فقد أُنزل القرآن الكريم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر ثلاث وعشرين سنة منَجَّماً - أي: مفرَّقاً، والعرب تقول للمفرَّق: منَجَّماً - حسب الوقائع والأحداث، يوجه ويربي، يحدد المعالم، ويضع الأحكام والحدود، ويقص القصص، وقد تدرج بالمسلمين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معارج الكمال حتى زكت نفوسهم، وطهرت جوارحهم، وأضاءت قلوبهم، وأخرجهم الله تعالى به من الظلمات إلى النور، ولا يزال ذلك دأب القرآن الكريم، يصنع رجاله، ويبدع أهله، وهم أهل الله وخاصته في كل عصر وجيل.
وأما لماذا نزل القرآن منجما، فقد تولى اللهُ جوابَ ذلك؛ قال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) "الفرقان:32".
أسرار كلام الله لا نهاية لها:
التفسير في اللغة: الاستبانة، والكشف، والإيضاح.
وفي الاصطلاح: علم يبُحث فيه عن معاني ألفاظ القرآن وخصائصه، فالنظر في القرآن الكريم من حيث كونه كلاما له دلالة ومعنى، ولله تعالى فيه هدف وقصد، ومن أجل بيان هذه الدلالة، وشرح المعنى، وإيضاح القصد، والإِفصاح عن الهدف، نشأ "علم التفسير" الذي تكفل بتلك الغايات.
والتفسير مهما بلغ شأنه لا يحيط بأسرار القرآن الكريم، فعن الإمام الغزالي في الإحياء: أنه إنما ينكشف للراسخين في العلم من أسرار القرآن الكريم بقدر غزارة علومهم، وصفاء قلوبهم، وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه، فأما الاستيفاء - أي: استيفاء معاني كلام الله سبحانه - فلا مطمع فيه ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً، فأسرار كلمات الله لا نهاية لها، فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل، فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير...
يقول الله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) "آل عمران:7". ويقول سبحانه: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) "الكهف:109".
(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ):
وقد خاطب الله تعالى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ) بالقرآن (لسانَكَ لِتعجَلَ به)، قيل: كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل.
لماذا؟: قيل: كراهة أن يتفلّت منه.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) "القيامة:16". وعن عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه.
ثم ضَمِنَه له بقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك، (وَقُرْآنَهُ) "القيامة:17"؛ وإثبات قراءته في لسانك، فالمراد بالقرآن هنا: القراءة، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) على لسان جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) "القيامة:18" أي: قراءته.
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) "القيامة:19" أي: تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام، وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما، وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك، ثم إن علينا توضيح ما أشكل فهمه من معانيه وأحكامه.
وفي إشارة لابن عجيبة: لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك، إنَّ علينا جمعه وقرآنه، أي: حفظه وقراءته، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه، ثم إنَّ علينا بيانه.
ثم ينتقل ابن عجيبة في إشارته إلى بيان حال من ورث الفيض الإلهي من معاني كتاب الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيبين أن الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً، لا يُقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى، واضحةَ المبنى، لا نقص فيها ولا خلل، لأنها من وحي الإلهام.
وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه: إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول: هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار، إلى غير ذلك، والله تعالى أعلم.
الإشارة لا تبطل ظاهر القرآن الكريم:
وهنا نقول: إن الإشارة لا تبطل ظاهر القرآن الكريم، ولذلك ورد عن الإمام الغزالي أنه كان يفسر: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) بقوله: "من يريد إدراك الوحدانية الحقيقية يجب عليه أن يطرح عن نفسه التفكير في الحياتين الدنيا والأخرى، - أي أن يُقبل على الله دون غرض وكل ما يفكر فيه هو رضا الله ومحبته -".
ويعقب الغزالي على ذلك بقوله: "لا تظن من هذا الأنموذج وطريق ضرب الأمثال رخصة مني في رفع الظواهر، واعتقادا في إبطالها، حتى أقول مثلا: لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) "طه:12"، حاشَ لله،...
إلى أن يقول: بل أقول: موسى فهم من الأمر بخلع النعلين: إطراح الكونين، فامتثل الأمر ظاهرا: بخلع النعلين، وباطنا: بخلع العَالَمَيْن".
ومن الصوفية من يستأنس بكلام الله ويضرب المثل بمعاني كتابه سبحانه، كمن يتحدث عن النحل في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) "النحل:68-69"؛ بأن ما وصفها الله به يشبه ما يمكن أن يقال عن الأولياء الذين "يسكنون الجبال"؛ أي: يترفعون عن سفاسف الأمور ويطلبون معاليها، ويسلكون "سَبُلَ رَبهم" أي: سبل الهداية والمعرفة، ثم بعد سلوكهم يخرج الله من قلوبهم (شَرَاب) الحكمة والمعرفة مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ على اختلاف أفهام سامعيهم، وفيه شفاء لقلوب الناس "من الشك والكفر والآفات النفسية والقلبية التي تعترض سلوكهم إلى ربهم".
أو كما أشار البسطامي رضي الله عنه، حين سئل عن المعرفة فتلا قوله تعالى: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) "النمل:34"، أراد بذلك أنه كذلك المعرفة إذا دخلت القلب لا تترك فيه سخطا ولا شكا ولا حظا للنفس إلا أذلته وأحرقته.
وكذلك ما أشار به الجنيد رضي الله عنه عندما سُئل عن سكونه عند السماع فتلا قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) "النمل:88".
وعلى هذا يمكن أن نفهم قول بعض العلماء أن كلام الصوفية في القرآن ليس بتفسير، فيقصدون به أنه من هذا القبيل: فتوح، وإشارات، وتمثّل.
من الفهم بالإشارة ما يصح أن نقول فيه إنه تفسير:
مثال ذلك ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدخِل ابنَ عباس مع أشياخ بدر، فكأن بعضَهم وَجَد في نفسه "غَضِبَ في نفسه"، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ؟، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نَصَرنا وفتَح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟، فقلت: لا، فقال: ما تقول؟، فقلت: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) "سورة النصر"، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول".
الصوفية لا يدَّعون أن إشاراتهم تفسيراً:
وإضافة إلى ما ذُكر، نذكر ما نقل عن رأي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور صاحب تفسير "التحرير والتنوير" جاء في مقدمته:
أما ما تكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معانٍ لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه؛ فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسيراً للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثّل بها في الغرض المتكلّم فيه، وحسبهم في ذلك أنهم سَمَّوْهَا إشارات ولم يُسَمُّوهَا معاني...
ثم استشهد ابن عاشور برأي الغزالي في الإحياء عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلُ الملائكةُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ) "الطبرانى"؛ فهذا إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب، فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونورُ اللهِ يقذفه في القلب بواسطة الملائكة، فقلبٌ كهذا لا يُقذف فيه النور.
وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت: القلب؛ وبالكلب: الصفة المذمومة؛ ولكن أقول: هو تنبيه عليه، وفرق كبير بين تغيير الظاهر، وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر". أ هـ.