(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) "البقرة:17" وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ) "البقرة:19" قالوا: الله أجلُّ وأعلى من أن يَضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية، وعنه أيضا: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) "الحج:73" وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت؛ قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد؛ أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) أي: أن المثل حق، والحق خلاف الباطل، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً) أي: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام.
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) قيل: هو من قول الكافرين، أي: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى، وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، فالمعنى: قل: يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي: يوفق ويخذل، ومعناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم.
(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم، والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) "السجدة:10"، والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، والفاسق: هو الخارج من الهدى إلى الضلال.
من إشارات الآية الكريمة:
الله تعالى يظهر قدرته وعجائب حكمته، ليظهر سر ربوبيتيه في ما شاء من المظاهر، وقد أورد ابن عجيبة رضي الله عنه أنه قيل لأبي الحسن النُّورِي: ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة؟ فقال: عز ظاهر وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به، وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها. هـ.
فأراد الله بظهور هذا الكون أن يضل به قوماً فيقفون مع ظاهر غرَّتِه، ويهدي به قوماً فينفذون إلى باطن عبرته، وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود، المنكرين لتجليات الملك المعبود، الذين ينقضون عهد الله، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهي في عالم الذر، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الشيوخ العارفين، الذين أَهَّلَهُمَ الله للتربية والترقية، وهم لا ينقطعون ما دامت المِلَّةُ المحمدية، ويفسدون في الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص، بتضييعهم الأصولَ، وهي صحبة العارفين، والتأدب لهم، والتعظيم لحرمتهم، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
من حِكَم وأسرار ضرب المثل بالبعوضة:
ذكر الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في تفسيره لهذه الآية أن الاستحياء: هو انفعال نفساني يحصل به اضطراب القلب من وقوع ما لا يرضاه من نفسه، أو من طلب إحداث ما يكره أن يراه الناس عليه، هذه بداية الاستحياء، أما نهايته: فهي ترك وقوع هذا العمل، وتنزه الله تعالى عما لا يليق بجلاله؛ فكأنه سبحانه يقول: إن كمالي الذاتي من شأنه أني لا أفعل إلا ما هو كمال أو جمال أو جلال، وللعقل هنا جولة، ونهاية حكم العقل: أن المراد بالحياء هنا أن الله تعالى لا يقول ولا يعمل إلا ما هو كمال لا يستحي منه.
ويبين الإمام حكمة ضرب المثل بالبعوضة؛ فالبعوضة هي أصغر الحيوانات حكمًا، وأقواها تأثيرًا، أو في ذكرها إشارة إلى أن بعض البعوض لا يرى إلا بالمجهر، نظرًا لصغر جسمها، ومع ذلك فإن لها عينين وأذنين، وأرجلاً وأيادي، وأعضاء باطنة مما هو لأكبر الحيوانات، فسبحان من لا يعلم قدره غيره.
وهناك سر أغمض من هذا وهو: أن تلك البعوضة الحقيرة لها خرطوم كخرطوم الفيل، ينفذ في جلد الفيلة والكَرْكَدَّن – دابة تحمل الفيل على قرنها - التي تمنع الحديد أن ينفذ فيها إذا طُعنت به، وبعض البعوض يقتل الفيلة بخرطومه الذي لا يراه الإنسان إلا بالمجهر، قال صلى الله عليه وآله وسلم : (الطاعون وخز إخوانكم الجن) "شرح الزرقانى بلفظ: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن" فسمى هذا البعوض: "الجن"؛ لأن العين المجردة لا تراه، والجن: هو ما اختفى عن النظر.
وهناك سر آخر: وهو أن كل البعوض يمتص دم الحيوانات، أو ينزل على القاذورات والعفونات، فيمتص حتى يمتلئ وينقلب ميتًا، كأهل الطمع في الدنيا.
وفوق ذلك سر، وهو أن البعوض ينزل على العذرة فيحملها، وينزل على وجوه المتكبرين، ليريهم كذبهم وحقارتهم، وكأن الله تعالى يقول: إن البعوض مع خسته وحقارته يعلو وجوه أهل الكبر ولا يعتبرون.
والبعوضة: مأخوذة من البعض، وهو الشئ الصغير، وقوله: (فَمَا فَوْقَهَا) فيه اكتفاء بذكر ما فوقها عن ذكر ما دُونها، وهو ملحوظ في المعنى، ولك أن تقول: ما فوقها من القلة، أو من الضخامة.
العلماء قسمان:
الأسرار التي هي فوق العقول لا يمكن أن يتذوق حلاوتها إلا من اصطفاهم الله، وصبغهم بصبغة القبول، ولونهم بلون عالم الأرواح ، قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) "البقرة:138".
وقد تأول بعض من لم تنكشف لهم مشاهد التوحيد العلية أن قوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من مقول الكفار، خوفًا من نسبة الإضلال إلى الله تعالى، وهنا وضع الإمام المجدِّد نبراسًا تنكشف به كل الحقائق التي وردت في القرآن وتنزعج منه العقول الكليلة فالعلماء - كما ذكر - قسمان:
1 - قسم وقع به العلم على عين اليقين، حتى باشر اليقين الحق قلوبهم، وهم الذين عملوا بما علموا فعلمهم الله ما لم يكونوا يعلمون، بل هم الذين وهب لهم العقل الذي يعقل عن الله سر العلم المقدس على لسان العارف الرباني، فسمعوا، فاقشعرت جلودهم بما سمعوا مما أنزل الله تعالى، ثم لانت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله كما قال سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) "الزمر:23".
2 - والقسم الثاني هم بعض المنتسبين إلى العلم الذين يتأولون كلام الله تعالى تأويلاً يناسب عقولهم، فوضعوا أنفسهم موضع الخائف على الله تعالى من أن يلحقه نقص إذا سلموا له كلامه تسليمًا.
أهل المعرفة:
أما أهل المعرفة الذي كاشفهم الله تعالى بباطن القرآن: فهم ورثة الصحابة والتابعين، وهم الذين منحهم الله الخشية منه بما علمهم، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) "فاطر:28"، وهؤلاء هم الذين يسلِّمون بظاهر القرآن، ويسلمون لله تعالى في كلامه تسليمًا؛ لا يشوبه انزعاج من أي عبارة كانت.
ميَّز الله بالقرآن الكريم بين مراتب النفوس:
والقرآن الكريم كالبرزخ الذي ميز الله به بين مراتب النفوس، فمن قبِلَه وثابر على العمل به دل على أن نفسه ملكوتية، تقبل عن الله تعالى ما نزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أما من أبَى أن يقبل، وأعرض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاند وحارب فقد أقام الحجة على نفسه أنها نفس إبليسية، من سجين البعد والقطيعة.
فمعنى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) – على رأي العلماء - يرُدُّ به عن الجنة، أو عن الدين، أو عن الإيمان كثيرًا؛ لأنهم لم يقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء به من عند الله تعالى.
وإن كان الإضلال نُسب عمله إلى أنواع كثيرة؛ فقد نسب مرة إلى إبليس كما في قوله تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) "النساء:60" وثانية إلى بعض الأناسي كما في قول سبحانه: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) الأحزاب:67" وأخرى إلى فرعون حيث يقول جل شأنه: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) "طه:79"، ورابعة إلى موسى السامري؛ يقول سبحانه: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) "طه:85" والإضلال في تلك الأخبار يراد به: الحجب عن قبول الهدى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والواجب علينا أن نؤمن بكل ما جاء به القرآن، وأن نعمل بما فهمناه، وأن نكل ما لم نفهم إلى الله تعالى، متوجهين بقلوبنا وقوالبنا إليه سبحانه أن يعلِّمَنا ما جَهِلنا، وأن ينفعَنا بما عَلَّمنا.
والله تعالى لا يضل بالقرآن إلا الفاسقين، الذين دعاهم إلى السعادتين – سعادتي الدنيا والآخرة – على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأبوا أن يصدقوه، وصدوا عن سبيل الله، ولكن الله تعالى آوى حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم وأيَّدَه ونصَرَه.