(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد، واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك: ترك العمل به.
وقيل: بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم: ترك النظر في ذلك.
وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكتموا أمره، فالآية على هذا في أهل الكتاب.
وقال القرطبي في هذا السياق: وظاهر ما قبل وما بعد؛ يدل على أنها في الكفار.
(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) القطع معروف، واختُلف: ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام، وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا، وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم، وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) أي: يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
(أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران: النقصان كان في ميزان أو غيره.
وفي هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى مَن نقض عهده.
هنا تحلو الإشارة فخذ بها إن شئت:
ويبيِّن الإمام أبو العزائم في تفسيره لهذه الآية أن العهد المنسوب إلى الله تعالى هو عهد بما أجلاه الله لنا من دلائل القدرة، وعجائب الحكمة، وساطع البرهان، وما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما تضمنه القرآن المجيد وبينه لنا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان المراد بالعهد الحجة الواضحة للعقول الدالة على تفريده بالألوهية وتحقيقنا بالعبودية؛ كان عهدًا للعقول السليمة من دنس الحظ ونجاسة الهوى، وكفى به عهدًا لأهل البصائر، فخذ بالإشارة لتعقل عن الله ما أشهده أولياءه الصادقين:
إن الله تعالى قبل أن يخلق الأفلاك، أراد- وكانت إرادته - أن يجعل خليفة له في الأرض، وعلمه جل جلاله محيط بالحقائق قبل إيجادها، والحقائق كلها في حضرة هذا العلم العليّ، لا تختلف في علمه العليّ حقيقة ما.
وقد نفذت حضرة القدرة ما سبق في الإرادة، مما أحاط به علمه، أن يوجِد الذرية الآدمية، ثم يتجلى جل جلاله بنور وجهه العليّ؛ فيُشهِد كل تلك الذرية هذه الأنوار، فيخاطبهم مخاطبة من يأخذ لنفسه العهد علينا، فيقول سبحانه: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) "الأعراف:172" والمشهد جليّ، والقول بيِّن، والحقائق خاشعة، فاقتضت تلك الحقائق كلها أن نقول: (بَلَى)، أي: أنت ربنا ونحن عبيدك.
ولما سبق في حضرة العلم الإلهيّ من أن الإنسان يكون مكونًا من حقيقة جسمانية - هي الهيكل الإنساني - ومن لطيفة روحانية – هي الروح - وكلاهما متضادان، فالهيكل من السفل وينحط إليه – خلقًا وعادة وميولاً - والروح من العلو، وتصعد إليه، ولما كان الإنسان – ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم – يميل بكليته إلى ما يلائم الجسم، قدَّر سبحانه وتعالى أن يقيم الحجة لنفسه علينا، فقال تعالى: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) "الأعراف:172-173"
وتلك الآية الشريفة تقيم الحجة على أن كل إنسان موهوب له قوة عقلية يمكنه أن يصل بها إلى الحق، فإذا أهمل تلك القوة وقلد والديه أو إخوانه لم تكن له حجة على الله تعالى، لأن الله عاهده معاهدة معاملة بينه وبين عبيده، وأشهدهم جماله، وأسمعهم نص عهده بكلامه المقدس، الذي منحهم قوة منه يعقلون بها كلامه، هذا عهد الله جل جلاله.
وهناك عهد آخر – هو لله أيضًا - بنص قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) "الفتح:10" وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسلفنا الصالح، الذين بقبولهم له: وجب علينا أن نقبله بصفتنا مسلمين.
وهناك عهد ثالث – هو أيضًا لله سبحانه وتعالى – وهو ما أجلاه الله للعقول الكاملة من بدائع إبداع صنعه، ومن لطائف لطفه، ومن تجليات أسمائه، وشروق شمس صفاته، ذلك عهد عند أهل العقل الذي يعقل عن الله تعالى، ناطق بلسان الحال، وإن لم ينطق بلسان المقال، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) "آل عمران:190".
ومزيد كشف أسرار ذلك يتأتى بسر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن عَمِل بما عَلِم ورَّثه اللهُ علمَ ما لم يعلم) "أبو نعيم"، وما أحلى العلم الذي يلهمه الله أولياءه ويكاشفهم به من غير تعليم، فيمنحهم المشاهد القدسية، والمواجهات الربانية، والسياحات الروحانية، التي تنفذ من أقطار السموات والأرض باليقين الحق.
ويسأل الإمامُ المجدِّد القارئَ بقوله: هل من ساح في الطين والمباني، كمن ساحت روحه الربانية في الملكوت، فشاهدت المعاني؟! لا يستويان، فقوله تعالى: (مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) يعني: من بعد توكيده، وإقرارهم بالقبول والعزم على أن لا ينسوا هذا العهد.
كفى المخالف شرا أنه استهان بربه سبحانه:
والله تعالى أمر ببر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، وبنصرة المظلوم، أمر بالتعاون على البر والتقوي، وأمر بصلة الأتقياء والعلماء العاملين، بل أمر بكل خير ونهى عن كل شر، ولكن من الناس من يستبدلون الخير بالشر، وينأون عن الخير إلى الشر، فتحقق فيهم قوله تعالى: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ).
وفعل المنكرات وترك عمل المأمورات كأنه قطيعة، لأنه فصل العامل عن نيل رضوان الله، وأبعده في الحقيقة عن القرب من الله تعالى، والمخالفة دليل على الاستهانة بالآمر، وكفى المخالف شرًّا أنه استهان بربه سبحانه.
الله تعالى سيسلب الملك من المفسدين في الأرض:
أما الإفساد في الأرض فهو خاص بالمعاملات والأخلاق، وقد ترك المسلمون حسن المعاملة وفضائل الأخلاق الإسلامية فأصابهم ما أصابهم من تسلط أعدائهم عليهم، لكن الله تعالى بفضله سيحيي موات هذه الأمة، فيعود إليها سالف مجدها الذي فقدته، وسيسلط قريبًا على المفسدين في الأرض من دول الإفرنج ما يسلب منهم الملك، ويزيل منهم القوة، فيصبحون أذل خلقه، فإنه سبحانه يقول: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) "يونس:24".
المسارعون إلى تفتيت الأمة يشملهم معنى هذه الآية:
وقد ندد الإمام المجدد في سياق تفسيره لهذه الآية بمن يسكتون على استبداد المتسلطين، بل عن أنهار الدماء التي تراق من الأمم الإسلامية الضعيفة بأيدي المستعمرين الظلمة، ويسارعون إلى تقطيع أوصال الأمة الإسلامية لتكون شيعا وأحزابا، كالذين سارعوا إلى تفتيت الأمة بالقضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت رمزا لوحدة المسلمين، فأعانوا بذلك أعداء الأمة الخارجيين على الأمة، واعتبر الإمام أن أمثال هؤلاء يصلون مَن أمر الله بقطعهم، ويقطعون مَن أمر الله بصلتهم.
الدعوة لعودة المجد الإسلامي تحتاج إلى حكمة:
ويؤكد الإمام المجدد أن الدعوة إلى قيام المسلمين بواجبهم لعودة المجد الإسلامي الذي فقدته الأمة تحتاج إلى حكمة وبصيرة نافذة، حتى لا يتسبب ذلك في مزيد تفرق الأمة وتمكين أعدائها منها، فالله تعالى يقول لموسى وهارون –عليهما السلام : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) "طه:43-44" وهذا موسى - كليم الله - وفرعون - المدعى الألوهية من دون الله - فما بال بعض من يدَّعون العلم يلعن بعضهم بعضا ويسبون المسلمين ويؤذونهم ويمكنون منهم أعداءهم؟!، أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين من الفتن المضلة ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله تعالى أن يكرم الأمة الإسلامية برجال يحبهم ويحبونه، من الذين أثنى عليهم بقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) "المائدة:54"، وعلينا أن نسعى إلى تغيير ما ألمَّ بنا مما لا يرضاه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليغير الله تعالى ما بنا، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) "الرعد:11.
اللهم أعنا على إعداد العدة، ومكن لنا في الأرض بالحق، ومكن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا كما وعدتنا، وأغثنا من تسليط من سلبت من قلوبهم الرأفة والرحمة وخوف الحساب.
وتلك الآية الشريفة بشرى لنا - جماعة المسلمين - تجعل قلوبنا تطمئن بنيل الخير من الله عاجلاً وآجلاً، وتوقظ القلوب الغافلة عن يوم القيامة، فتجعل العاق لوالديه يبرهما ويتوب إلى الله، وتجعل القاطع لرحمه يتدارك الأمر فيصل رحمه، وتجعل الظالم أو الغاش أو الكاذب أو المعتدى على غيره يرجع إلى ما يحبه الله ويرضاه، ويتوب إليه سبحانه.