الحديث الثاني

09/04/2021
شارك المقالة:

عن أبى هريرة رضى الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

((الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إنى صائم مرتين .والذى نفسى بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك .يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى الصيام لى وأنا أجزى به .والحسنة بعشرة أمثالها ))

متفق عليه .واللفظ للبخارى .

((الصيامُ جنة )) بضم الجيم ،أى وقاية وستر لصاحبه ،يقيه ما يؤذيه من الشهوات فينبغى للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه ،وهو سترة بحسب فائدته وهو إضعاف شهوات النفس ،ويصح أن يراد سترة بحسب ما يحصل من الثواب ومضاعفة الحسنات ،وهو سترة من الآثام والنار ،وإنما كان الصيام جنة من النار لأنه إمساك للشهوات والنار محفوفة بالشهوات ،فالحاصل أنه كف نفسه عن الشهوات فى الدنيا فكان ذلك ساترا له من النار فى الآخرة ،وقد وردت روايات كثيرة بهذا المعنى منها ،الصيام جنة من النار ،والصيام جنة كجنة أحدكم من القتال والصيام جنة مالم يخرقها بالغيبة ،فإن الغيبة تضر بالصيام روى عن عائشة أن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم ،وقال ابن حزم ،يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كان فعلاًأو قولاً ،لقله صلى الله عليه وسلم ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه )) ،روى عن النسائى عن أبى أمامة قال ،قلت يا رسول الله مرنى بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم فإنه لا مثل ،وفى رواية،لا عدل له ((فلا يرفث )) النهى للتحريم ،وهو شامل لكل قول قبيح ،وهو يطلق على هذا وعلى الجماع ومقدماته ((ولا يجهل ))أى لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهالة كالصياح والسفه ونحو ذلك ،قال القرطبى ،لا يفهم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذكر ،وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم ،((وإن امرؤ قاتله أو شاتمه ))أى لو شتمه إنسان أو سابه أحد أو ماراه فلا يجيبه إلا بقوله ((إنى صائم ))وإن كان قائما فليجلس ،أى إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إن صائم ،فإنه إذا قال ذلك أمكنه أن يكف عنه ،فإن أصر دفعه بالأخف ولا يقابله بمثل فعله ،بل يقتصر على قوله :إنى صائم ،واختلف فى المراد بهذا القول هل يخاطب الذى يكلمه بذلك أو يقوله فى نفسه كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ،ولو لكان حسناً ،قال الرويانى إن كان رمضان فليقل بلسانه وإن كان غيره فليقل فى نفسه ،فمرة يقول بقلبه ومرة بلسانه فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه كف خصمه عنه ،هذا فيمن يرون مقاتلته حقيقة،فإن كان المراد بقوله قاتله ،شاتمه فالمراد من الحديث أن لا يعامله بمثل عمله ،بل يقتصر على قوله ((إنى صائم ))

قوله ((لخُلُوف ))بضم الخاء والام ،والمراد به تغيير رائحة الفم بسبب الصيام قوله ((أطيب عند الله من ريح المسك ))والله فتره عن استطابة الروائح إذ ذاك من صفات الحيوان فهو يعلم الشئ على ما هو عليه فهو مجاز لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منه فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله ، فالمعنى أنه أطيب عن الله من ريح المسك عندكم أى يقرب إليكم المسك ،والصوم يقرب إليه سبحانه ،وقيل المراد إن ذلك فى حق الملائكة وإنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما تستطيبون ريح المسك ،وقيل المعنى إن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم ،وقيل إن المراد أن الله تعالى يجزيه فى الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتى المكلوم وريح جرحه تفوح مسكا ، وقيل إن الصائم ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف ، والمعنى أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك المندوب إليه فى الجمع ومجالس الذكر ،وقيل إن للطاعات يوم القيامة ريحا تفوح ورائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك ،فطيبه عند الله رضاه به وثناؤه عليه وأفضليته ثابتة فى الدارين ،والخلوف أعظم من دم الشهادة لأن دم الشهيد شبه بريح المسك والخلوف وصف بأنه أطيب من ريح المسك ،ولا يلزم من ذلك أن يكون الصيام أفضل من الشهادة لما لا يخفى ولعل سبب ذلك النظر إلى كل منهما ،فإن أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه ،فكان ما أصله طاهر أطيب ريحاً ،قوله ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى )) مخلصا به لوجه الله ،أما لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل له الفضل الذى أعده الله للمخلصين لذاته ،ولا شك أن من لم يعرض فى خاطره شهوة شئ من الأشياء طول نهاره إلى أن يفطر ليس هو فى الفضل كمن عرض له ذلك فجاهد نفسه فى تركه ،والمراد بالشهوة فى الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب قوله ((الصيام لى وأنا أجزى به ))اختلف العلماء فى المراد بهذا القول مع أن الأعمال كلها لله وهو الذى يجزى بها على أقوال.

أحدها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع فى غيره ،فالصوم لا يظهر من ابن آدم بفعله إنما هو شئ فى القلب وقوله صلى الله عليه وسلم ((ليس فى الصيام رياء ))وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم فإنه يكون بالنية التى تخفى عن الناس ،قال ابن الجوزى :جميع العبادات تظهر بفعلها وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم ،ولما كانت أعمال بنى آدم يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم .

ثانيها :أن المراد بقوله ((وأنا أجزى به ))أنى أنفرد بعلم مقداره وثوابه وتضعيف حسناته ،أما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس .. وثواب الأعمال يضاعف من عشرة إلى سبعمائة ضعفه إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ،وقد جاءت رواية الموطأ بذلك قال الله إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به ،أى جزاءًكثيراً من غير تعين لمقداره وهذا كقوله تعالى : ((إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب )) والصابرون هم الصائمون فى أكثر الأقوال لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات ،وعن ابن عمر مرفوعاً ((الأعمال عند الله سبع )) الحديث وفيه وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله ،ثم قال وأما العمل الذى لا يعلم ثواب عامله إلا الله فالصيام )) والكريم إذا قال أنا أتولّى الإعطاء بنفسى كان فى ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.

ثالثها :الإضافة إضافة تشريف وتعظيم ،كما يقال بيت الله وإن كانت كل البيوت لله ،فالتخصيص فى موضوع التعميم فى مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف .

رابعها : إن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله ،فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه سبحانه .

خامسها : إنه خالص لله ،وليس للعبد فيه حظ بخلاف غيره فإنه له فيه حظاً لثناء الناس عليه لعبادته .

سادسها : سبب الإضافة إلى الله ،أن الصيام لم يعبد به غير الله بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك ،كما أن الصوم من أحب العبادات إلى الله عز وجل .

وقيل إن جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام ،كما أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال ،بل هو سر استودعه قلب من يشاء من عباده لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده . والمراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصى قولا وفعلا ، فالحسنات يضاعف ثوابها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله ،ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره .

والسبب فى اختصاص الصوم بهذه المزية ، سائر العبادات مما يطلع العباد عليه والصوم سر بين العبد وربه ،يفعله خالصا له ، ويعامله به طالباً لرضاه كما أن سائر الحسنات  راجعة إلى صرف المال أو استعمال البدن .والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للضعف . وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات وفى مشاهد الصوم وحقائقه يقول الامام المجدد السيد محمد أبو العزائم :

رأى جسمى لدى صومى العبودة

فأشهده الصيام به وجوده

دعاه الصوم للتجريد حتى

لقد فك الصيام به قيوده

فكان الصوم لى تركى لتركى

فصالحنى به ونفى صدوده

فليت الصوم لى عاماً طويلا

 أعالج فيه من طبعى جهوده

أعاد الصوم لى بدئى عيانا

فصرت النور لا أدرى حدوده

فالصيام هو ركن من أهم أركان الإسلام وعبادة من أعظم العبادات التى تقرب إلى الملك العلام فرضه الله للحد من شهواته النفس ولتقوية ساطان الروح حتى يستجيب المؤمن لنداء الله ويقف عند حدود الدين .

وصيام شهر فى العام إنما هو فرصته لتغذية الروح والعقل وتطهير النفس وإرهاق الحس بما شرع الله من صيام نهاره وقيام ليلة فينبغى أن تكون بيوت الصائمين عامرة بقراءة القرآن ومجالس العلم النافع لتشرق نفوسهم بالخير وتتزود أرواحهم بقوة الإيمان وتتنزل عليهم رحمة الرحمن وأن يكون للصيام أثره فى بث الرحمة فى القلوب ومد يد المعونة للبائسين نريد الصيام الذى يشفع لصاحبه عند الله حين يقول منعته الطعام والشراب نهارا فشفعنى فيه .

لا يليق بالمسلمين أن تضيع منهم هذه الفرصة فيترك بعضهم الصوم لغير عذر شرعى بل ينبغى لمن أحل الله له الفطر ألا يجاهر به أمام الناس ففيه إيذاء للشعور ومظنّة للتهمة وإغراء للغير بالتقليد وفيه استهانة واحتقار لأمر الله سبحانه وينبغى أن يكون المسلمون فى شهر الصيام عنوانا كريما على حرصهم على طاعة الله وطلبا لرضاه وأن تشيع بينهم روح المحبة والمودة حتى يخرجوا منه وقد صفت قلوبهم وزكت نفوسهم وطهرت أخلاقهم وأن يكون لذلك أثره فى معاملاتهم وحول هذه المعانى يقول الامام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم رضى الله عنه :

صومى الطهر فى ضيا تجريدى

حققنى فى الصوم بالتغريد

فى صيامى نفسى الخبيثة تدعو

لارتكاب الأخطاء نقض العهود

ويح نفسى والشيب جلل رأسى

كيف ألقى فى هوة الترديد

فى صيامى هب لى العناية وفق

للمراضى لمشهد التوحيد

فالصيام الحقيقى هو الذى يجرد الصائم للخير فلا يطلق لسانه بالرفث  واللغو ولا يسبب أحداً ولا يخاصمه فإن سابه أحدا أو قاتله فلا يقابل الإساءة بمثلها وليقل أنى صائم ليذكر نفسه ولعله يذكر من خاصمه بأن كلا منها فى عبادة تدعو إلى الصفح والتسامح إن الإسلام دين فى أبلغ صوره ودين الحق فى أرقى مراقيه وأنبل غاياته يسمو بالمؤمن ويرقى بوجدانه ويزكو بوجوده ويهتم بأخلاقياته ويحرص على سلوكه .ينطق بذلك كل أصل من أصول عقيدته وكل بند من بنود تشريعه ،وكل فريضة من فرائضه أو سنة من سنته وكل فضيلة من فضائله وفريضة الصوم طليعة فى هذا المقام حيث تبنى الانسان المسلم وتعطيه قيمته يقول الامام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم :

صيامى أنس للنفوس وللحس

وفى الصوم  قلبى عرش ربى والكرسى

أصوم وعن علمى وكشفى مشاهدى

لأنى بالله القريب صفا أنس

فقدت وجودى فى شهورى ولم أر

سوى نور أسماء الجميل محت شمس

أيا صوم جملت الحقائق كلها

اورت لنا راحاً طهوراًبلا كأس

تجلى الجميل الحق فى الصوم ظاهراً

لنفخة قدس منه قد ألهت نفسى

فضيلة الشيخ /السيد عبد الحميد الصيفى

العدد (25) السنة الثالثة .رمضان 1409 أبريل 1989

 

 

الإنسانُ خليفةُ اللهِ في الأرض (2)

بيَّنَّا فيما مضى الحكمة من إيجاد الخلق، وأنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) "الإسراء:70"، وجعله مؤهلا لظهور معاني أسمائه وصفاته، وأعده لنيل الكمالات الروحانية أو ارتكاب النقائص الشيطانية.