماع واتصل بعالمه الأعلى بحسب الحقائق العلمية التى نقشت عليه ، انفتق رتق القلب فصغت أذن القلب إلى نغمات الكائنات وفقهت تسبيح كل شئ كما قال تعالى : (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ) [16] وللكائنات نغمات تبتهج بها الأرواح متى صغى إليها القلب اطمأن بمقابه سبحانه ، ومتى اتصلت النفس بعالمها الأعلى التى هى منه سكنت إلى منفسها سبحانه ، وإذا اطمأن القلب بمقلبه وسكنت النفس لمنفسها كان السماع معراجاَ للوصول وبراقاَ للقبول يحصل به للنفس سياحتها الروحانية فى ملكوت الله الأعلى وقد شرحت لك السياحة الروحانية فى كتاب (( الفرقة الناجية )) . ومتى ساحت النفس فى ملكوت الله الأعلى تجافت عن دار الغرور واتصلت بالنور فحصل لها الحضور ، كل ذلك بسر السماع .
وقد يخطئ بعض الناس فيذمون السماع . نعم ، ولكن يلزم أن يكون ذمه من الجهة التى يذم منها ، فإن أهل النفوس النجسة التى لم تتزك ولم تخرج من مقتضيات عناصرها إذا سمعوا الحكمة جذبتهم حظوظهم إلى ما لا يحمد ، فمنهم من يعنيه السماع على عمل المحرم كالزنا وشرب الخمر والقتل وبذل الأموال فى غير الوجهة الشرعية وإثارة العواطف وفساد الأخلاق ، وهذا السماع محرم شرعاَ ويجب أن يحجر عليه ، ومن السماع ما هو أشد حرمة من هذا ، وذلك أن يجلس أهل النفوس النجسة فى مجالس بين العامة ممن لم يحصلوا العلوم الشرعية اللازمة لهم من التوحيد والفقه وعلم الوعد والوعيد والإنذار والتبشير والإيمان بيوم الحساب ومعرفة الأسباب التى وضعها الله لعمار الكون وربط بعضه ببعض ، وقد جعلها دلائل وحدانيته ببراهين على حكمته وقدرته ، فإن أمثال هؤلاء إذا جلسوا فى تلك المجالس أو سمعوا هذه الحكمة أخرجتهم عن الاعتدال فضلوا وأضلوا .. نسأل الله السلامة .
إن مثل هذا السماع من أكبر الكبائر شرعاَ ، لأن الشرع ينظر إلى نتائج الأعمال ، وهذا السماع ربما أنتج القول بالحلول ، أو أنتج ترك الأعمال الشرعية ، أو أنتج محو الأحكام وعدم الأسباب ، وربما عمت البلية فادعى تلك المعانى أهل الجهالة ممن لم يعرفوا أنفسهم ، فضلاَ عن معرفة الله تعالى وأيامه وأحكامه ، وجعلوا تلك الأسرار العلية مصائد للدنيا بالدين ، قال صلى الله عليه وسلم :
( ملعون ملعون .. قالوا : من يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : من طلب الدنيا بعمل الآخرة ) [17] وقال صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدرهم والدنيا تعس وانتكس .. وإذا شيك فلا انتقش ) [18] وقال تعالى : ( ولا تشتروا بآياتى ثمناَ قليلاَ وإياى فاتقون ) [19] .
وإنى لا أعذر رجلاَ نشر الحكمة بين العامة فأفسد عقولهم وأعذر العامة ، ولا ألوم بخل بالحكمة غيرة عليها أن يتناولها غير أهلها ، وكيف توضع الجواهر تحت أقدام الخنازير ؟.
وعلى ذلك فالعاقل لابد وأن ينظر قبل الحكم إلى نائج العمل ، فإذا أنتج خيراَ فخير ، وإن أنتج شراَ فهو محرم لأنه أنتج شراَ .
وكيف يحرم السماع ، وإنما تأسست الأديان على السماع ، وما من نبى بعثه الله تعالى إلا وأنزل عليه ما يتلوه على قومه ، وما من عالم بين قومه إلا وقام يبين للناس ما نزل على رسله عليهم الصلاة والسلام )).
وكعادته رضى الله عنه يجعل الحديث عن موضوع واحد فى أكثر من كتاب وحسب ما يقتضيه مقام المخاطب ، فتراه رضى الله عنه فى كتاب (( معارج المقربين )) يتحدث أيضاَ عن السماع من ناحية الحكمة الإلهية وأنواعها وكيفية تلقيها والعمل بها فيقول:
الحكمة الإلهية إما روحانية أو جسمانية :
فالحكمة الجسمانية نوعان : أحكام شرعية علمية عملية ، وأحكام صحية تتعلق بدوام صحة الجسم ، وحفظ الصحة عليه ، وهى الحكمة التى يجب التقليد فيها للأئمة الصادقين وللمجربين العالمين ، ويجب تلقيها علماَ وشهودها عملاَ ، والسماع فيها واجب شرعاَ ، لأن تعليمها فرض عين فى أحكام الشرع فى أصول الدين وفروعه التى لابد منها عند وجوبها على العامل ، والتوسع فى جميع الأصول والفروع فرض كفاية على الأمة .
والحكمة الروحانية نوعان :
الأول : عقائد لابد منها للمسلم إجمالاَ ، وأخلاق لابد منها لحسن المعاملة الضرورية .
والثانى : تفصيل العقيدة ، وعلم ما يمكن أن يتلقاه المؤمن الكامل الإيمان من أسرار الحكمة الإلهية من الكمالات الذاتية ، والجمالات والجلالات ، وسر تصريف القدرة وعجائب تجليها وكشف غوامض الحكمة وشهود معانيها ، وعلم النفس وأنواعها وأمراضها ودوائها وتصفيتها من الحظوظ والأهواء ، وعلم أسرار الكائنات ومراتبها ، وذوق أسرار التجلى والتنزيه والتشبيه ، والتدلى والدنو والنزول والزهد ، والتوكل والتفويض ، والرغبة والرهبة ، والخوف والخشية ، والطمع والرجاء ، والفناء والبقاء ، والجمع والفرق ، والعلم بالله والمعرفة ، والكشف والشهود ، وأسرار البرزخ والقيامة ، والمعية والعندية ، ويلزم ذلك من أسرار الحكمة التى لا تتلقى العبارة ولا بالإشارة ، والتشبيه بالمعانى ، والتخلق بالأخلاق الإلهية .
كل ذلك من الحكمة الروحانية التى لا ينبغى التقليد فيها إلا بعد إشراق أنوارها على القلب المطمئن ، حتى تنبعث تلك الأنوار على جميع الأعضاء العاملة ، فيقوم كل عضو بكمال وظيفته ، ولديها يتلقى القلب عن الرب ، فينجذب إلى عوالم الروحانيين ويذوق من كل الموجودات ذوقاَ روحانياَ بحسب مأخذ كل عضو .
أن كانت معانى الألوهية والكمالات الذاتية لا ظهور لها فى عالم الحس والخيال ، كانت الحكمة الإلهية السمع ، وكلما إشارة صفت الروح وتقوت ، وكان لها السلطان الأكبر على الإنسان فجذيته إليها ، وتطهر من كل مقتضيات رتبته ، وتسلى عن لوازم مكانته ، واشتاق إلى عوالم الملكوت ، حتى يتم الشبه ، ولديها يسكن إلى الله فيحركه الله ، وهو الساكن المحرك ، ويفنى فى الله فيبعثه الله ، وهو الميت الحى ، ويغيب عن نفسه بالله ، فيظهره الله مجملاَ لخلقه ، ويعبد الله خالصاَ ، فيسخر له الله جميع خلقه .
وفى هذا المقام يكون السماع فرض عين على هذا الواجد ، لأنه يسمع الروح ، ويفقه عن الله ، وذلك لأن الحكمة الإلهية لما كانت ألفاظاَ مقربة للمعانى ، وكان مدلول الألفاظ محسوساَ أو متخيلاَ ، ومعانى الربوبية فوق الحس والخيال ، كانت الألفاظ المسموعة للمتمكن دالة على حقائق المعانى المرادة للحكيم بسماعها مزيد من الله لمن زكت نفسه وتهذبت . ولذلك كان للوجود نغمات وللأوتار نغمات دالة على أسرار الحكمة ، تسكر بها الأرواح ، ألم تر قوله تعالى : ( وإن من شئ إلا يسبح بحمده ) [20]. إن كل شئ دال على معانى الظاهر ، مسبحاَ جنابه العلى عن الإدراك بالتحديد .
وكثيراَ ما يتغنى الإمام أبو العزائم بمواجيده النظمية فتراه يجمع فيها بين مراتب السماع ودرجاته وأطواره المختلفة ومناسباته المتعددة التى لا يخلو منها زمان أو مكان ، ولا يفرغ منها حال السالكين طريق رب العالمين فتراه يذكر السماع الأول فى يوم
( الست بربكم ) [21] ويذكر به دائماَ فيقول :
أهل المحبة من ( الست ) سكارى
لما لهم قد أشهد الأنوار
شهدوا جمال حبيبهم سمعوا الندا
لبوا له متبتلين مرارا
أنا من ( ألست ) مهيم بجماله
أنتم معى إذ أظهر الأنوار
ويقول أيضاَ :
يا قلوباَ بالحب لاح ضياها
فحباها المولى له واصطفاها
أنسها ذكره ورؤيا المعانى
فتجلى لهـا بها ودعـاها
أنبئينا بمبدأ الحال حتـى
تتجلى شمس الهدى فنراها
ذاك سر قد كان قبل ( ألست )
قد رأينا جمالها وحـلاها
خصصتنا يد العنايـة قدما
لنرى وجهها بأفق علاها
أسمعتنـا خطابهـا فأجنبـا
بهيـام ولوعـة لدعاهـا
جملتنـا بها فملنا إليهـا
بهيام لا نلتفت لسـواهـا
وتراه رضى الله عنه حيناَ آخر يتحدث عن الذكر وما فيه من شهود جمالات المذكور سبحانه ، وأول الذكر أن تعلم أنك تخاطبه ويقينك سماعه لك ، ثم تترقى حتى تذكره ذكراَ كثيراَ يذكرك به سر قوله تعالى : ( فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون ) [22] فتسمع لذيذ خطابه وجميل كلامه .. يقول رضى الله عنه :
ما لنا حال ذكرنا فى هيام
وانجذاب ولوعـة وغـرام
ذا لأنا إذا ذكرنا حضرنا
وشربنا فى القدس ما فى المدام
يتجلى المحبوب علنا فنرأى
وجهـه ظاهراَ بغيـر لثام
ما ذكرنا إلا حضرنا وطبنا
وسمعنـا منـه جميل الكلام
ذاك ذكر لكنـه خمر قدس
قد أديرت برأفة وسـلام
ما ذكرنا إلا سكرنا بخمر
من يد المصطفى سراج الظلام
ياعزولى لوذقت من راح قدس
حال ذكرى لا تسمعن لملام
ذاك ذكر به القلوب اطمأنت
وترقت إلى عـلى المقـام
ثم يتساءل رضى الله عنه بأسلوب رقيق عذب فيقول :
وكيف وأهل العشق إن ذكروا
لهم حبيبهمو حنوا إليه وتاهوا
يحن فؤادى إن ذكرتم حبيبه
لأن سماع الذكر عين مناه
أيسمع قلبى اسم الحبيب مكرراَ
ولا يشهدن أسراره وحلاه ؟
وهكذا تراه رضى الله عنه يتغنى ولكن عن وجد ، ويتحدث ولكن عن شهود ، يجذب قلوب السامعين ، ويأخذ بأيدى الحيارى ويسلك بهم على طريق الهداية ، فتجده رضى الله عنه يحدد معنى كلمة الأغانى وتأثيرها ومتى يسمعها المريد ، فهو رضى الله عنه يحذر المريد فى بدايته من سماع أغان تجلى الله بها على قلوب أهل الحق رحمة بهم ومحافظة على حالهم وصحتهم الروحانية فيقول :
إن الأغـانى راح للمريدينـا
بها الوصول إلى أعلى وعالينا
تهز قلب مراد والـه فيـرى
نوراَ فيحجب عنه الحور والعينا
يفنى به عنه حال الاتحاد به
يغشاه نور فيخفى عنه تكوينا
تغشى المعانى سدرته فتنظره
فرداَ تجمـل تحقيقـاَ وتمكينـاَ
تلك الأغانى أرتلهـا لخلوتهـ
لمن صفا بالصفا حباَ وتكوينـاَ
لا يسمعنها مريد فى بدايتـه
وهى الطهور وكان السر مكنوناَ
دارت بحانات تنزيه وقد سبقت
له به صار بعد الرشف مجنونا
تخفيه عنه وعن دنيا وآخـرة
فر المراد إلى مـولاه مأمونا
سر إذا لاح أخفى الآى أجمعها
لا تظهرنه وأفق السر مضنونا
أهل الصفا عن عيون الخلق قد
ستروا أخفوا مشاهدهم رهباَ وتحنينا
لا يسمعون سوى الأفراد نغمتهم
ما زال سرى فى الآيات مكنونا
كيف الإباحة بالأسرار فى ملإ
وهى الحقيقة تصريحاَ وتيقينـا
روحى قبيل بيانى قد أجود بها
سمحاَ بها وأرى الأغيار تكوينا
أخشى على الدر أن يلقى بمزبلة
فيزدرى .. وأخون الحق والدينا
لى جلوة تخفى عن عالين ظاهرها
نور تنزل ، فافهم دمت مأمونا
كيف البطون؟وهل أبدى مشاهدتى
إلا لفرد تجرد ؟ لا دنيا ولادينا[23]
قد فر لله فى سر وفى علن
والوجه مقصده .. والله يهدينا
وعندما كانت ترى عين حسه آثار قدرة الله ، ويصغى سمع قلبه تسبيح الآيات فى الآثار سر قوله تعالى : ( وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم ) [24] يقول :
نغمات تسبيح الكيان مدامى
يصغى لها قلبى يزيد هيامى
يا أيها الآثار أنت ستائـر
للآى أى دلائل الإعظام
قلبى إلى التسبيح يصغى واجداَ
وجد المؤله من فصيح كلام
يا أيها الآثـار أنت مظـاهر
للروح لا للعقل والأوهام
والسماع عند الإمام دائماَ ما يرتبط بالراح والشراب وخمر الجلالة فيقول :
تغنوامعى بالحال إن دارت الراح
فكم عند شراب الراح تصعق أرواح
فداوود بالمزمار غنى فأوبـت
بألحانـه الأشبـاح والأرواح
وها أنا مخمور براح مقـدس
لم تـدره الأرواح والأقـداح
تناولته من قبل مجلى حقيقتى
وناولـه الوهــاب والفتـاح
ويقول عندما استمع مرة إلى نغمة الأوتار :
نـغـمـة الأوتـار والـراح المـدار
كشفا لى الستار عن غيب مصون
نغمة الألحان تنبى بالجمال الصرف قلبى
طــاب لـى فيـه الجنـون
صبوتى بعد المشيب فاشهد الحسن المهيب
أظهرت نور الحبيب لاح جهراَ للعيون
وعندما استمع إلى أوتار البيانو لأول مرة ، أنشد بعد السماع فقال :
اضربى نغمات أوتار القلوب
فالبيانو قد ألاح لنا الغيوب
نغمة تشجى تذكرت الهوى
فترى سر الحقائق والغيوب
أسمعينى نفخة القدس التي
شاهدت فى البدء أنوار الحبيب
وإذا سمع قيثارة ذكرته بحبيبه فقال :
نغمة الأوتار قد أزكت هيامى
وشقامى لا أطيق جوى الغرام
ويقول مخاطباَ ( كامل ) ضارب العود :
أكامل إن العقل يدرك حكمة
فى نغمة الأوتار والمزمار
والروح تدرك حكمة روحية
مما توقعه من الأسرار
أيا أيها الأوتار جددت الهوى
بشجى ألحان من السمار
وإذا سمع قمرياَ [25] يشدو على الأغصان أخذت به هذه النغمات فتذكر هيامه بحبيبه صلى الله عليه وسلم وحنينه إلى ربه تعالى فقال :
لمن الحنين أيا أولى الأشواق ؟
هذا حنين الروح للخلاق
ثم يقول محدثاَ القمرى :
حنينك يا قمرى جدد لوعتى
وأشهد روحى حسن وجه الباقى
وسمع رضى الله عنه من يغنى فيقول : يا ليل يا عين ، فأنشد يخاطب رمزهما فى الإنسان وهما الجسم والروح ، والظاهر والباطن ، فقال :
أهل المحبة فى شوق إلى العين
والعين فى غيهب التنزيه واللون
واللون سر تجليها لطالبهـا
يمحو سواها بلا كون ولا أين
والعين واحدة والليل أظهرها
يا عين يا ليـل هيا وفياَ دينى
ما الليل إلا ستار يحجب المعنى
والليل كفر ولكنه حجبة الزين
زين الجمال تجلى العين ظاهرة
للعاشقين بلا ظـل ولا شـين
يا عين يا ليل قلبى واله ، روحى
قد شاهدت فيك أسراراَ من الحسن
ياليل يا عين ما لى قد أبوح بما
لم يستطعه فتى من حيطة الكون ؟
[1] روى الحافظ أبو نعيم عن الإمام على كرم الله وجهه أنه وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( كانوا إذا ذكروا الله تعالى مادوا - تمايلوا – كما تميد الأشجار فى اليوم الشديد الريح ).
[2] سورة فاطر آية 1 .
[3] ( حجة الذاكرين ورد المنكرين ) تأليف الشيخ عبد القادر الإربلى ، ص 16،17.
[4] سورة الزمر آية 17 ، 18.
[5] سورة ق آية 37 .
[6] سورة المزمل آية 4 .
[7] كتاب ( من علوم المضنون ) للإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم تحت الطبع .
[8] سورة النساء آية 46 .
[9] سورة المائدة آية 108 .
[10] سورة التغابن آية 16 .
[11] سورة سورة الزمر آية 17 ، 18 .
[12] سورة الأهراف آية 204 .
[13] سورة المائدة آية 83 .
[14] سورة النحل آية 78 .
[15] سورة آل عمران آية 185 .
[16] سورة الإسراء آية 44
[17] الطبرانى فى الكبير بلفظ ( من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه ، ومحق ذكره ، وأثبت اسمه فى أهل النار )
[18] البخارى وابن ماجة .
[19] سورة البقرة آية 41 .
[20] سور ة الإسراء آية 44 .
[21] سورة الأعراف آية 172 .
[22] سورة البقرة آية 152 .
[23] لا دنيا ولا دينا : أى فارغ القلب من هم الدنيا والآخرة ، ويوم الآخرة يوم الدين لقوله تعالى ( مالك يوم الدين ) .
[24] سورة الإسراء آية 44 .
[25] القمري : منسوب إلى طير ( قمر ) بوزن حمر جمع (أقمر ) وهو الأبيض أو جمع ( قمرىّ ) مثل رومى وروم - ( مختار الصحاح ) .