ما هو الغيب الذي وجب علينا أن نؤمن به؟:
الغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن المفسرين اختلفوا في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وقال آخرون: القضاء والقدر، وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب، وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. وقيل: «بالغيب» أي: بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين.
وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، فالمؤمنون يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بإطلاعه عليهم سبحانه.
من معاني إقامة الصلاة والإنفاق:
وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، يقال: قام الشيء أي: دام وثبت، وليس من القيام على الرِّجْل، وإنما هو من قولك: قام الحق؛ أي: ظهر وثبت.
والإنفاق: إخراج المال من اليد، واختلف العلماء في المراد بالنفقة ههنا، فقيل: الزكاة المفروضة - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - لمقارنتها الصلاة. وقيل: نفقة الرجل على أهله - روي عن ابن مسعود رضى الله عنه - لأن ذلك أفضل النفقة، روى مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينارٌ أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً: الذي أنفقته على أهلك). وروي عن ثوبان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله) قال أبو قِلابة: وبدأ بالعيال [ثم] قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
وقيل: المراد صدقة التطوع - روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوع.
وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة، لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي: يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعنّ في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
بين القلب والبدن والمال:
وقيل: الإيمان بالغيب: حظ القلب، وإقام الصلاة: حظ البدن، ومما رزقناهم ينفقون: حظ المال.
وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) أي: مما علّمناهم يعلّمون، حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القُشيري.
وذكر ابن عجيبة الحسني رضى الله عنه أن هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال؛ الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً:
فَلا تَرْضَ بغَيْرِ الله حِبّــــــاً وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَـــاقِ
تَرَ الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيــــانٍ وتَحْظَ بالوصُولِ وبالتَّلاَقِــي
وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها: إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها.
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله تبارك وتعالى: (يا ابنَ آدم أَنفِقْ؛ أُنفِقْ عليك) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنُها مِنْ ظَاهِرهَا) قيل: لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال:(لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ،وأفْشَى السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام) وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عزّ وجلّ ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين) وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء) وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ ).
الله بيّنَ لنا ما اشتاقت إليه أرواحُنا:
وفي هذا السياق يبين الإمام أبو العزائم أن الأرواح لما سمعت قول الله تعالى: (فيه هدى للمتقين)؛ اشتاقت إلى أن يبين الله تعالى لها خصال المتقين من عقيدة وأعمال وأحوال ومعاملات وأخلاق - والله أعلم بمراد عباده وبما به نيل كمالهم - فبيَّن الله لنا ما اشتاقت إليه أرواحنا.
والإيمان هو تصديق المتكلم فيما يخبر عنه تصديقًا يقتضى لذاته المسارعة إلى عمل ما يأمر به من الخير، ويحث على التباعد عما ينهي عنه من أنواع الشرور، وفوق الإيمان علم، وفوق العلم ذوق، وفوق الذوق شهود به طمأنينة القلب، قال سبحانه لخليله عليه السلام: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ("البقرة:260".
تحذير من المجازفة بالتكفير:
وفي سياق تفسيره رضى الله عنه لهذه الآية الشريفة يعالج مرضا خطيرا من أمراض بعض المنتسبين إلى العلم؛ فيبيِّن أنه قد التبس على كثير من أهل العلم هذا الموضوع حتى وقعوا فيما حظر الله عليهم، فصار بعضهم يكفِّر بعضًا لجهلهم بحقيقة العلم والإيمان، وما كان لمسلم أن يكفِّر مسلمًا إلا إذا خرج مما دخل به - وهو الإقرار بالشهادتين، واعتقاد وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج - ومتى كان المسلم مجملاً بهذه الحقائق فهو مؤمن، لا يكفر بخطيئة يعملها، ولا بترك سنة سهوًا أو نسيانًا أو غفلة، ولا بفهم حكم من أحكام الشريعة يخالف فيه غيره من نظرائه، ما لم يجحد معلومًا من الدين بالضرورة.
الفرق بين العلم والإيمان:
ويحرص رضى الله عنه في هذا الموطن على تعريف العلم والإيمان، ليتميز المؤمن والعالم، وليرتدع الذين يحكمون على أهل الإيمان بالكفر، ويصِّرح بأن ذلك حكم بِكُفْر من كَفَّر من ليس بكافر عند الله تعالى؛ وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وعند العلماء الراسخين في العلم، ونحن لا نزال نرى في بعض كتب العلم؛ الحكم بكفر بعض طوائف من المؤمنين لمخالفتهم في رأي؛ أو فهم؛ أو عقيدة.
فالمعلوم لا يكون علمًا للنفس إلا إذا تصورت رسومه، وعلى هذا فإن العلم: تصور النفس رسوم المعلوم في ذاتها، وشتان بين هذا وبين الإيمان الذي هو تصديق المخبر في خبره من غير أن تتصور النفس رسوم المعلوم في ذاتها، وبين العلم والإيمان فرق عظيم جدًا عند العلماء الربانيين.
وأما الإيمان: تصديق المخبر فيما أخبر به، فإذا ارتاض ونظر بعين المتدبر المفكر اشتاق إلى العلم، فحصّل العلم النافع الذي يكسب القلوب خشية من الله تعالى؛ لأنه يتمثل صورة المعلوم على جوهر نفسه، فيكون كأنه يرى المعلوم رؤية تأثير على النفس والجسم والحس، تحفظ الجوارح من تعدى حدود الله، وتحفظ الجسم من الوقوع فيما حرم الله، وتحفظ العقل من التخبط في بيداء الحظ والهوى.
وإذن؛ لابد من الإيمان قبل العلم؛ وإلا عاش الإنسان جاهلاً؛ لأن أخبار الرسل – عليهم الصلاة والسلام - عن الله تعالى بما يجب على الناس أن يصدقوا به من معاني الكمالات الإلهية وتنزيه ذاته عز وجل، وما وصف به نفسه سبحانه وتعالى؛ لا تدركه الأرواح فضلاً عن العقول؛ لأن النفوس لا يمكنها أن تتصور رسومه أو تبين معانيه قبل التصديق الذي هو الإيمان؛ والإقرار الذي هو حجة على التصديق، بل وقبل مجاهدة النفس لتزكيتها وتطهيرها من كثافة الجهل، وظلمات العقائد الباطلة والآراء الفاسدة والحظوظ والأهواء.
فالإيمان: هو الإقرار والتصديق دون تصور رسوم المعلوم في ذات النفس، وبذلك يظهر الفرق بين العلم والإيمان، ولذلك دعا الأنبياءُ عليهم السلام أممهم إلى الإقرار والتصديق أولاً، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية، بدليل قول الله عز وجل: (الذين يؤمنون بالغيب)، ولم يقل سبحانه: يؤمنون بالشهود؛ ثم حثهم على طلب العلم بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) "الحشر:2".
ثم مدح فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) "المجادلة:11". وقال تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ) "الروم:56"، وكفى بهذا فرقًا بين العلم والإيمان .
فالتصديق سابق على الخبر كما قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) "البقرة:285".
وإنما اختلف أهل التأويل بسبب العلماء الذين لم يحصلوا العلم النافع، الذي يجعل النفس تتصور رسوم المعلوم؛ فيكسبها الخشية من الله تعالى، فحكموا على المقلد بالكفر، ثم اختلفوا فقام بعضهم يكفِّر بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، وصار تكفير المسلم عندهم كتحية بعضهم بعضًا، فإنا نسمع عن بعض العلماء أنه يحكم بالكفر على من خالف سنة، وذلك كله من الجهل بحقيقة الإسلام، مع أن الله تعالى قد أثنى على الذين يؤمنون بالغيب، ورفع درجاتهم عنده.
ثم بيّن الإمام أن أنواع الناس في العلم والإيمان ثلاثة:
1- نوع رزق العلم ولم يرزق الإيمان: وهم المسارعون لتحصيل حطام الدنيا من يد أهلها بما أوتوا من علم الأحكام والاختلافات وعلم اللسان، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
2- ونوع رزق الإيمان ولم يرزق العلم: وهؤلاء إذا ماتوا على الاستقامة كانوا ممن مدحهم الله تعالى.
3- ونوع رزق الإيمان والعلم معًا: وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله تعالى: (َقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ) "الروم:56" وقوله سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) "المجادلة:11" وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) "الزمر:9" ونيل الخير كله متوقف على الإيمان أولاً، ثم على السعي لتحصيل العلم النافع بالبصيرة النافذة والفكر الثاقب.
من حِكْمَةِ الأعمالِ في الصلاة وأسرارِ إقامتها:
وأما في قول الله تعالى: "ويقيمون الصلاة" فيبيِّن رضى الله عنه أن الصلاة لغة: الدعاء، واصطلاحًا: هي أقوال باللسان وأعمال بالجوارح، وأن الصلاة عماد الدين، وشكر بجميع الجوارح لرب العالمين، ومناجاته تعالى بكلامه العزيز، بها يتجمل العبد بأجمل حلله التي بها يجمله ربه ويحبه ويقبل عليه.
وإقامة الصلاة هي خشوع القلب فيها خشوعًا تخشع به الجوارح لمواجهة القلب لمقلِّبِه في الصلاة، واستدل الإمام على ذلك بالحديث القدسي بسند الإمام أبى طالب المكيرضى الله عنه ؛ قال الله تعالى في الكتب السالفة: (ليس كل مصل أتقبل صلاته، إنما أتقبل صلاة من تواضع لعظمتي، ولم يتكبر علىَّ، وأطعم الفقير الجائع لوجهي) وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه).
ثم يبين رضى الله عنه بعض حِكم الصلاة وأن الله جمع لنا فيها عبادة جميع الأنواع من عمار سماواته إلى رتبة الجماد.
فقيامنا فيها: كقيام الحافين حول العرش؛ المسبحين المهللين المكبرين.
وركوعنا: تنزل إلى مرتبة الحيوانات؛ إظهارًا لكمال الذل لله تعالى في حال القيام له بما فرض علينا.
والسجود: تنزل إلى رتبة النباتات؛ لنلصق وجوهنا بالتراب ذكرى لنشأتنا الأولى التي هي من التراب، وشهودًا لما جمَّلنا الله به من الحياة والحس والحركة والعقل والروح؛ فنذكر ونشكر.
والجلوس للتشهد: كالجبال تنزل إلى رتبة الجماد؛ لنشهد ما يتفضل الله به علينا بتسخير جميع مخلوقاته لنا.
وحركة الرأس إلى اليمين والشمال: تمثل حركة الكواكب السيارة الدائرة حول محورها خشوعًا لعظمة العظيم الأكبر جل جلاله؛ وهو الشكر الذي يطيقه العبد المؤمن، فتارك الصلاة في منزلة أهل الجحود، لأنه ترك الشكر لله على ما لا يحصى من النعم.
ومن إقامة الصلاة رعاية أن المصلي واقف بين يدي الله، يراه الله عاملاً بمحابه ومراضيه، وهو قد تبلغ به الجذبة التي يتمثل بها أنه يرى ربه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) "أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما".
وهذه هي الإقامة، وفيها مشهد أعلى من هذا؛ وهو أن يشهد المصلى أنه عبد أقامه القيوم الموفق في مقام مواجهته على بساط الأنس، يتملق أمام ربه، متذللاً خاشعًا آنسًا بما يجلي له من سطوع أنوار معاني ما يتلوه، وظهور أسرار حكمة ما يعمل، فيكون في موقفه عبدًا بين يدي الله، يعمل عملاً يحبه الله، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)"رواه أحمد وغيره".
يقول الإمام نظما في إحدى قصائده:
أقيم صلاتي إن تجردتُ عن نفسي فأفنى بها عنِّي بمشهده القدسي
إلى أن يقول:
فجسمي يصلي بالخشوع لربــــــه ورُوحي تصلي بالشهود بلا لبس
عليّ يصلي في صلاتي لأننـــــــي تشبهتُ بالمختار بالجسم والنفس
أطعتُ رسولَ اللهِ حُبًّا لذاتــــــــه فأشرف بي ربي على حضرة القدس
وأشهَدَنِي ملكوتَه وجمالَـــــــــــه فأشرق في قلبي ضياءٌ من الشمـس
أما ما يتعلق بالصلاة من وسائلها وأركانها وآدابها فقد فصله الإمام في كتابه: "أصول الوصول" فليراجعه من أراد القيام بتحصيل الواجب عليه.
هل ما يتحصل عليه الإنسان من غير وجه شرعي يسمى رزقا؟:
سؤال قد يتبادر إلى الذهن عند تلاوة قول الله تعالى:)وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ( وهو:هل ما يتحصل عليه الإنسان من غير وجه شرعي يسمى رزقا؟.
ويجيب الإمام على هذا التساؤل مبينا أن الرزق هو كل ما يباح للإنسان أن يتصرف فيه للانتفاع به شرعًا؛ وما لا يباح له أن يتصرف فيه شرعًا - من المغصوب أو المسروق أو ما يؤخذ من الناس بالخديعة - ليس رزقًا شرعيًا يقبل الله قربة من تقرب به في وجوه البر، وإن كان في الحقيقة رزقًا للعبد المتصرف، وعلى هذا نجمع بين قول المعتزلة وغيرهم في أن الحرام ليس رزقًا، يعنى: ليس بالرزق الذي يؤجر عليه منفقه في وجوه الخير، وإن كان رزقًا للعبد يأثم على نسبته إلى نفسه وتصريفه فيه.
فالرزق شرعًا هو ما كان من حلال طيب؛ لأن الله تعالى لا يمدح منفقًا من حرام، وذكر الرزق هنا لا لأنه لا رزق إلا ما كان حلالاً طيبًا، ولكنه ذكر أشرف الرزق وأعلاه في مقام التقرب إلى الله تعالى لإنفاقه، وأما ما يتصرف فيه الإنسان من غير الحلال الطيب فهو رزق إلا أنه حرام، لا يقبله الله تعالى.
في بيان النفقة وأنواعها:
ويبين رضى الله عنه أن النفقة قد تكون فرضًا: كالزكاة والقيام بواجب الزوجة والأولاد والوالدين وفروعهما مما تقتضى الشريعة على المنفق بذل ما في الوسع لهم.
وقد تكون ندبًا: كإكرام الضيف والجار والسائل ومن في منزلتهم.
وقد تكون فضلاً: كالمواساة ومساعدة المنكوبين والمداراة عن العرض.
وقد تكون النفقة حرامًا: كالتقرب بالمال، وعمل الولائم والهدايا للظلمة أو لوسائلهم ليستعين بهم على نيل جاه أو منصب أو مال من الغير؛ أو للانتقام من عدو، أو للظهور بين الناس بالباطل؛ كما قال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ "البقرة:188".
وقوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يدل بصراحة على أن المؤمن واجب عليه أن ينفق من كل نوع من الأنواع التي تفضل الله تعالى بها عليه؛ من العافية، والعلم، والجاه، والعصبة، والمنصب، والحكمة، والصناعات، والفنون، فإن كل ذلك رزق من رزق الله تعالى للعبد، والله وعد المنفق من الحلال الطيب في الوجوه الشرعية بعشرة أمثال ما ينفق وبسبعمائة وبأضعاف ذلك، والله ذو الفضل العظيم.